"تعبنا من اللاعدالة… وحان الوقت لتتحوّل ثروتنا الوطنية من كنوز مخبّأة إلى حق شرعي يعود على كل مواطن"؛ بهذه الكلمات يستهلّ المزارع أبو علي شريف*، حديثه إلى رصيف22، عادّاً أنّه يقف اليوم أمام منعطف حاسم في حياته وحياة مئات مزارعي القنّب، مؤكداً أنّ هذه الزراعة لم تعد بالنسبة له ترفاً ولا خياراً ثانوياً، بل هي مصدر رزق أساسي يعيل به عائلته، ومتنفّس وحيد بعد أن خسرت الأرض معظم قدرتها على إنتاج محاصيل تقليدية، على حدّ قوله.
تختصر كلمات شريف، مطلباً أساسياً لمزارعي البقاع، الذين يرون في تشريع زراعة القنّب الهندي فرصةً حقيقيةً لهم للانتقال من واقع الخسائر واللاعدالة إلى إطار قانوني يضمن لهم مورداً شرعياً. ففي عام 2020، صادق البرلمان اللبناني على قانون تشريع القنّب، غير أنّ الحكومات المتعاقبة عجزت عن تطبيقه وبقيت الهيئة الناظمة حبراً على ورق. اليوم، في ظل حكومة نواف سلام، أُعيد تفعيل هذا المسار عبر تشكيل الهيئة الناظمة، في خطوة يُراد منها إخراج القطاع من دائرة الزراعة غير الشرعية ووضعه ضمن إطار قانوني مستدام.
تشكيل الهيئة الناظمة خطوة طال انتظارها، إلا أنها تبقى غير كافية ما لم تُترجم إلى إجراءات جدّية تضمن عدالة الأسعار وحماية المزارع، ويظلّ المطلب الأساسي الآن تشريعاً كاملاً يكرّس زراعة القنّب كمورد شرعي وحقيقي للعيش بكرامة
تشكيل الهيئة الناظمة… مطلب قديم يتحقّق
يقول شريف، إنّ إنشاء الهيئة الناظمة "كان مطلباً أساسياً منذ سنوات"، عادّاً أنها فرصة تاريخية لإنصاف المزارع في منطقة لم تعد تنجح فيها معظم الزراعات التقليدية. ويضيف: "أكثر من 90% من المزارعين يؤيدون القرار الجديد، لأنه يمنحهم فرصة العيش بكرامة. هذه النبتة هي الوحيدة تقريباً التي تضمن مردوداً جيداً، فيما غالبية الزراعات الأخرى صارت خاسرةً".
ويؤكد المزارع اللبناني أنّ تشريع القنّب يُنهي حالة القلق التي كان يعيشها أي مزارع، من لحظة الزراعة وحتى البيع، إذ لم يكن يعرف مصير محصوله. وبرأيه، هناك فارق كبير بين القنّب والمخدرات كالكوكايين أو الكبتاغون، لأنّ القنّب يدخل أحياناً في الاستخدامات الطبية.
القنّب والحشيشة… الفارق العلمي والزراعي
لا بدّ من الإشارة إلى الفارق بين القنّب الهندي والحشيشة. فعلميّاً، تختلف مكوناتهما من حيث التركيب الكيميائي، الاستخدامات، وحتى طريقة الزراعة.
فالقنّب هو النبات بحدّ ذاته، ويحتوي على مركبات الـ"كانابينويدات" مثل الـTHC والـCBD، لكن نسب هذه المواد تختلف بحسب السلالة. استخداماته واسعة وتشمل الصناعات الطبية والتجميلية والغذائية، خصوصاً استخراج الزيوت من بذوره الغنية بالأوميغا 3 و6، وهي عناصر مغذية وغير مخدِّرة. من زاوية الزراعة، تكاليفه معقولة ولا تختلف كثيراً عن المحاصيل التقليدية من حيث الري والتسميد ومكافحة الأمراض، ما يجعله خياراً مستداماً شرط وجود سوق قانوني منظم.
في المقابل، تُنتَج الحشيشة من راتنج أزهار القنّب، وتتميّز بتركيز مرتفع من مادة الـTHC ذات التأثير النفسي. زراعتها ليست أبسط، بل تحتاج إلى خبرة خاصة واختيار أصناف عالية من الراتنج ورعاية دقيقة لرفع نسبة المادة الفعالة. صحيح أنّ مردودها المالي سريع وأكبر، لكنها تبقى محصورةً في "السوق السوداء"، مع ما يرافق ذلك من مخاطر قانونية وصحية.
باختصار: القنّب الهندي يمثّل خياراً زراعياً متنوعاً وشرعياً يمكن أن يفتح أبواب الاقتصاد، بينما الحشيشة تبقى منتجاً مربحاً لكنه محفوف بالمخاطر القانونية والصحية. كما أنَّ الحشيشة من وجهة نظر المزارع والخبرة العملية، ليست أسهل في الزراعة، بل تتطلّب خبرةً، واهتماماً مستمراً، وترتبط بمخاطرة أكبر، بينما القنّب الهندي يمكن زراعته بأسلوب أبسط وأكثر أماناً.
عدالة الأسعار وحماية المزارع
فضلاً عمّا سبق، يشدّد شريف على أنّ خطوة تشكيل الهيئة الناظمة غير كافية ما لم تُترجم إلى إجراءات جدّية تضمن عدالة الأسعار وحماية المزارع من العودة إلى "السوق السوداء"، مؤكداً أنّ المطلب الأساس اليوم هو تشريع كامل يكرّس هذه الزراعة كمورد شرعي وحقيقي للعيش بكرامة.
أمّا عن الأسعار، فيشدّد على ضرورة تحديد أسعار عادلة تُبعد المزارع عن "السوق السوداء"، فبرأيه يجب على الدولة أن تضع حوافز ومغريات اقتصاديةً تضمن التزام المزارعين بالبيع الشرعي. "بهذه الآلية، يضمن المزارع حقه الكامل، ويبتعد عن 'السوق السوداء' التي لطالما أجبرته على بيع الكيلوغرام بنحو 300 دولار، في حين أنّ الدول المجاورة تبيع الغرام الواحد بأسعار تتراوح بين 4 و12 دولاراً"، يختم.
استفادة اقتصادية مغرية
اعتمدت الحكومة اللبنانية عام 2018، على خطة شركة ماكنزي للاستشارات، التي أوصت آنذاك بتشريع زراعة القنّب ضمن إستراتيجيتها الاقتصادية الشهيرة، مقدّرةً إمكانية تحقيق عائدات قد تصل إلى مليار دولار سنوياً إذا جرى تنظيم زراعة القنّب وتصنيعه لأغراض طبية وصناعية. غير أنّ هذا التوجّه أثار انتقادات واسعةً، إذ عدّ كثيرون أنّ الاعتماد على دراسة خارجية واحدة لا يكفي لإطلاق قطاع بهذا الحجم، وأنّ مشاريع بهذا الحجم عادةً ما تتطلّب سلسلةً من الأبحاث العلمية والاقتصادية المتكاملة لتقدير المخاطر والعوائد بدقة. وعليه، هذا النقص في الدراسات المتخصّصة قد يفتح الباب أمام تحديات جدّية، أبرزها خطر الاحتكار وضعف الشفافية، فضلاً عن غياب رؤية واضحة لضمان استفادة المزارعين التقليديين وعدم إقصائهم من العائدات.
برغم هذه الملاحظات، يشير الخبير الاقتصادي منير يونس، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ تشريع القنّب له أبعاد اقتصادية كبيرة، مستنداً إلى تقرير Lebanon Economic Vision الذي أعدّته ماكنزي عام 2020. قدّر التقرير العائد السنوي المحتمل من تنظيم زراعة القنّب بمليارات الدولارات، فيما رفعت بعض المصادر التقديرات إلى نحو أربعة مليارات دولارات سنوياً.
أما وزارة الزراعة اللبنانية، فتبنّت تقديرات أكثر تحفّظاً، واضعةً العائدات المحتملة في نطاق يتراوح بين مليار وثلاثة مليارات دولاراً سنوياً، وهو رقم كفيل بإحداث فرق نوعي في ميزان الدولة المالي.
فرص عمل وتنمية ريفية
أما يونس، فيلفت إلى أنّ أرباح هذا القطاع لا تقتصر على العائدات وحدها، بل يفتح أبواب رزق جديدةً أيضاً أمام آلاف العائلات في المناطق الريفية المهمّشة، كالبقاع والهرمل، عبر سلسلة أنشطة تبدأ من الزراعة وتصل إلى التصنيع والتسويق. بهذا الشكل، تتحوّل الزراعة إلى رافعة للتنمية الاجتماعية، وتساهم في تثبيت المزارعين في أرضهم بدل دفعهم نحو الهجرة أو الاقتصاد غير الشرعي، على حد قوله.
ويعلّق يونس على موقف الحكومة، قائلاً إنّها تعدّ هذا المشروع "قطاعاً اقتصادياً حديثاً ومتكاملاً"، يمتدّ من الحقول إلى المصانع، ليشمل الصناعات الدوائية والتجميلية والغذائية، بالإضافة إلى الاستفادة من الألياف والزيوت والمنتجات البيئية المشتقة من النبتة، وهو نموذج يشبه ما تقوم به دول متقدّمة في أوروبا وأمريكا الشمالية.
يقول فاضل لرصيف22 إنّ دور الهيئة هو "التنظيم، من زراعة القنّب الهندي إلى تصنيعه، وربط هذا التصنيع بالاحتياجات الوطنية بالتعاون مع المصانع المحلية والعالمية، ومع كبار المزارعين وصغارهم، ومع التجّار، لكي نؤسّس قطاعاً واعداً يعيد للمزارع حقه"
من جهة أخرى، يلفت يونس إلى الاستخدامات الطبية للقنّب في تخفيف آلام السرطان، ومعالجة الصرع، وعلاج الأرق والقلق، والتخفيف من أعراض أمراض مزمنة كالتصلّب المتعدّد والشلل الرعاش، عادّاً أنّ تطوير هذا القطاع يفتح الباب أمام صناعة دوائية متقدّمة في لبنان، تساهم في تعزيز الأمن الصحي والغذائي، وتخفّف من الاعتماد المكلف على الاستيراد.
التحديات والشكوك القائمة
ويواصل يونس: "برغم التوقّعات المتفائلة حول عائدات قد تصل إلى مليارات الدولارات، إلا أنّ وزارة الزراعة لم تُنجز حتى الآن دراسات اقتصاديةً معمّقةً تحدّد التكاليف والعوائد بدقة. هذا الغياب يفتح الباب أمام مخاطر حقيقية، مثل الاحتكار وضعف الشفافية في إدارة القطاع"، مضيفاً أنّ التأخير في إصدار المراسيم التطبيقية وتفعيل الهيئة الناظمة، بعد أربع سنوات من صدور القانون عام 2020، لا يزال يشكّل عائقاً أمام أي استثمار كامل وجدّي.
ويختم يونس بالإشارة إلى ضرورة تحفيز النماذج التعاونية التي تضمن توزيع العائدات بعدالة، وتحمي المزارعين التقليديين من الإقصاء لمصلحة شركات كبرى أو مستثمرين نافذين.
من إزالة التحديات إلى بناء السياسات
من جهته، يؤكد رئيس الهيئة الناظمة لزراعة القنّب الهندي في لبنان، التّي تشكّلت حديثاً، داني فاضل، أنّ المرحلة المقبلة تتطلّب تجاوز التحديات بدل الاكتفاء بتوصيفها. ويشرح: "تعبنا من أجل إزالة هذه العقبات، والهدف الأساسي هو وضع سياسات تنظيمية وإشرافية واضحة، من إعداد الأطر الإدارية والقواعد والمعايير الخاصة بالزراعة، وصولاً إلى إصدار التراخيص للمزارعين والمصانع ومراكز الأبحاث، مع متابعة دقيقة من مرحلة الزراعة حتى مرحلة التصنيع".
ويشدّد فاضل على أنّ المزارع سيكون المستفيد الأول من هذا التنظيم، إذ ستُمنح له حقوق أوسع في تصدير إنتاجه، شرط الالتزام بأعلى معايير الجودة وفق ما يُعرف بالممارسات الزراعية الجيدة (GACP)، بما يتيح له الحصول على شهادة مطابقة تسمح ببيع منتجاته في السوق المحلية أو العالمية. ويضيف: "نطمح إلى وضع لبنان على الخريطة الدولية، بما يتيح لمزارعينا تسويق إنتاجهم خارج الحدود وتحقيق قيمة مضافة حقيقية".
وعن فرص نجاح هذا القطاع، يرى رئيس الهيئة أنّ السوق "بحاجة ماسّة إلى التنظيم"، لافتاً إلى أنّ نحو 700 هكتار مزروعة حالياً بطريقة غير شرعية، ستعمل الهيئة منذ السنة الأولى على تحويلها إلى زراعات قانونية تخدم الصناعات الدوائية، مذكِّراً بأنّ لبنان يضم أعداداً كبيرةً من المرضى المصابين بالسرطان، والتصلّب المتعدد، وغيرهم ممّن يحتاجون إلى مشتقات القنّب الطبية.
القنّب "جزء من تاريخ المنطقة"
يواصل فاضل، حديثه قائلاً إنَّ "القنّب ليس زراعةً بديلةً، بل جزء من تاريخ المنطقة"، مستشهداً بنقوش أوراق النبتة على جدران قلعة بعلبك كدليل على جذورها التاريخية. ومع تبدّل الوعي المجتمعي، تغيّرت النظرة إليها من "نبتة حشيش" إلى نبتة صناعية وطبية متعدّدة الاستخدامات.
وعن دور هيئته، يشرح: "دورنا هو التنظيم، من الزراعة إلى التصنيع، وربط هذا التصنيع بالاحتياجات الوطنية. نحن نعمل بالتعاون مع المصانع المحلية والعالمية، ومع كبار المزارعين وصغارهم، ومع التجّار، لكي نؤسّس قطاعاً واعداً يعيد للمزارع حقه بعد معاناة استمرت مئات السنين".
هل ينجح لبنان، الغارق في أزماته الاقتصادية والمالية، في تحويل نبتة القنّب الهندي إلى قطاع حيوي ينهض بالاقتصاد وينصف المزارع قبل المستثمر؟ أو يبقى المشروع -كما مشاريع أخرى سابقة- رهن الوعود والملفات المؤجّلة في الأدراج الحكومية؟
أما في ما يتعلق بالرقابة، فيوضح فاضل أنّ جميع القوى الأمنية والبلديات ستكون "شريكةً في المسؤولية"، إلى جانب اعتماد تقنيات متطورة تشمل الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة وأجهزة الاستشعار القادرة على التمييز بين الأنواع المختلفة من النبتة. ويختم: "لن يكون هناك تهريب، لأنّ المزارع حين ينال حقه سيبيع إنتاجه بالغرام وبأسعار محددة، ضمن منظومة مراقبة دقيقة تضمن نجاح هذا القطاع برمّته".
عقبات سياسيّة تعطّل تنفيذ القانون
يُذكّر فاضل، بأنّ تأخير تشكيل الهيئة الناظمة كان بالدرجة الأولى بسبب حسابات سياسية، موضحاً: "كانت هناك عوائق قانونية أمام تعيين الهيئة الناظمة، لكن هذا في جوهره قرار سياسي تتخذه الحكومة مجتمعةً. فالجميع يعلم أنّ المادة الواردة في قانون 178 لعام 2020، كانت تُلزم الحكومات السابقة بتعيين الهيئة خلال ستة أشهر من نفاذ القانون، غير أنّ تلك الحكومات انشغلت بأمور عدّتها أكثر وطنيةً أو أكثر أهميةً بالنسبة إلى الوطن".
إذاً، التجارب العالمية تُظهر أنّ نجاح قطاع زراعة القنّب لا يتوقف فقط على تشريع القانون، بل على حسن الإدارة، الشفافية، واستقلالية الهيئة الناظمة. والاعتماد على تقرير ماكنزي وحده لا يكفي، إذ لا بدّ من مقاربة وطنية شاملة، تضع خططاً عمليةً تراعي خصوصية المناطق الزراعية، وتحمي صغار المزارعين من التهميش، وتوازن بين حاجات السوق المحلي ومتطلّبات الاستثمار الخارجي.
فهل ينجح لبنان، الغارق في أزماته الاقتصادية والمالية، في تحويل هذه النبتة إلى قطاع حيوي ينهض بالاقتصاد وينصف المزارع قبل المستثمر؟ أو يبقى المشروع -كما مشاريع أخرى سابقة- رهن الوعود والملفات المؤجّلة في الأدراج الحكومية؟
جواب هذا السؤال برسم الأشهر المقبلة، حيث ستُختبر جدّية الدولة وهيئتها الناظمة في ترجمة القانون إلى واقع، وتحويل القنّب من مادة مثيرة للجدل إلى مورد مشروع يعيد الحياة إلى الأرض والخزينة معاً.
*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر نظراً إلى حساسية الموضوع.
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان… دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.