يُعدّ مفهوم "إسرائيل الكبرى" أحد أكثر المفاهيم إثارة للجدل على الساحة الدينية والسياسية منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا. لم يتشكل هذا المفهوم في العصر الحديث، بل تمتد جذوره عميقاً في النصوص التوراتية والموروث الديني اليهودي، حيث ارتبط بفكرة الوعد الإلهي الذي قطعه يهوه لإبراهيم ونسله، وما تفرع عنه من تصورات متلاحقة عبر عصور مختلفة.
في الفترة الأخيرة، وبالتزامن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية ضد غزة، عاد هذا المفهوم إلى الواجهة، خصوصاً مع صعود تيارات دينية متشددة داخل إسرائيل وتنامي الحديث الإعلامي عن خرائط جديدة تشمل أراضي من النيل إلى الفرات. ومن هنا، يصبح من الضروري استكشاف المسار التاريخي والفكري لهذه الفكرة: كيف نشأت؟ كيف تطورت؟ وما علاقتها بالمشروعات الصهيونية الحديثة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، سنتتبع المراحل المفصلية التي مرّ بها الحلم الإسرائيلي وفقاً للسردية اليهودية التقليدية، بداية من الوعد الذي منحه يهوه/إله بني إسرائيل لإبراهيم، مروراً بمحاولات موسى لتحقيقه، ثم عهد يشوع وفتح بلاد كنعان، وصولاً إلى المملكة الموحدة في عهد داود وسليمان، وانتهاءً بالانقسام والسقوط، ثم النبوءات التي بشرت بإعادة التأسيس في آخر الزمان.
الوعد الإلهي
ارتبط مفهوم "إسرائيل الكبرى" من الناحية الدينية بالعديد من النصوص التوراتية التي تحدثت عن الوعد الإلهي الذي منحه يهوه لإبراهيم. ورد في سفر "التكوين" أن يهوه وعد إبراهيم بأن يعطيه ونسله أرضاً محددة المعالم: "لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ".
بشكل عام، أصبح هذا النصُّ حجرَ الزاوية لفكرة الأرض الموعودة. وهو ليس مجرد وعد جغرافي، بل يرتبط، بالمقام الأول، بعقيدة الاختيار الإلهي التي تضع بني إسرائيل في موقع "الشعب المختار"، لتمييزه عن الجوييم/الأغيار المُمثَّلين في باقي الشعوب. من جهة أخرى، تم فهم الوعد بشكل حرفي في ضوء جغرافيا الشرق الأدنى القديم، إذ فُهمت النبوءة التوراتية باعتبارها تشير إلى مساحة هائلة تضم أجزاء من مصر، وسيناء، والأردن، وسوريا، والعراق، وحتى أطراف الخليج العربي.
مفهوم إسرائيل الكبرى، مزيج معقد من الأسطورة والدين والسياسة؛ بدأ بوعد لإبراهيم، ثم صار حلماً قوميّاً وشعاراً أيديولوجياً يوظف في صراعات العصر
من الناحية اللاهوتية، كان لهذا الوعد وظيفة محورية، إذ منح اليهود شعوراً بالتفرد والحق التاريخي في الأرض. غير أن التحقق العملي لهذا الوعد ظل موضع إشكال، إذ لم يتحقق بشكل كامل في أي فترة من التاريخ القديم، بل ظل حلماً متجدّداً يعاد إنتاجه في كل مرحلة من مراحل الوجود اليهودي.
موسى والخروج
تأتي مرحلة النبي موسى والخروج من أرض مصر لتشكل نقطة تحول محورية في السردية اليهودية. وفقاً للتوراة، كان خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة النبي موسى حدثاً تأسيسياً في مسار تحقيق الوعد. كان الهدف النهائي للخروج هو دخول أرض كنعان، الأرض التي وعد بها اللهُ إبراهيمَ ونسلَه. لكن لماذا لم يدخل موسى الأرض؟
يجيب النص التوراتي بأن موسى قد حُرم من الدخول بسبب الخطيئة التي ارتكبها الشعب الإسرائيلي عندما رفض قتال الكنعانيين. ولذلك فقد اكتفى موسى برؤية الأرض الموعودة من جبل نبو قبل وفاته، ولم تطأها قدمه قط.
عقب وفاة موسى، برز دور يشوع بن نون، التلميذ المخلص لموسى، ليقود عملية الدخول والفتح. حملت مرحلة يشوع في طياتها الصعوبات نفسها: مقاومة الشعوب المحلية، وصعوبة تثبيت النفوذ. لم تكن السيطرة كاملة، بل متقطعة ومحدودة، ما يثير التساؤل: هل كان المشروع منذ البداية أكبر من القدرات الواقعية لبني إسرائيل؟
تاريخياً، وبعيداً عن الموروث السردي اليهودي، تثير الدراسات الأثرية الشكوك حول مدى صحة الرواية التوراتية حول الغزو العسكري الشامل لكنعان. غير أن ما يهمنا هنا هو البعد الرمزي: فكرة أن الدخول إلى الأرض الموعودة شكل خطوة أولى في مسار طويل نحو تحقيق "إسرائيل الكبرى".
عصر القضاة والملكية
بعد وفاة يشوع، دخل بنو إسرائيل في مرحلة سياسية واجتماعية مضطربة، عُرفت بعصر القضاة. كان النظام قائماً على زعماء محليين (قضاة) يقودون القبائل في مواجهة الأخطار. غياب السلطة المركزية القوية حال دون تحقيق أي توسع جغرافي حقيقي. هذا الوضع القلق ولّد لدى بني إسرائيل شعوراً مُلحاً بضرورة إقامة ملكية موحدة، وهو ما حدث لاحقاً في عهد شاول، أول ملوك إسرائيل، والذي فشل في تحقيق الطموحات الكبرى بسبب الصراعات الداخلية والتهديدات الخارجية، مما مهد الطريق لداود.
يمثل عهد داود وسليمان الذروةَ التي وصلت إليها المملكة الإسرائيلية في التاريخ القديم. داود، القائد العسكري والسياسي، نجح في توحيد قبائل بني إسرائيل تحت سلطة مركزية، وهزم جيران إسرائيل، ما مكنه من توسيع حدود المملكة بشكل غير مسبوق. أما سليمان، فقد أضاف بعداً اقتصادياً وثقافياً، إذ تحولت مملكته إلى مركزًا مهمًا للتجارة والتحالفات الدولية. الملاحظة الجديرة بالذكر هاهنا: أن مملكة سليمان، ورغم كل ما قيل عن عظمتها واتساعها، لم تصل أبداً إلى الحدود التي حددها الوعد الإلهي من النيل إلى الفرات، بما يعني أن "إسرائيل الكبرى" قد ظلت في تلك الحقبة التاريخية فكرة أكثر من كونها واقعاً سياسياً.
من جهة أخرى، شهدت تلك الفترة تشييد الهيكل المقدس المعروف بهيكل سليمان. بحسب ما ورد في سفر "أخبار الأيام" الأول، فإن داود شعر بالذنب من حقيقة كونه يعيش مترفاً في بيت فخم، بينما يقبع تابوت العهد، والذي وضع فيه اللوحين اللذين تسلمهما موسى من يهوه، بين جنبات خيمة الاجتماع، وهي خيمة بدائية الصنع. ولذلك فإنه، أي داود، عزم على بناء هيكل كبير ليهوه. ولكن إله بني إسرائيل أخبر داود، من خلال النبي ناثان، بأن بناء الهيكل المقدس لن يتم على يديه الملطختين بالدماء، لأن عهد داود شهد الكثير من الحروب والمعارك بين إسرائيل وأعدائها.
بحسب التقليد اليهودي، فقد أمر يهوه، بأن يتم بناء الهيكل في عهد سليمان بن داود، ويذكر العهد القديم أنه وفي العام الرابع من حكم سليمان، قد ابتدأ العمل في تشييد الهيكل، وذلك فوق البقعة التي حددها داود قبل وفاته أعلى جبل مورية في أورشليم، ويؤكد سفر "أخبار الأيام" الثاني أن سليمان قد استعان بعدد من الخبرات الأجنبية في سبيل تشييد هذا البناء؛ فعلى سبيل المثال أرسل إلى صديقه الفينيقي حيرام، ملك مدينة صور، حتى يرسل له الأخشاب، كما قام باستقدام الآلاف من العمال الفينيقيين المهرة، حيث استمر العمل في بناء الهيكل على مدار سبع سنوات ونص.
ظل الدخول إلى الأرض الموعودة خطوة رمزية لدى كثير من اليهود، أكثر منه واقعاً تاريخياً نحو تحقيق "إسرائيل الكبرى"
على الرغم من الشكوك التاريخية التي تحيط بقصة بناء الهيكل، فإن التقاليد اليهودية قد تضافرت على التأكيد على أهمية هذا المبنى في المستقبل السياسي للشعب الإسرائيلي؛ إذ مثل بناء الهيكل لحظة رمزية كبرى في الوجدان اليهودي الجمعي، كما رسخ الحضور الديني والسياسي في قلب الأرض الموعودة.
بعد وفاة سليمان، انقسمت المملكة إلى كيانين: مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب. هذا الانقسام كان بداية النهاية للحلم الإمبراطوري؛ تفككت السلطة المركزية، وظهرت صراعات داخلية حادة، مما جعل المملكتين عرضة للغزو. في سنة 722 ق.م، سقطت مملكة إسرائيل بيد الآشوريين، وفي سنة 586 ق.م، سقطت مملكة يهوذا بيد البابليين، وتم تدمير الهيكل وسبي اليهود إلى بابل.
الوعود المستقبلية وإحياء الحلم
تسببت الأحداث الدامية التي عاشها الشعب الإسرائيلي عقب وقوع السبي البابلي في تغيير النظرة الجمعية إلى فكرة "إسرائيل الكبرى". بشكل عام، غابت تلك الفكرة عن الواقع السياسي المُعاش، لتتحول إلى حلم مستقبلي مؤجل مرتبط بالإسكتالوجيا، والتي تشير للأحداث والملاحم والنبوءات التي ستقع في نهاية الزمان؛ على سبيل المثال، تحدث النبي حزقيال عن عودة إسرائيل من السبي، وإعادة بناء الهيكل، وإقامة ملكوت جديد تحت قيادة "الماشِّيح" (المسيح المنتظر). هذه النبوءات أطلقت موجات من الأمل في عصور الشتات، وجعلت فكرة "إسرائيل الكبرى" تعيش في وجدان اليهود قروناً طويلة.
في القرن التاسع عشر الميلادي، ومع بزوغ نجم الحركة الصهيونية في أوروبا، تحولت فكرة "إسرائيل الكبرى" من الإطار اللاهوتي إلى مشروع سياسي. على الرغم أن مؤسسي الصهيونية السياسية لم يكونوا متدينين بالضرورة، إلا أنهم استثمروا الرمزية الدينية لتلك الفكرة لتحقيق أهداف قومية؛ على سبيل المثال، أشار تيودور هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" إلى المرونة التي يجب أن تتمتع بها الدولة المُزمع تأسيسها، وكيف أن حدودها يجب أن تظل مرهونة بالقدرات الاستيطانية، والقدرة على التوسع، والدعم الدولي.
لاحقاً، تبنت بعض التيارات الدينية في إسرائيل شعار "من النيل إلى الفرات" كغاية قصوى. ظهر ذلك بشكل واضح في أدبيات حركة حيروت (Herut) التي أسسها مناحيم بيجن، سنة 1948، وحزب الليكود اليميني الذي تأسس سنة 1973. كما تم استخدام مصطلح "إسرائيل الكبرى" بعد حرب حزيران 1967، للإشارة إلى إسرائيل والمناطق التي احتلتها آنذاك، والتي ضمت كلّاً من القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء، فضلاً عن مرتفعات الجولان.
مؤخراً، أُثير الجدل مرة أخرى حول هذا المصطلح وذلك بعدما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حوار صحافي، عن تمسكه بـ"إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربما أيضاً مناطق من الأردن ومصر؛ الأمر الذي أدانته جامعة الدول العربية وعدّته "تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي الجمعي، وتحدياً سافراً للقانون الدولي ومبادئ الشرعية الدولية".
من هنا، يمكن القول إن مفهوم "إسرائيل الكبرى" هو مزيج معقد من الأسطورة والدين والسياسة. بدأ بوعد لإبراهيم، وتحوّل إلى حلم قومي، ثم أصبح شعاراً أيديولوجياً يوظف في صراعات العصر. لم يتحقق هذا الحلم في الماضي بشكل كامل، واحتمالات تحققه في الحاضر أو المستقبل لا تزال مثار جدل واسع. لكن المؤكد أن الفكرة ستظل حاضرة، لأنها تمثل جزءاً من الهوية الدينية والسياسية لليهودية المعاصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.