الابتزاز الرقمي الجنسي… ندوبٌ خفيّة وجرائم عابرة للشاشات

الابتزاز الرقمي الجنسي… ندوبٌ خفيّة وجرائم عابرة للشاشات

حياة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 20 يونيو 202511:38 ص


لوغو مش ع الهامش

تتذكر إحدى ضحايا الابتزاز الرقمي، نور عودة (اسم مستعار)، من جنوب لبنان، وتبلغ اليوم من العمر تسعةً وعشرين عاماً، والتي لا تزال آثار الحادثة محفورةً في ذاكرتها بعد ثماني سنوات، تلك اللحظة الفاصلة في حياتها، فتقول لرصيف22: "بلحظة انهيار، جبت السلاح من الخزانة، شلت زر الأمان، وحطيتو براسي قدام ماما".

هذه المشاعر الصادمة، التي تتراوح بين الخوف والضياع والعجز، وصولاً إلى محاولات يائسة لإنهاء الألم، هي محور قصص لا تُروى بسهولة. فخلف الشاشات، تتلاشى الحدود وتختبئ الوجوه، ويتحول الابتزاز إلى لعبة "الدبّ الأعمى"، التي يواجه فيها الضحايا مجهولاً أو أكثر لا يعرفون خطورته، خاصةً حين لا يكون الهدف مادياً في فضاء رقمي لا نهائي.

تهديدٌ من نوعٍ آخر

في الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت، أو ما يُعرف بـ"Sextortion"، يتم تهديد الضحية بنشر صور أو مقاطع فيديو ذات طابع جنسي أو حساس أو مجرد صور خاصة، ما لم تقُم بتلبية مطالب المبتزّ، والتي قد تكون ماليةً، أو ذات طابع جنسي، أو أي نوع آخر من الإذعان، وفقاً لـ"مكتب التحقيقات الفيدرالي". وغالباً ما يتم الحصول على هذه المواد إمّا عبر خداع الضحية أو عبر اختراق أجهزتها أو من خلال العلاقات العاطفية.

يستخدم الجُناة حسابات وهميةً يتقمصون من خلالها شخصيات قريبةً من الضحية في العمر أو الاهتمامات، ليبثّوا الثقة تدريجياً، ثم يستدرجوا ضحاياهم لمشاركة صور أو فيديوهات خاصة، وهكذا، تتعدد أساليب الابتزاز الجنسي الإلكتروني وتزداد خطورةً مع تطور التكنولوجيا، حيث يستخدم المبتزّون تقنيات متقدمةً للإيقاع بضحاياهم.

في الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت، أو ما يُعرف بـ"Sextortion"، يتم تهديد الضحية بنشر صور أو مقاطع فيديو ذات طابع جنسي أو حساس أو مجرد صور خاصة، ما لم تقُم بتلبية مطالب المبتزّ، والتي قد تكون ماليةً، أو ذات طابع جنسي، أو أي نوع آخر من الإذعان

تقول نور عودة، عن تجربتها: "ما كنت بتوقع يصير فيني هيك، وقتها سكّرت السوشال ميديا، وغيّرت خطي، وانقطعت عن الإنترنت لمدة 6 أشهر".

وتضيف: "بعدني لهلأ عم عاني من هزّات (نوبات هلع) بتصير معي بس إتذكر".

لم تكن تجربة نور عابرةً، بل تركت أثراً لا يفارقها حتى اليوم.

بدأت القصة برسالة وصلت إليها عبر تطبيق "سناب شات"، من حساب مجهول، يدّعي صاحبها امتلاك صور حساسة تخصّها. ظنّت في البداية أنه مجرد مزاح ثقيل، لكنّ ما ظنته مزاحاً تبيّن أنه تهديد حقيقي.

راودها الشك في أنّ من يقف خلف الرسالة هو حبيبها السابق، وبرغم أنّ الصور التي كانت قد تبادلتها معه في مراهقتها لم تكن بالخطورة التي حاول المبتزّ الإيحاء بها، إلا أنّ الخوف تسلل إليها، خصوصاً من ردة فعل والدتها، وسألت نفسها مراراً: "هل يمكن أن تتبرأ مني؟".

لم يكتفِ المبتز، الذي لم يكن يمتلك أي صور في الواقع بالتهديد، بل حاول إخضاعها، مدّعياً أنه قادر على سجنها عبر الصور التي يدّعي امتلاكها. بدأت نور مجاراته خوفاً من تهديداته، وأرسلت له صورةً لكتفها، إلا أنّ طلباته تصاعدت، مطالباً بمقاطع تُظهرها بالكامل مع وجهها وصوتها.

اعترفت نور لوالدتها بكل ما يحدث، وبخوفها من أن يكون حبيبها السابق هو من يبتزّها، مهددةً بالانتحار أمامها. وفي لحظة مفصلية، كان جواب الأمّ هو الملاذ الأخير: "شو ما عملتي، أنا قبلانة فيكي متل ما أنت".

بهذه الكلمات استعادت نور أنفاسها، وبتشجيع من إحدى صديقاتها التي أخبرتها بما حدث، لجأت نور إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، حيث تم إغلاق حساب المبتز وإنهاء التهديد.

منصات خصبة للابتزاز

في عصرٍ باتت فيه الحياة الرقمية جزءاً لا يتجزأ من يومياتنا، أصبح الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت ظاهرةً مقلقةً تكشف عن فجوة خطيرة في الوعي الجنسي والرقمي لدى الفئات الشابة عموماً، والأطفال خصوصاً، وترتبط هذه الظاهرة مباشرةً بضعف التوعية بالصحة الجنسية والرقمية.

ضعف الوعي في فهم المراهقين/ ات لأجسادهم/ نّ، وحدود الخصوصية، والتمييز بين العلاقات الآمنة والمخادعة، تجعلهم عرضةً أكثر من غيرهم لهذا النوع من الاستغلال.

يُشير تقرير المعهد الأسترالي لعلم الجريمة (Australian Institute of Criminology)، حول تأثير الابتزاز الجنسي على القُصّر، إلى أنّ الأطفال والمراهقين معرّضون بشكل خاص لهذه الجريمة جزئياً بسبب زيادة الوقت الذي يقضونه على الإنترنت، بجانب انخفاض نضجهم، ويمكن ربط ذلك بفجوة الوعي.

في عصرٍ باتت فيه الحياة الرقمية جزءاً لا يتجزأ من يومياتنا، أصبح الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت ظاهرةً مقلقةً تكشف عن فجوة خطيرة في الوعي الجنسي والرقمي لدى الفئات الشابة عموماً، والأطفال خصوصاً، وترتبط هذه الظاهرة مباشرةً بضعف التوعية بالصحة الجنسية والرقمية

وبشكلٍ خاص في لبنان، يواجه كثيرون مشكلة الغياب التام للتربية الجنسية، إما بسبب القيود الاجتماعية والثقافية، أو لغياب مناهج تعليمية شاملة. كذلك، تغيب عن كثيرين أهمية الوعي الرقمي من ناحية حماية الخصوصية، إدارة كلمات المرور، وتقييد الوصول إلى المحتوى الشخصي. يؤدي ذلك كله إلى تشويش المفاهيم حول الثقة والخصوصية في الفضاء الرقمي، ما يسهّل الاستدراج العاطفي والسلوكي.

تُجسّد تجربة ميرا برّي، البالغة من العمر سبعةً وعشرين عاماً، والمقيمة حالياً في تركيا حيث تعمل موظفة مبيعات، حادثةً لم يكن هدف المبتز فيها المال أو تسجيلات مصوّرة. فقد وقعت عندما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، في شرك رسالة وصلتها من حساب صديق تعرفه، لكن الأسلوب الغريب في الحديث جعلها تشعر بأنّ هناك خطباً ما، لتكتشف سريعاً أنّ الحساب وهمي، وأن شخصاً غريباً انتحل هوية صديق حقيقي لها من خلال هذا الحساب وتواصل معها.

الصدمة لم تكن فقط في هذا التلاعب، بل في تهديد المبتز لها بصور خاصة كانت قد أرسلتها سابقاً إلى صديقتها عبر "مسنجر"، بعد أن كان قد تمكّن من اختراق حسابها وسرقتها من المحادثة. وبلغ التهديد ذروته عندما أرسل إحدى الصور إلى أحد أفراد عائلتها، ما وضعها في موقف صعب واضطرت إلى توضيح كيفية حصوله على الصور تحت وطأة الابتزاز.

اليوم، تتذكر ميرا تلك التجربة، وتقول لرصيف22: "وقت صار الابتزاز كنت كتير خايفة، خفت من الفضيحة وخفت منّو، واليوم صرت خاف إبعت صور حتى لرفقاتي".

ما عاشته ميرا، يؤكد مجدداً أنّ الابتزاز قد يطرق بابك حتى إن كنت تظن أن من تراسله محل ثقة، فالثقة في العالم الرقمي يجب أن تترافق دائماً مع الحذر.

وفي حين تلعب منصات مثل "تيك توك" و"سناب" و"إنستغرام" وغيرها، دوراً كبيراً في تسهيل عملية استهداف الضحايا، نظراً إلى ما تقدّمه من مساحة تفاعلية مفتوحة، خصوصاً عند غياب الإعدادات الأمنية الكافية، يبقى ما يُقرر الفرد نشره أو عدم نشره مندرجاً ضمن حرية التعبير الخاصة، ويبقى الوعي ضرورةً ملحّة.

تروي الصحافية ياسمين الناطور (31 عاماً)، من بيروت، تجربتها مع الابتزاز الرقمي خلال عملها في التسويق لصفحة أحد صالونات التجميل عبر "إنستغرام"، عندما تواصلت مع صفحة مخصصة للعروض والمسابقات "Giveaways"، في محاولة لزيادة المتابعين، لكنها سرعان ما اكتشفت أن خلف تلك الصفحة يقف مبتزّ محترف، هدّدها بفبركة صور للصفحة بطريقة غير لائقة إن لم تدفع مبلغاً من المال.

لم يكتفِ بذلك، بل حاول أيضاً اختراق الحساب، إلا أنّ محاولته باءت بالفشل وتصرّفت ياسمين بسرعة، ولجأت إلى قسم مكافحة الجرائم المعلوماتية، ليتم لاحقاً إغلاق الحساب الوهمي.

ما الذي يجعله صعباً؟

ترى الأخصائية النفسية والناشطة الاجتماعية، وردة بو ضاهر، أنّ "الابتزاز الجنسي الرقمي صعب للغاية، لأنه يشكّل تهديداً مستمراً: "بمجرد أن يمتلك الشخص صورةً لك، يمكنه في أي لحظة، دون سابق إنذار أو سبب، أن يعيد استخدامها ضدك".

كما تلفت إلى أنّ "أكثر الأمور قسوةً في هذه التجربة، جلد الذات، إذ كثيراً ما تشعر الضحية بالذنب، وكأنها المسؤولة عمّا حدث وعن وضع نفسها في هذا الموقف وأنها من أرسلت تلك الصورة، ما يضاعف لديها المشاعر غير الصحية والمؤذية والتي قد توصلها إلى عدم البوح بما يجري معها".

وتضيف لرصيف22: "ما يزيد الوضع سوءاً هو غياب الوعي الكافي للتعامل مع هذا النوع من التهديدات، حيث يُلقى اللوم كثيراً على الضحية بدلاً من الجاني، ما يُضاعف من شعور الخوف والقلق لديها".

وتشير وردة، إلى أنّ "الخوف الأكبر يبقى لدى الضحية من أن يُعاد نشر المحتوى، ليس فقط مرةً أخرى، بل على نطاق أوسع، كأن يتم تسريبه إلى عدد أكبر من الأشخاص أو عبر منصات متعددة. هذه الاحتمالات كلها تجعل من هذا النوع من الأذى النفسي والتقني أمراً شديد القسوة".

تشدّد بو ضاهر، على أهمية أن يكون الأهل واعين لطريقة تعاملهم مع مواقف الابتزاز أو الأحداث الحساسة أمام أولادهم، لأن ردّة فعلهم قد تُحدد ما إذا كان الولد سيشعر بالأمان للبوح مستقبلاً أم لا. فكلّ تصرّف أو كلمة في تلك اللحظات تُرسل رسالةً غير مباشرة، إمّا بالأمان أو بالخوف.

وتدعو إلى ضرورة تعزيز رسائل الطمأنينة بين الأهل وأولادهم، وبين الأصدقاء، لأنّ الدعم يبدأ من هذه التفاصيل البسيطة، مشددةً على أن التوعية الجنسية والرقمية، وغرس مفهوم خصوصية الجسد منذ الصغر، أدوات أساسية لحماية الأشخاص من الوقوع في مواقف مشابهة.

بين المال وإثبات الذات أو الانتقام

توضح وردة بو ضاهر، أنّ "هناك العديد من المُبتزّين الذين لا يطلبون المال، وهناك أسباب كثيرة تدفعهم إلى القيام بهذا الفعل. فقد يكون دافعهم اضطرابات نفسيةً تجعلهم يشعرون بالمتعة في إلحاق الأذى بالآخرين، وقد يكون الهدف أحياناً الانتقام".

وتضيف أن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب: "هناك من يقوم بالابتزاز بهدف إسكات أشخاص ذوي مكانة مهمة، سواء سياسية أو اجتماعية، من أجل السيطرة عليهم أو التأثير على قراراتهم. وهناك من يستخدم هذا الأسلوب كوسيلة للضغط على الضحية من أجل الحصول على خدمات معيّنة، أو حتى دفعهم إلى الانخراط في مجالات غير أخلاقية أو لإثبات الذات".

إنّ الابتزاز الجنسي الرقمي ليس مجرد جريمة عابرة تُرتكب خلف الشاشات. فهذه القصص ليست مجرد حوادث، بل هي تجسيد لواقع خطير يواجهه كثيرون في فضاءٍ رقميٍّ باتَ يفتقر إلى الأمان والثقة. في مواجهة هذا الخطر المتصاعد، تبرز الحاجة إلى استجابة شاملة، تبدأ بالحوار الأسري المفتوح ولا تنتهي عند دمج التربية الجنسية والرقمية في المناهج التعليمية.

لذا، ما يجب التوقف عنده أنه في حال تعرّض أحدهم للابتزاز، من المهم جداً أن يتحدث إلى شخص يثق به أو جهة قادرة على تقديم الدعم بالإضافة إلى التواصل مع مكتب مكافحة المعلوماتية في لبنان.

ومن المبادرات في المجال "منصة دعم السلامة الرقمية"، من "سمكس"، والتي تعاملت مع 133 تهديداً رقمياً خلال شهر أيار/ مايو 2024، تنوّعت بين عنفٍ إلكتروني وابتزاز جنسي وغيرهما.

"أكثر الأمور قسوةً في هذه التجربة، جلد الذات، إذ كثيراً ما تشعر الضحية بالذنب، وكأنها المسؤولة عمّا حدث وعن وضع نفسها في هذا الموقف وأنها من أرسلت تلك الصورة، ما يضاعف لديها المشاعر غير الصحية والمؤذية والتي قد توصلها إلى عدم البوح بما يجري معها"

يتحدث مدير برنامج الإعلام في منظمة "سمكس"، الخبير في مجال السلامة الرقمية والإعلام والتواصل، عبد قطايا، عن الخطوات العملية في المجال، لافتاً إلى أنه بإمكان الإنسان أن يبدأ أولاً بأن يُخفف من نشر معلومات شخصية عنه على الإنترنت قدر المستطاع: "كمستخدم، عليّ أن أُقيّم: ما الذي يجب أن أُخفيه؟ وما الذي يمكنني مشاركته؟ كل ذلك يعتمد على شخصية الفرد وظروف الحالة التي يمر بها".

ويشدد لرصيف22، على ضرورة عدم التفاعل مع الحسابات الوهمية والمشبوهة والتدقيق في ما إذا كانت هذه الحسابات حقيقيةً أو لا: "لا أحد يُقدّم المال مجاناً على الإنترنت، ولا حتى العلاقات الحميمية"، محذراً من الوعود الزائفة، سواء كانت أموالاً أو جوائز وغير ذلك".

أمّا عند وقوع الابتزاز، فيلفت قطايا إلى أن التعاطي مع الحادثة يختلف من حالة إلى أخرى، مؤكداً أنه لا يوجد فعل واحد على الجميع القيام به، لأن الأمر يختلف باختلاف الحالة، وباختلاف الشخص الذي تعرّض لها، أو من قام بالاعتداء أو الابتزاز.

ويشدّد على أهمية أن يُخبر الشخص من يثق بهم ليستطيعوا تقديم الدعم والمساعدة، أو أن يلجأ إلى المبادرات التي تُعنى بتقديم المساعدة مثل منصة دعم السلامة الرقمية، مؤكداً أن العزلة تشكّل خطراً في مثل هذه المواقف، لأنّ "الشخص الذي يكون في موضع التعرض للابتزاز يكون في حالة ضعف يحاول الجناة استغلالها".

في الختام، في عالم باتت فيه الثقة تُستدرج برسالة، والصور تُحوّل إلى أدوات تهديد، يصبح الوعي والاحتواء والدعم أولى خطوط الدفاع في وجه ابتزازٍ لا يترك آثاراً على الجسد بل ندوباً في النفس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image