التراث السوداني يُمحى ويُفقد مجدداً… إلى متى؟

التراث السوداني يُمحى ويُفقد مجدداً… إلى متى؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الثلاثاء 27 مايو 202512:50 م

بعد تحرير الخرطوم، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور للزجاج المحطّم وواجهات العرض المنهوبة من متحف السودان القومي. بالنسبة لكثير من السودانيين، كانت هذه المرة الأولى التي يرون فيها المتحف من داخله. لم يكن هناك غضب شعبي واسع -سوى في دوائر ضيّقة من العاملين في المجال الثقافي الذين أمضوا حياتهم يحاولون حماية ما لم يحتضنه البلد يوماً؛ ذاكرته الخاصّة.

أكثر من 100 ألف قطعة أثريّة -تمتد من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الإسلامية- تم تدميرها أو سرقتها أو فقدانها. واحدة من القطع القليلة التي نجت كانت تمثالاً ضخماً من الغرانيت للفرعون طهارقة، الملك النوبي الذي حكم من كوش حتى بلاد الشام. لا يزال واقفاً، بعد آلاف السنين، يشهد كل شيء يتكرّر من جديد.

لكن نهب تاريخ السودان لم يبدأ كما ظهر أخيراً في مقاطع رائجة لعناصر من قوات الدعم السريع، أحد الطرفين المتحاربين على السلطة منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023.

متحف السودان


السودان يضمّ عدداً من الأهرامات يفوق عددها في أي بلد آخر في العالم، ومع ذلك، المتاحف والمناهج المدرسية وشاشات السينما تمتلئ بملوك مصر. حتى الملوك من النوبة، مثل طهارقة أو شباكا، طُمست أسماؤهم ضمن التاريخ والسردية المصرية. أصبح تاريخ السودان وذاكرته جزءاً من إرث الآخرين، وإرثاً يُروى باسم آخر

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصل إلى السودان صيّاد كنوز إيطالي يُدعى جوزيبي فيرليني. فجّر أكثر من 40 هرماً في مروي باستخدام الديناميت، بحثاً عن الذهب. ومن بين ما عثر عليه، كنوزٌ بالغة الدقّة في الصنع -من أقراط وتيجان ومنحوتات وتماثيل- قام بتهريبها إلى أوروبا. لكن حتى المتاحف الأوروبية رفضت تصديق أنها جاءت من حضارة إفريقية سوداء. ظنّوا أنه يكذب، إذ بدت الأدلة "راقيةً" أكثر من أن تتوافق مع تصوّراتهم المسبقة عنّا.

ولم يكن السبب العنصرية وحدها، بل السياسة أيضاً.

في أواخر القرن التاسع عشر، عطّلت الثورة المهدية أعمال التنقيب الأثري، ليس على المستوى اللوجستي فحسب، بل الأيديولوجي أيضاً. رُفِض التاريخ القديم باعتباره "غير إسلامي"، وباعتباره وثنيّاً، وصَرفاً عن الحاضر. ولم يغادر هذا الاعتقاد المشهد تماماً. من المحتمل أنّ عمّال فيرليني، كانوا من السودانيين. رجال ينقلون قطعاً مسروقةً عبر الصحراء، دون أن يعلموا أنهم يحملون تيجان أجدادهم.

مع ذلك، سرقة هويّتنا كانت قد بدأت حتى قبل ذلك بكثير.

في عام 1820، سقطت سلطنة الفونج (تُعرف أيضاً بـ"السلطنة الزرقاء")، في السودان على يد محمد علي باشا، الحاكم الألباني لمصر العثمانية. جاء بحثاً عن الذهب والجنود لبناء إمبراطورية، ووجدهما في السودان. ومنذ ذلك الغزو وحتى نيل السودان استقلاله الرسمي عام 1956، لم نكن أمّةً مستقلّةً. كان كلّ سوداني يُعدّ قانونياً مصرياً. وحتى اليوم، غالباً ما تُنسب أسماؤنا وآثارنا إلى ما وراء الحدود. فالسودان يضمّ عدداً من الأهرامات يفوق أي بلد آخر في العالم -إذ لا يزال أكثر من 200 منها قائماً- ومع ذلك، فإنّ المتاحف والمناهج المدرسية وشاشات السينما تمتلئ بملوك مصر. حتى هؤلاء الملوك من النوبة، مثل طهارقة أو شباكا، طُمست أسماؤهم ضمن التاريخ والسردية المصرية. وأصبح تاريخ السودان وذاكرته جزءاً من إرث الآخرين، وإرثاً يُروى باسم آخر.

في عام 1931، غيّر الإمبراطور هيلا سيلاسي، اسم الحبشة إلى "إثيوبيا". وهو اسم كان، على مدى قرون، يشير لا إلى الهضاب الإثيوبية، بل إلى الممالك الإفريقية السوداء الواقعة جنوب مصر: كوش، ونبتة، ومروي. ففي النصوص التوراتية والكلاسيكية، كان "الإثيوبيون" سودانيين. لكن، بقرار سياسي واحد، نُقل حتى هذا الإرث الرمزي إلى الشرق.

واستمرّ محو التاريخ باسم "التنمية". في ستينيات القرن الماضي، بنت مصر السدّ العالي في أسوان، ما أدى إلى غمر مساحات شاسعة من الأراضي النوبية في كلا البلدين. غُمرت عشرات المواقع الأثرية تحت الماء. أنقذت حملة عالمية معبد أبو سمبل، القريب من الحدود السودانية، لكن التراث النوبي في السودان تُرك ليغرق في صمت.

وفي السنوات الأخيرة، أعادت مشاريع السدود المموّلة صينياً داخل السودان، تكرار المشهد ذاته. سدّ مروي هجّر عشرات الآلاف وأغرق أراضي ثقافيةً بأكملها. أذكر أنني شاهدت عالم الآثار السويسري شارل بونيه، الذي قضى عقوداً في التنقيب في كرمة، يبكي خلال مؤتمر، محذّراً من أنّ التراث السوداني يُمحى ويُفقد مجدداً. حتى هو تذكّر. لماذا لم نتذكّر نحن؟

هذا النسيان لم يأتِ من جهات خارجية فحسب.

فقد تعامل نظام الإسلاميين، الذي حكم السودان طوال ثلاثين عاماً، مع التاريخ والفن والثقافة بريبةٍ وشكّ. في أوائل الألفينات، صرّح وزير الثقافة السوداني علناً بأنه لم يزُر المتحف القومي قطّ، لأنه "يحتوي على أصنام". لم تكن هذه وجهة نظر فرديةً متطرفةً، بل كانت سياسةً معتمدة.

بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، دفعت الأزمة المالية الدولة إلى فتح الأراضي التاريخية أمام عمليات تعدين غير منظّمة. مُنحت شركات أجنبية عقوداً في مناطق أثرية، وتُرك التنقيب عن الذهب لأي شخص يحمل مجرفة. ظهرت تقارير عن تماثيل وقطع أثرية تم صهرها لاستخدامها كخردة، ولم تُدمّر بدافع الحقد، بل لأنّ أحداً لم يُخبر الحفّارين والمنقّبين بقيمة ما كانوا يحملونه.

والآن، خلال الحرب الراهنة، نهبت عناصر محسوبة على الدعم السريع المتحف الوطني. بعض المقاتلين لم يكونوا حتى على دراية بما كانوا يدمّرونه. في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع، ظنّ الجنود أنّ المومياوات القديمة هي ضحايا مجازر حديثة. لم يكونوا يدنّسون التاريخ بدافع الكراهية؛ بل ببساطة لأنهم لم يعلموا أنه تاريخهم.

في وقت سابق من هذا العام، أي في السنة الثانية من الحرب، بدأت تظهر قطع أثرية سودانية للبيع على الإنترنت (على منصات مثل eBay). قبل أشهر قليلة من تحرير الخرطوم، شوهدت شاحنات تغادر المتحف متجهةً جنوباً. لم يكن هؤلاء متمردين، ولا حماة، بل كانوا رجالاً آخرين ينقلون ما لا يعرفونه.

باسم العنصرية حيناً، والسياسة حيناً آخر، وباسم التنمية مرّات، والجهل بقيمة التاريخ في مناسبات عدّة، جرى طمس التراث السوداني بشكل متواصل. إلى متى يُسمح باستمرار ذلك؟  

في الطرف الآخر من سلسلة التهريب، يوجد جامعو التحف والتجّار في الغرب. بعضهم يدّعي أنه يحافظ على التراث الإفريقي؛ ينقذه من الدمار. وربما يكون ذلك صحيحاً في بعض الحالات. لكن غالباً ما يكون هذا مجرد منطق استعماري مُلبّس بلغة جديدة: فكرة أنّ "إفريقيا لا تستحقّ ماضيها". هذا المنطق نفسه الذي غذّى "أبحاث" تحسين النسل التي استخدمت جماجم سودانية لتبرير التسلسل الهرمي العرقي وأفكار التفوق العنصري.

وهكذا، تستمرّ القصة: الجنود ينهبون، واليائسون يساعدون، والتجار يشترون، وهواة جمع الكنوز والتحف يربحون، والمتاحف تعرض. تتأكد تحيّزات هؤلاء جميعاً، وكذلك تحيّزاتنا، وتتكرّر الحلقة.

لكن المتحف الوطني السوداني لم يكن يوماً مجرد مبنى. كان محاولةً هشّةً لجمع ما تشتّت. بُني على أيدي مستعمرين، وغالباً ما رآه السكان المحليون كمكان مخصّص لهم، لا لنا. ومع ذلك ظلّ قائماً. في ذلك المتحف المحطم، الشيء الوحيد الذي بقي واقفاً كان تمثال طهارقة. بقي وحيداً عند المدخل، يشاهد محو ذكراه للمرة الثانية.

مهما سيأتي لاحقاً، سواء للسودان أو للسودانيين، فليبدأ بالحقيقة. دعونا ننظر إلى ما فعلناه وما سمحنا بحدوثه. دعونا نتذكر. حتى عندما نقف أمام تلك الواجهات الزجاجية في المرة القادمة، نرى أنفسنا. ولا نجرؤ على كسرها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image