انقطعت الكهرباء في إسبانيا… فأضاءت نظرية المؤامرة خيالي

انقطعت الكهرباء في إسبانيا… فأضاءت نظرية المؤامرة خيالي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 19 مايو 202511:21 ص


كان الوقت يشير إلى الساعة 12:32 من ظهر يوم الإثنين، 28 نيسان/ أبريل 2025. صباح اعتياديّ مملّ، لا جديد فيه؛ رسائل البريد الإلكتروني المتراكمة وضغط بداية الأسبوع الذي لا يرحم. كنت قد أنهيت للتو تقريري الصحافي اليومي، حين وصلتني رسالة تفيد بانقطاع التيار الكهربائي عن كامل إسبانيا، البرتغال، وأجزاء من فرنسا. بدا الأمر غريباً، بل مستحيلاً، حتى لحظة اكتشافي أن الكهرباء قد انقطعت فعلاً عن منزلي.

طال الانقطاع، ومعه تباطأت وتيرة الحياة، وبدأت مفردات عصرنا التكنولوجي السريع تتساقط واحدةً تلو الأخرى

بدأت الرسائل تتوالى من زملائي الصحافيين، وكلها تشير إلى انقطاع مفاجئ وشامل في أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية. حاولت الاتصال ببعض الأصدقاء للاطمئنان عليهم، لكن شبكة الإنترنت كانت تترنح. الرسائل لا تصل. بصعوبة بالغة، تمكنت من إجراء بعض المكالمات الهاتفية مع القنوات الإخبارية التي أعمل معها، وسط تكهنات أولية بهجوم سيبراني. حاولت التوجه إلى الإستوديو الواقع على بُعد 11 كيلومتراً من منزلي، لكن كل شيء كان متوقفاً: القطارات لا تعمل، والإنترنت لا يسمح لي حتى بطلب سيارة أجرة، والأزمة مخيفة ولن أستطيع القيادة إلى هناك.

طال الانقطاع، ومع عيشي في الطابق الحادي عشر، انقطعت المياه أيضاً. قررت الخروج لشراء المياه. كانت المتاجر مغلقةً، والشوارع مكتظةً بالمشاة، والسيارات محاصَرةً في أزمات مرورية خانقة، ومروحيات الشرطة تحلّق في السماء. عدتُ إلى المنزل صاعدةً السلالم درجةً درجة، وأنا ألعن تعب جسدي، وأعقد العزم على ممارسة المزيد من الرياضة في المستقبل. 

دبابة في شرفتي

وصلت إلى شقّتي وجلست على شرفتي المطلّة على الشارع، وهنا بدأ خيالي يعمل بطريقته المظلمة. في لحظة لم أعد أرى انقطاع الكهرباء حادثاً تقنياً أو خللاً عابراً، فقد طالت الساعات. المشهد كان غريباً. وكوني شخصاً نشأ وترعرع في بيئة معروفة بعدم الاستقرار، لم أستطع إلا أن أتخيّل أسوأ السيناريوهات. تساءلت: هل يكون هذا الانقطاع تمهيداً لانقلاب على النظام الملكي الإسباني؟ هل نحن على أعتاب جمهورية إسبانية؟ هل هناك أطراف خفيّة، عسكرية أو سياسية، تستغلّ الانقطاع كغطاء لإعادة ترتيب السلطة؟ هل كانت هذه لحظة الصفر التي لطالما نُسجت حولها روايات الخيال السياسي؟ في رأسي، بدأت أرى الدبابات تتقدم في الشوارع، والأوامر تصدر عبر موجات إذاعية قديمة، ورحت أسمع أصواتاً تُنادي من مكبرات الصوت معلنةً حالة الطوارئ.

ساعات طويلة بلا كهرباء كانت كافية لإشعال نظريات المؤامرة في رأسي، فأنا آتية من منطقة شكّلتها المؤامرات

كبرت في عالم قبيح مليء بالحروب والدموية والانقلابات، وفي مناطق لم تعرف يوماً الاستقرار الحقيقي، لذا لم يكن ذهني مهيّأ لتقبّل فكرة أن ما يحدث قد يكون مجرد خلل تقني. ففي مخيلتي المشوهة بمشاهد الدمار والقتل، كل خلل يحمل نذر كارثة أو تغييراً مرعباً.

لكن ما حدث بعد ذلك لم تكن له علاقة بأي انقلاب؛ لم تخرج الدبابات، لم تُعلَن حالة الطوارئ، ولم يظهر جنرالٌ بزيٍّ رسمي معتلياً شاشة التلفاز ليخبرنا بـ"أننا على أعتاب حقبة جديدة، وأن الأمر يقتضي إجراءات استثنائيةً". لا شيء من هذا القبيل. بدلاً من ذلك، بدأ الإسبان، المحبّون للحياة والفرح، يعيشون هذا الانقطاع التاريخي على طريقتهم الخاصة.

التحرر من الشاشات

خرج الناس إلى الشوارع، أولاً بدافع الملل، ثم بدافع الفضول، ثم سارعوا إلى الحانات كي يحتسوا الجعة والمشروبات الباردة قبل أن تسخن. ودون اتفاق مسبق، صار الشارع مهرجاناً شعبياً حيث جلس الجيران أمام العمارات، وأخرجوا كراسيهم البلاستيكية، وطاولات اللعب، وورق الشدّة، والدومينو. وفي حي "لافابييس" في قلب العاصمة، بدأ البعض بالرقص على أنغام قادمة من عود قديم لم يحتج إلى كهرباء ليعمل. غنّت الناس، وضحك الأطفال. وحتى من لا يعرفون بعضهم، صاروا يتبادلون الأحاديث والنكات والأطعمة. تحوّلت الأزمة، أو ما ظنناه أزمةً، إلى فسحة إنسانية صافية.

لم يكن أحد قلقاً من نهاية العالم، ولا بدا أن أحداً يفكر كثيراً في مؤامرة، قال البعض: ربما هجوم سيبراني. وقال آخرون: "مجرد خلل فني يجب محاسبة المقصّرين عليه". لكن لا أحد حاول استغلال الحدث لإشعال فتنة أو التهويل من المصيبة. بدا وكأنّ الإسبان قرروا، في لحظة جمعية نادرة، أن يعيشوا اليوم كما هو، بلا ضجيج التحليلات ولا سُمّ التحريض.

كان الغزّيون في مدريد الأكثر تلقائية في التعامل مع انقطاع الكهرباء، مستعيدين خبرتهم في التعايش مع شحّ الحياة

كنت أراقب المشهد من شرفتي، ولا أنكر أنّ شيئاً من السكينة بدأ يتسلل إلى قلبي. الهاتف لا يعمل، الإنترنت ميت، الأخبار مقطوعة، لكن الحياة... كانت هناك، في الخارج، تنبض بقوة غير مألوفة. هكذا يعيش الناس حين لا يكونون عبيداً للشاشات. فجأةً، بدت المدينة وكأنها استعادت ذاكرةً قديمةً عن زمن لم تكن فيه الحياة رقميةً أو معقدةً، زمن كان فيه اللعب في الحارات مشروعاً لا يحتاج إلى تطبيق، والغناء في الشارع ليس شيئاً غريباً، بل حاجة إنسانية.

كنت في البداية قد اتصلت بصديقي الصحافي فران سيراتو، وسألته بفضول: "هل تعتقد أنّ ما يحدث قد يكون تمهيداً لانقلاب؟". ضحك طويلاً، ثم قال: "عزيزتي رزان، هنا ليس الشرق الأوسط".

الخبرة الغزّية

لاحقاً، تحدثت مع بعض أصدقائي الفلسطينيين من غزّة، المقيمين في مدريد، وكان ردّهم عملانياً أكثر مما توقعت. قالوا إنهم لم يشعروا بأي ذعر. "لدينا شموع ومعلبات منذ أول يوم لنا هنا"، قالت لي سحر، وهي تضحك. "نحن لسنا مدلّلين، جئنا من غزّة، حيث انقطاع الكهرباء يومي، والاحتياط لدينا غريزة". حتى الغاز في منازلهم لا يعمل بالكهرباء، بل يعمل بغاز حقيقي. كانوا من القلائل الذين أعدّوا الشاي في تلك الساعات، واستطاعوا تناول وجبة طعام حقيقية، بل وضيّفوا جيرانهم المشتاقين إلى فنجان القهوة الذي كان عملةً نادرةً في تلك اللحظات.

ساعات الانقطاع تلك، برغم كل ما رافقها من فوضى أولى، كانت بالنسبة لكثيرين بمثابة فسحة من الزمن، واستراحة من الضوضاء. لا أحد يتمنى انقطاع الكهرباء، ولا أحد ينكر حجم الضرر الذي أصاب الشركات، والخسائر الاقتصادية. لكننا، كبشر، اختبرنا شيئاً نادراً. اختبرنا يوماً بلا شاشة، بلا إلحاح، بلا جدول، بلا صخب، وبلا لهاث. عشنا لوهلة كما كان يعيش الأجداد: نتحاور، نضحك، نطالع الشمس، ونمضي الوقت مع من حولنا.

لم تكن هناك دبابات، ولا انقلابات، ولا مؤامرات. انقطاع للتيار الكهربائي فحسب. وبين احتمالات الجنرالات والخلل التقني، بين غزّة ومدريد، بين شكوكي الموروثة وواقعٍ آخر في الشارع، بقي سؤال يتردّد في رأسي وأنا أنظر إلى المدينة التي تنبض دون كهرباء: هل الحياة أجمل حين نتوقف قليلاً عن الركض؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image