حين يضيء إسكندر حبش على الآخرين

حين يضيء إسكندر حبش على الآخرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 2 يونيو 202508:03 ص

في مقالٍ كتبه إسكندر حبش، يرثي فيه الصحافي الراحل طلال سلمان، يقول: "كل الكلمات تبدو واهيةً، لأنه لن يقرأَها أو يعلّقَ عليها… ماذا يعني أن أكتبَ عنه الآن، حين لن يصل إليه ما كتبته؟". يرى حبش أنّ كل كتابة، ليست سوى رهانٍ في الفراغ "لأنك لا تعرف فعلاً إلى من تصل"... ربما لذلك وددتُ أن أخطّ هذا المقال عن حضور إسكندر حبش، وليس عن غيابه، وأودّ أن تصلَه كلماتي، امتناناً وعرفاناً، وأن تصل إلى القرّاء أيضاً، ليقرؤوه ويدركوا تجربته الممتلئة والفريدة مع الكتابة والحياة.

قبل أكثر من عشر سنوات، أتاح لي إسكندر حبش، الكتابة في جريدة "السفير" اللبنانية، وكان وقتها مديراً للقسم الثقافي. كتبتُ في الشأن الثقافي المصري، وكانت فرصةً لصحافية مغتربة في أولى خطواتها.

"اجعلي نصّكِ متماسكاً، ابتعدي عن الإنشاء"؛ كانت أول نصيحة، ثم عبر السنوات التالية سأتعلم منه كيف يُصنع النصُّ القويّ، غير المُجهد بالحشو والاستعراض... سأتعلم الكثير عن الكتابة والصحافة، من كاتبٍ عارك الحياة واللغة، وراكم تجربةً تدعو للتأمل، التأمل في معنى الكتابة، الغاية منها، وعلاقتها بالذات وبالحياة. وكيف تكون الكتابة تعبيراً عن موقفنا من العالم. وكيف أننا عبر الكتابة "نطرح موقفاً جذرياً من كل شيء"، كما يقول.

ستغلق "السفير" صفحاتها، لكن خيط الودِّ لن ينقطع. خلال زيارة لبيروت عرّجتُ على بيت إسكندر حبش وزوجته الصديقة الإعلامية شيرين موسى. مساحةٌ دافئةٌ وأنيقة، صور وتحف وتفاصيل تشي بمواقفهما السياسية والنضالية، والكثير من الأطباق الشهية التي اعتاد الاثنان طهيها بمتعة من مطابخ العالم. أما المكتبة، جنّة إسكندر حبش، التي راكمها بالكثير من الحب والانتقائية، وعاش مع كتبها وشخوصها علاقة استثنائيةً، فحدّثني عنها مليّاً.

للتو أنهى إسكندر حبش، المرحلةَ الأولى من العلاج الكيماوي. خلال ستة أشهر كان يمضي صباحاتِ كل يوم جمعة في المستشفى، ترافقه شريكتُه ودفترٌ صغير يدوّن فيه أفكاره حول هذه الأوقات العصيبة، وكأنّه يعيش ما قاله يوماً في قصيدة له: "ثمة ألم آخر لم نكتبه بعد".

السيد "سين"... ألمٌ آخر نكتبه

للتو أنهى إسكندر حبش، المرحلةَ الأولى من العلاج الكيماوي. خلال ستة أشهر كان يمضي صباحاتِ كل يوم جمعة في المستشفى، ترافقه شريكتُه ودفترٌ صغير يدوّن فيه أفكاره حول هذه الأوقات العصيبة، وكأنّه يعيش ما قاله يوماً في قصيدة له: "ثمة ألم آخر لم نكتبه بعد".

حطّ المرضُ مباغتاً وقاسياً على الجسد الواثق، الذي لم يتحمل بدايةً. ضَعُفَ وانكسرَ وهدأ. كان يعجنُ الوقت بالصبر حيناً وبالدمع حيناً آخر، ثم بعد أسابيع وفور بداية العلاج، حاول حبش القبضَ على الحياة مجدداً، والعودة إلى تفاصيلها: الكتابة والقراءة والموسيقى.

كان يراقب جسدَه، كيف يخونه، كيف يتغير ويبتعد، يستسلم له، ثم يمسك به مجدداً، ويعود به إلى قهوته وتبغه وعزلته، ويعاود الكتابة. يكتب بغزارة. لا تزال لديه عشرات الكتب التي تنتظر الإصدار، ويدأب في سبيل ذلك. لطالما أكّد أنّ الكتابة هي خياره الوحيد، ووطنه الأوحد. 

يرى إسكندر حبش، أنّ السرطان كما الحياة، حادثٌ عابرٌ وعارض: "الموت هو الحقيقة، نحن نولد لنموت. الرهان هو كيف نتقبّل موتنا، نحن نحيا في هذه الحياة كي نرتّب موتنا في نهاية الأمر". 

لعلّ هذا ما دفعه لمواجهة المرض بعقلانية، أو هذا ما اختاره هو. اختارَ ألا يداريه، بل أن يكتب عنه. "يوميات السيد سين"، نصوصٌ يكتبها على وسائل التواصل الاجتماعي، وألقاها في ندواته مؤخراً، تحكي عن مشواره مع السرطان، لا تدخلُ تفاصيلَ المرض بقدر ما هي تأملاتٌ وأسئلةٌ فلسفية حول الحياة والكتابة، تدفع القارئَ إلى الشعور بأنّ الحياة مجرد خيالات مارقة، بينما الكتابة هي التي تدوم.

يقول في إحدى هذه اليوميات: "ما أشعر به هو حالة الحرب الدائمة التي أعيشها. حربٌ ضد من؟ ضد السيد س؟ من هو فعلاً هذا السيد س الخاص بي؟ إنه أنا. الأورام مصنوعةٌ مني. تماماً كما أنّ عقلي وقلبي مصنوعان مني. إنها حربٌ أهلية تمّ اختيار الفائز بها بالفعل".

يرى إسكندر حبش، أنّ السرطان كما الحياة، حادثٌ عابرٌ وعارض: "الموت هو الحقيقة، نحن نولد لنموت. الرهان هو كيف نتقبّل موتنا، نحن نحيا في هذه الحياة كي نرتّب موتنا في نهاية الأمر". 


وجوه إسكندر حبش

 الكتابة كانت خيار إسكندر حبش، وإنجازه في الحياة، بل هي حياة موازية عاشها ويعيشها حتى آخر رشفة فيها وأعمق نقطة. لا يزاحم بين الصفوف، يراقب من بعيد، بينما هو في مركز لكوكب حمل اسمه، يدور في فضاءات القصيدة، الترجمة، الصحافة، النقد، والفنّ. إنها وجوه إسكندر حبش العديدة، التي تشبه وجوه بيسوا، وهو شاعرٌ برتغالي جمعته بحبش عقود من الترجمة أثمرت نحو 15 إصداراً. 

"أنا اخترت هذا الطريق ولم يجبرني أحد عليه. أحبّ أن أجلس بعيداً، في آخر الصالة لأراقب ليس ما يحدث على خشبة المسرح، بل أولئك الذين يجلسون أمامي ومن بعيد، من دون التدخّل في شؤونهم. أحبّ أن أسير أيضاً على دروب لا يسير عليها أحد، بل حتى أنهم يجهلون وجودها. المهم بالنسبة لي أن أقوم بما يلائم تكويني. هذا ما أبحث عنه. 

أعتقد أنني أخلصت للكتابة بحدّ ذاتها، لم تعد بديلاً من حياة، هي حياة أخرى متكاملة، أجمل إن أردت، ولا أستطيع إلا أن أقول ذلك عنها، بعد أن أمضيت عمري في ملاحقتها، وإلا أكون عندها، خائناً لكل ما فعلت وارتكبت من كتابات. وبصراحة، لو تسنّى لي أن أعيد حياتي من البداية، لعدت وكتبت، برغم كل المتاعب، لا أحسن القيام بأي أمر آخر سوى ذلك".

يقول ذلك في كتابٍ صدر مؤخراً تحت عنوان "إسكندر حبش… هجرتان وأوطان كثيرة"، وهو عبارة عن حوارات أجرتها معه الصحافية اللبنانية دارين حوماني، تنسج صورةً بانوراميةً لتجربة إسكندر حبش الغنية مع الكلمة والفكرة والحياة. 

في الكتاب، يحكي حبش، كيف يكتب نفسه في الشعر، وكيف يعيش الحرية المطلقة والانعتاق عبر الشعر: "الفنّ الأكبر، هو اللغة الإنسانية الأولى والأخيرة"، كما يقول، ويضيف: "لا نكتب في نهاية الأمر إلا أنفسنا، لا نقدّم إلا رؤيتنا للعالم، عبر الشعر والقصيدة. صحيح أننا نوارب في الكلام، أحياناً كثيرةً، لكن في النهاية، ليس سوى محاولة لإخراج موقفنا تجاه الكثير من الأشياء، بهذا المعنى تقترب القصيدة من السيرة الذاتية".

لا يعيشُ الكاتب اللبناني من دون شعر، ولا يعيشُ من دون ترجمة، وله معها فلسفةٌ خاصة ، ومبرراتٌ تدفعه لنعت نفسه بالمترجم الفاشل، لأنه لا يترجم من الكتب إلا ما يحبّ. عندما تنتفض داخله الغيرة من كتاب ممتع، يفجّر الكثير من الأسئلة، فيقرر أن يدعو أصحابه ليشاركوه متعته، والسبيل إلى ذلك سيكون الترجمة. 

وكما كانت الترجمة محاولةً للهروب من واقع الحرب والقتل، كذلك هي الريشة، يضرب بها على القماش فيخلق بالخيالات والألوان عالماً آخر أكثر توازناً، عالماً بعيداً يشعر معه أنّ الإنسان له شروط أخرى في هذه الحياة.

ينهي إسكندر حبش حديثه معي قائلاً: "كل ما سبق من حياتي كان مكتبةً. اليوم أنتظر القبر مع هذا المرض الذي أعاني منه. أي أنني أنتظر الجزء الثاني منها، من 'الحياة'، وهو الجزء الأخير والأكثر حقيقةً من كل شيء".


مكتبتي هي حياتي

يحدّثني إسكندر حبش، عن جمال الحياة مع الكتابة والقراءة، عن ذلك الأمر الإلهي الكائن في الكتب: "ربما مكتبتي هي حياتي التي بنيتها. منذ أن بدأت القراءة ومن ثم الكتابة لاحقاً، كانت رفوف الكتب تلاحقني وترافقني أينما ذهبت. وأقصد ترافقني في الأماكن، البيوت التي أنتقل إليها. ما من يوم -ولغاية هذه اللحظة التي قد أنتقل فيها إلى العالم الآخر- تصورت فيه أنه يمكن لجدار بيت أي يكون من دون مكتبة، من دون هذه الرفوف التي تعيد إليّ ذكريات كثيرةً.

هل معنى ذلك أنني سأحملها معي في رحلتي الأخيرة؟ بالتأكيد لا، وإن كنت أشعر بأنني سأصاب بالبرد الشديد هناك، من دونها، ولكن أن تبقى في بعض مكتبات القرى (كما كتبت في وصيتي)، وعند بعض الأشخاص، أفضل، فلربما خرجت شخصياتها ذات مساء -شخصيات الكتب- لتلقي التحية، من قِبَلي، على من يقرؤها. على كلٍّ، ربما أعتمد هنا، على ما قاله الكاتب الأرجنتيني بورخيس، من أنه لم يتصوّر يوماً الجنّة، إلا على شكل مكتبة. بهذا المعنى، قد أجد هناك مكتبةً أخرى، وكتباً أخرى، قد تقيني ظلمة الليل الطويل الذي سأدخل إليه".

 يرى إسكندر حبش، أنّ أجمل منظرٍ يمكن للمرء أن يتأمل فيه، هو مشهد الكتب التي ترتاح فوق رفوفها. يستعيرُ قولاً للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار: "إنّ الجنّة، من دون شك، ليست سوى مكتبة ضخمة". ويعلل ذلك بأنه ما من مكان يقدّم دليلاً واضحاً على غرور الآمال الإنسانية أكثر من المكتبة. 

"لِمَ غرور الإنسانية؟ ربما لأننا في مراكمة الكتب نؤكد على شيء أساسي: هذه الثقافة التي راكمناها طيلة عمرنا. نؤكد للآخر أننا قرأنا وأننا نتميز عنه بسعة معرفتنا. قد يكون كل هذا الكلام غير مفيد الآن، حين نقف على مفترق طريق، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أننا سنأخذ هذه المعرفة معنا، حيث لا يمكن لأحد أن يسرقها منّا، وحيث لا يمكن لأحد أن يصل إليها بسهولة، وأقصد أنّ عليه أن 'يقلّدنا' أي أن يقرأ مثلنا.

مكتبتي كانت أيضاً غرفة معيشة، أو لنقل غرفةً للأصدقاء. لم أضع يوماً فيها إلا الكتّاب الذين أحببتهم، بالأحرى الكتب التي لم أحبّها تخلصت منها، إذ وجدت أنه من غير اللائق أن أكون محاطاً بأناسٍ لا يمتّون إليّ بصلة. غرفة أصدقاء يمكن لي أن أبقى في داخلها لأيام وأنا أتحدث معها/ معهم، أن نتسلّى ونفرح، وربما أيضا أن نحزن ونبكي". 

شخصياتُ الكتب بالنسبة للصحافي العتيق، ليست مجرد أسماء على ورق، بل هي كائنات من لحم ودم تشاركه لحظات حياته ويشاركها عيشها. لذا غالباً ما تساءل: "هل عشتُ الحياة الواقعية فعلاً، أم صنعتُ من القراءة حياةً أخرى؟ أميل قطعاً إلى الأمر الثاني: كانت حياتي عبارةً عن قراءة دائمة، كانت حياتي أجمل بالتأكيد مع الكتب، كانت أفضل من التعاطي مع كائنات حيّة تفرض عليّ سماجتها".

يتابع: "ثمة أمر إلهي في الكتب، ربما مثلما قال الفيلسوف والكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو: 'إن كان الله موجوداً فسيكون مكتبةً من دون شك'. في أي حال، المكتبة أيضاً تنتمي إلى إنسانيتنا. تماماً مثلما قال أندريه مالرو: 'إنّ أكثر الرجال إنسانيةً لا يصنعون الثورات: بل يصنعون المكتبات أو المقابر'". 

ينهي حديثه قائلاً: "كل ما سبق من حياتي كان مكتبةً. اليوم أنتظر القبر مع هذا المرض الذي أعاني منه. أي أنني أنتظر الجزء الثاني منها، من 'الحياة'، وهو الجزء الأخير والأكثر حقيقةً من كل شيء".

في انتظار حسم المعركة مع السيد "سين"، ربما لا تزال أمام إسكندر حبش جولات أخرى، على أيّ حال، وأياً كان القادم، سيبقى محاطاً بكتبه وأصدقائه وشريكته، مستمراً في عطائه مع الكتابة والترجمة، من مكانه البعيد، أو كما يقول وديع سعادة: "يقعد إسكندر حبش خارج الأضواء ويضيء على الآخرين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image