قبل طلوع الشمس، يقف أطفال فلسطينيون تراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة عشر، بانتظار سيارة تقلّهم من قراهم الصغيرة في الضفة الغربية إلى مناطق قريبة من الحدود مع الداخل الفلسطيني.
وهناك يكون المشغّل بانتظارهم. يصعدون إلى مركبته حتى يقوم "بتهريبهم" إلى الداخل مقابل مبلغ مادي.
يدخل الأطفال عبر فتحات في جدار الفصل العنصري، الذي يفصل الضفة الغربية عن الأراضي الإسرائيلية، فيكونون لقمة سائغة أمام قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية لاعتقالهم أو إطلاق النار باتجاههم.
وإن عبروا، تبدأ رحلة عملهم الشاقة التي ستستمر لشهور أو سنوات، تحت الشمس أو المطر، ليبيعوا الحاجات البسيطة للمارين على مفارق الطرق. ينتظرون الإشارة الحمراء لعرض الولاعات والألعاب والمناديل الورقية.
يعمل هؤلاء نحو عشر ساعات. لكنهم لا يعودون إلى بيوتهم، بل إلى بيوت تؤوي أطفالاً باعة من الضفة. أمّا بالنسبة للأموال الّتي يجمعونها، فتعطى نسبة منها للمشغل وأخرى للعائلة. ولا نصيب لهم منها.
ولا شكّ في أن عمالة الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية في الداخل الفلسطيني، والتي برزت في العقود الأخيرة، ترتبط بالواقع الاقتصادي الفلسطيني المتردي، بحسب بحث أجرته منظمة Defence for children. وهو يؤكد أن بناء جدار الفصل العنصري عام 2002، حرم أعداداً كبيرة من فلسطينيي الضفة من العمل في الداخل، وبات دخولهم منوطاً بتصريح من السلطات الإسرائيلية. ما دفع عائلات فلسطينية إلى إرسال أبنائها للعمل في الداخل. فوصلت نسبة البطالة في الضفة الغربية، قبل الحرب المستمرة على غزة، إلى 12.9٪.
أثر الإبادة في غزة
يؤكد مدير عام الإدارة العامة للطفولة في وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية على "أن نسبة عمالة الأطفال، خلال فترة الحرب على غزة وإغلاق الحواجر في الضفة الغربية، في ازدياد ملحوظ".
ويعزو القرم الأسباب الكامنة وراء ذلك إلى الارتفاع الكبير في حالات الفقر والبطالة عند معظم شرائح المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية.
"المسؤول الأول عن هذا الواقع الاقتصادي هو الاحتلال، الذي أغلق مناطق الضفة وأحكم حصارها ومنع سكانها من العمل في الداخل"، يؤكد القرم.
وقد بلغ عدد عمال الضفة الغربية في إسرائيل نحو 165 ألفاً عشية الحرب. لكن منذ بداية الحرب فقد نحو 150 ألفاً منهم مصدر دخلهم الوحيد. في حين أبقى قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الجيش على قرابة 15 ألف عامل في المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية"، كما يشير تقرير لمركز الدراسات الإسرائيلية مدار.
"خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ازداد الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية سوءاً. نحن الموظفون نعاني من هذا الواقع، فما بالك بالآخرين؟"، تقول سلمى (اسم مستعار)، من مركز حماية وتنمية الطفولة في رام الله، والذي يستقبل الأطفال الباعة الذين تسلّمهم إسرائيل للجهات الفلسطينية.
"في ظل هذا الوضع القاسي، لست أؤيد تسليمنا الأطفال. الناس لا تجد ما تأكله"، تضيف سلمى في حديثها لرصيف22.
ولعل الواقع الاقتصادي الحالي لم يصل إلى هذا الحال إلا بعد تراكم سنوات من السيطرة الإسرائيلية الاقتصادية على الضفة الغربية والحؤول دون وجود اقتصاد فلسطيني مستقل، والتي بدأت تتكشّف معالمها، بحسب تقرير Defence for children، بعد اتفاق أوسلو وتوقيع بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي رُسمت فيه علاقة تبعية اقتصادية مطلقة لإسرائيل.
كيف يتعامل فلسطينيو الداخل معهم؟
شارك محمد محاميد (33 عاماً) على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لأطفال يبيعون في الشوارع الرئيسية، مطالباً الناس بالتعامل معهم بلطف.
"رغم يقيني بأن أولئك الأطفال مُشغّلون من قِبل جهات مشبوهة، ويتم استغلالهم لكسب أرباح غير مشروع، إلا أن الحاجة التي دفعتهم لكي يكونوا أداة بيد هؤلاء، هي التي تدفعني إلى التعاطف مع قضيّتهم"، يقول لرصيف22.
ويرى محمد أن ظروفاً قاسية من الانعدام والحرمان قد تدفع بهؤلاء الأطفال إلى التواجد في الشوارع. "أحاول أن أنصح الناس دائماً بمعاملتهم بلطف. إن لم يشاؤوا منحهم المال، فليمنحوهم الاحترام في الأقل. وقد يجعل هذا الاحترام الطفل غير ناقم على البشر"، يقول مضيفاً.
ويردف: "وربما نحاول أن نقول لهؤلاء الأطفال إنهم يستطيعون كسب المال عندما يكبرون بطرق أخرى دون هذه العبودية التي تُمارس بحقهم".
لكن يبدو أن الفلسطينيين لا ينظرون جميعاً إلى عمالة الأطفال في الداخل بعين الشفقة. فتقول رهام (34 عاماً) لرصيف22: "في البداية كنت أشفق عليهم وأتخيل أبنائي مكانهم، فأناولهم الطعام والماء والمال، وأسألهم هل هم بحاجة للمساعدة. إلا أن تعرضت لسلوك عنيف من أحد الأطفال الذي بدأ بتكسير زجاج السيارة لأني لم أعطه المال".
وتردف: "كلما مررت من المكان الذي حدث فيه هذا الموقف، أكتم أنفاسي، وأتمنى ألا تتوقف السيارة عند ضوء أحمر".
تحاول رهام أن تتفهم تصرّف هذا الطفل. "فأنا لا أدري ما الظروف التي يمر بها وكيف يعامله المشغّل. لكن هذه التصرفات مزعجة".
خطر النار والاغتصاب
تؤكد سلمى من مركز حماية وتنمية الطفولة بأن "الوضع العام المركب يلقي بظلاله على أكثر من مستوى. فمن ناحية قد نتفهم الحاجة المادية لهؤلاء العائلات. ومن ناحية أخرى، يتعرض هؤلاء الأطفال للخطر والاعتداء الجنسي. لكن للأسف، العائلات تبحث عن مصدر دخل بأية طريقة".
ولم توثّق حالات اغتصاب لدى جهات رسمية فلسطينية، لكن المخرج السينمائي بدران بدران وثق عبر فيلم "فراطة" (2016) الذي يرافق طفلاً بائعاً باسم يحيى، شهادات عن أطفال تعرضوا للاعتداء الجنسي ووصلوا إلى مراكز طبية، لكن ظلت قصصهم طي الكتمان، كما يقول بدران لرصيف22.
ويتابع: "هؤلاء الأطفال يواجهون تحديات كبيرة، منها خطر تعرضهم للدهس، وللسرقة أو للعنف وحتّى للاعتداء الجنسي. نحنُ لا نعلم أي شيء عنهم سوى أنهم يطرقون نافذة سيارتنا، لكن لكل طفل منهم قصة".
أحاول أن أنصح الناس دائماً بمعاملتهم بلطف. إن لم يشاؤوا منحهم المال، فليمنحوهم الاحترام في الأقل
وثق بدران حياة يحيى منذ أن كان في الثامنة من العمر، ولمدة 11 عاماً: "تعرّفت إلى يحيى في يوم ماطر. ناديته ليدخل إلى السيارة لكنه رفض. كان يبدو خائفًا من أن يراه أحد، أيقنت أن شخصاً ما يراقبه، فاضطررت للنزول من السيارة لإقناعه بالدخول. من هنا بدأت رحلتي في تصوير فيلم "فراطة"
.يؤكد بدران أن "وضع عائلة يحيى كان مستقراً نسبيّاً. كان والده يعمل في مشتل في مستوطنة "رعنانا". لكن بعد بناء جدار الفصل العنصري، أصيب والد يحيى وأخوانه بالرصاص أثناء محاولتهم الدخول عبر الجدار".
"أما باقي إخوانه فيقبعون في السجن بعد القبض عليهم خلال محاولتهم الدخول عبر الجدار للعمل. فاضطر يحيى للعمل في الداخل"، يضيف بدران.
من مصلحة إسرائيل أن تستمر الظاهرة
يمنع القانون الإسرائيلي تشغل الأطفال الإسرائيليين، لكن يبدو أن هؤلاء الأطفال الفلسطينيين، الذين يبيعون على مفارق طرق تحاذي في كثير من الأحيان مراكز شرطة إسرائيلية، يُتركون لمصيرهم ولاستغلال مشغليهم الذين لا يتعرضون للمساءلة كما يبدو.
"يبدو أن سلامة الطفل العربي الفلسطيني وصحته بعيدة من أن تكون في سلم اهتمامات الشرطة الإسرائيلية. ولو كانت للظاهرة أبعاد أمنية لقضت عليها بسرعة"، يقول لرصيف22 د. يوسف جبارين، حقوقي ورئيس سابق للجنة حقوق الطفل البرلمانية في الكنيست.
من مصلحة الشرطة الإسرائيلية أن تعم الفوضى داخل المجتمع الفلسطيني. وهذا جزء من السياسات الرسمية التي تسعى إلى أن يبقى المجتمع الفلسطيني غارقاً بمشاكله الخاصة
ويضيف: "ظاهرة عمالة الأطفال خطيرة وفيها انتهاكات صارخة لحقوق الطفل. نحن نرى البؤس والمعاناة الواضحة بين هؤلاء الأطفال، ونعلم أن هناك من يقوم باستغلالهم لكسب الربح المادي على حسابهم".
ويرى جبارين أن "المسؤولية في القضاء على هذه الظاهرة تقع على الشرطة الإسرائيلية. فهي على علم بأماكن وجود الأطفال والمنظمات الّتي تقوم بتشغيلهم، لكنّها لا تُحرّك ساكنًا".
ويكمل: "ولا شك أن الظاهرة تحدث وتنمو في ظل الاحتلال وبمباركته. فمن مصلحة الشرطة الإسرائيلية أن تعم الفوضى داخل المجتمع الفلسطيني. وهذا جزء من السياسات الرسمية التي تسعى إلى أن يبقى المجتمع الفلسطيني غارقاً بمشاكله الخاصة".
نزع الطفولة
تُنزع الطفولة عن هؤلاء الأطفال الباعة، ويُنزع حقهم في إكمال دراستهم. فضلاً عن أنهم يتعرضون لمخاطر عديدة، كسوء التغذية والعمل في ظروف صعبة لا تتناسب مع أجسادهم، تتمثل في العمل لساعات طوال تحت الشمس، والتعرض للدهس أو إطلاق الرصاص عليهم خلال عملية تهريبهم.
"تترتب على العمالة آثار على عادات الأطفال. وقد يتفشّى بينهم التدخين وتعاطي المخدرات. وقد يصبح الطفل أكثر عدوانية تجاه المجتمع نتيجة الإحساس بالهقر الاجتماعي"، يؤكد محمد القرم.
ويرى أن "الظاهرة قد تعزز على المدى البعيد من حالة الفقر المجتمعي، بسبب إماتة الفرصة لإيجاد قيادات متعلّمة قادرة على تنمية المجتمع وتطويره".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع