شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"إيـ** بأحسن كرة أرضية"... قالت "هيام" في ساحة في اللاذقية!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 25 أبريل 202511:21 ص

ليست مفارقةً غريبةً أن أكون أخصائياً اجتماعياً في عيادة للصحة النفسية التابعة لإحدى منظمات العمل المدني، بينما أنا نفسي من كتب مرةً نصّاً شعرياً طلبت فيه من أحد أصدقاء الطفولة الذي فقد عقله تدريجياً مع الوقت، عندما كنا نكبر جميعنا في قلب الحطام والخراب، أن نتبادل الأدوار، إذ أرهقني دور العاقل، ومللت التكيّف المذلّ. كما حاولت أن أذكّره بأنني كنت أحسده منذ الابتدائية؛ أحسد ردة فعله البسيطة والهادئة الممغنطة بقليل من السخرية على طرف الشفتين. كيف تعلّم مبكراً أن يهزأ بصلابة هذا العالم؟ كيف اكتشف عري الجميع؟ كان يضحك في مواجهة كل شيء حتى عصا المعلمة القارسة، وحتى الرفاق المتنمرّين القساة.

كنت كل يوم، ومنذ سنوات، أصادفه وسط المدينة مبتسماً يمشي وبيده حبل كأنما يسحب به شيئاً ما. لكنه حقيقةً لا يسحب خلفه إلا الفراغ، وبعضاً من التفاتات المارّة الجدد ممن لم يألفوا بعد وجوده الشهير في ساحات بلدي. قريباً من تماثيل القادة المنتصرين دوماً على الجميع، طفل صغير يقترب خلسةً ليدوس على نهاية الحبل؛ لم يلتفت صديقي حتى من باب الفضول لاكتشاف سرّ العرقلة المفاجئة. ببساطة، ترك الحبل ومضى في الشوارع ذاتها ضاحكاً. خافت الأمّ، وأنقذت صغيرها بحركة خاطفة مفترضةً أنّ ثمة ردة فعل قاسية ستصدر عن صاحب الحبل قبل أن يتركه. همست لها أنا القريب من المشهد، بألا تخاف. إنه لا يعرف القسوة والأذية كما لا يعرف الحنان واللطف. 

أين تكمن الفلسفة في قول "هيام"؟ إنها ببساطة لم تشتم الكرة الأرضية التي نعيش عليها فحسب، بل تفترض بشكل احترازي بأنه لو كانت هناك "كرات أرضيات" غير هذه، فيجب شتمها كذلك، إذ لا أمل في هذا الكون كله.

تؤكد كتب علم النفس والدراسات الأكاديمية الحصيفة، أنّ الجنون لا علاقة له بالعبقرية، وأنّ هذا الكلام مجرد أسطورة شعبية، وقد وقع في هذا الخلط الكثير من العلماء، لا البشر العاديون فحسب. استمرّ هذا السجال لقرون عدة بين المتحمسين لمتانة العلاقة -"العبقرية تساوي الجنون وبالعكس"- وهم يستعرضون لنا الكثير من الأمثلة والأسماء عبر التاريخ، وبين من يرى أن هذا مجرد تسرّع في الحكم، وإجراء هذا الاقتران غير دقيق علمياً. لكن أليست قمة العبقرية أن تقول لهذا العالم أنت لا تستحقّ ذرّة تفكير منطقي، ولا تستحق شخصاً سويّاً؟ أليس العباقرة عموماً هم من يعكّرون صفو المجتمع وركونه الآسن؟ إنهم أصحاب الحجارة التي تدوّر وجه البحيرات. أجد نفسي، ولأسباب ليست علميةً بحتةً، أحمل راية الفريق صاحب الخلط المتسرع بين الجنون والعبقرية، إذ لا أستطيع أن أرى "هيام" إلا فيلسوفة عبقرية، لخّصت التاريخ البشري على هذه الكرة الأرضية بشتيمة من ثلاث كلمات، حيث وقفت فجأةً في ساحة "الشيخ ضاهر في اللاذقية"، بين الجموع المقتولة ذهاباً وإياباً لا تلوي على شيء، كما لو أنّ حجارةً سقطت على ملامحهم، وقفت بهدوء وصارت تنظر إلى الأعلى ثم إلى الأسفل، مسحت بنظراتها كل الجهات، أخذت نفساً عميقاً، وبصوت سهل وواثق مسموع جيداً قالت: "إي… بأحسن كرة أرضية".

أين تكمن الفلسفة في هذا القول؟ إنها ببساطة لم تشتم الكرة الأرضية التي نعيش عليها فحسب، بل تفترض بشكل احترازي بأنه لو كانت هناك "كرات أرضيات" غير هذه، فيجب شتمها كذلك، إذ لا أمل في هذا الكون كله.

 يستعرض ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، بقراءة فلسفية جادة، تطور قضية التعامل مع الجنون في الغرب والموقف منه عبر عصور عدة، وصولاً إلى العقلانية الحديثة التي تعاملت مع الجنون على أنه مرض عقلي يستلزم العلاج، بينما فوكو نفسه، يرى أنّ الجنون نمط من التفكير المستقل والمختلف عن العامة، ويظنّ أنّ الطب سيبقى عاجزاً عن فهمه. يعرّف فوكو الجنون بقوله: "الجنون يغري لأنّه معرفة. إنّه معرفة لأنّ هذه الصور العبثية كلها تمثّل في الواقع عناصر معرفة صعبة، ومنغلقة، وباطنية".

كما يرى فوكو، في حديثه الطويل عن مراكز العزل (إصلاحية، مأوى، مارستان، ومستشفى...)، المنتشرة في الغرب منذ قرابة الخمسة قرون، كأحد الأساليب الوحشية المرعبة في التعامل مع المجانين. كانت هذه المراكز أدوات قمع وإهانة لكرامة البشر، وكانت بمعنى ما هي النواة الأولى للمستشفيات المعاصرة الخاصة بالأمراض العقلية. هنا فقط سأضيف إلى ما قاله فوكو، أنّ الأمر برمّته ما هو سوى استبعاد وعزل للحقيقي الذي يذكّر بالزيف الذي نعيشه ونتأقلم معه. 

ليس فوكو وحده من دافع عن الجنون. ممدوح عدوان قام بذلك أيضاً في كتابه" دفاعاً عن الجنون". وفي كلام عدوان، عن الفنان السوري "لؤي كيالي"، امتداح لحساسية الأخير التي توصل إلى الجنون بطبيعة الحال. أودّ أن أقول لممدوح، إنّ ما يحصل في هذا العالم "غزّة، سوريا، السودان، واليمن وغيرها من بؤر الهستيريا المسعورة بالعنف عالمياً، ولن أقول غير المسبوق لأنّ البشرية كانت وما زالت تقدّم استعراضاً مرعباً لكل أشكال العنف والتوحش… كل هذا لا يستدعي حساسيةً متقدةً، إنه يحتاج إلى الحواس فحسب، كوننا نعيش في عالم الميديا المشتغلة على حواسنا والمنبهة لها في كل ثانية. إنّ منسوباً بسيطاً من الحساسية يدفعك إلى الجنون.

أسير في شوارع مدينتي، وأجزم بأنّ ثمة رائحةً غريبةً تغطي المكان. إنها رائحة جنوننا المخفي، الممكيج بمساحيق الابتسامة الرصينة، والصوت الهادئ، والمشية المنتظمة، والهندام النظيف، وغيرها من عدّة النصب. 

أسير في شوارع مدينتي، وأجزم بأنّ ثمة رائحةً غريبةً تغطي المكان. إنها رائحة جنوننا المخفي، الممكيج بمساحيق الابتسامة الرصينة، والصوت الهادئ، والمشية المنتظمة، والهندام النظيف، وغيرها من عدّة النصب

في كتابه "البعد الخفي"، يعرض إدوارد تي، هول فكرة غريبة تستحق التأمل، خصوصاً أنه يقدّمها مستندةً إلى بعض الأبحاث الطبية للعالمة (كاثلين سميث). ملخص الفكرة أنّ الناس الذين يعملون مع أشخاص لديهم انفصام شخصية، زعموا أنّ لهم رائحةً خاصةً مميزةً. وفي ضوء التأثير القوي لنظام التواصل الكيميائي يتساءل المرء عما إذا كان من الممكن للخوف والغضب والرعب الفصامي، ألا تؤثر مباشرةً في أجهزة الغدد الصمّاء للشخص المجاور ("البعد الخفي" ترجمة لميس اليحيى دار الأهلية ص 68).

في مقابلة عمل من أجل وظيفة أخصائي في عيادة نفسية، قلت للّتي يُفترض أنها هي من سوف تختارني أو تستبعدني، قلت لها: أنا مريض نفسي، ابتسمت وقالت ما معناه: "السكافي (الإسكافيّ) حافي"؟!! كيف لك أن تساعد المرضى بينما أنت تحتاج إلى المساعدة؟! قلت لها: لا عليك، نحن السوريين جميعنا شجر محروق، دعونا نسدّ بعضنا البعض قدر المستطاع.

لا بدّ هنا من أن أقول إنني أمقت الأمثال الشعبية التي تتناول الجنون، حتى التي تنتصر له، فجميعها تتعامل من موقف متعالٍ وكأنّ هذه "الشعبية" متبصرة وواعية بما يكفي، كذلك أنا هنا في هذا المقال أتصرف بالمنطق ذاته! وما أنا إلا مجرد حاسد، أحلم بأن أكون "منجذباً" عن هذا العالم إلى عالم غريب بعيد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image