شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
يوميات محامية فلسطينيّة... تجربتي في زيارة معتقلي غزّة 

يوميات محامية فلسطينيّة... تجربتي في زيارة معتقلي غزّة 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اختفاء قسري برغم الأدلّة على الاعتقال

"أرجوكِ تحاولي تساعديني إنّي ألاقي ابني"، تقول "أ. س."، وتضيف: "أنا عندي أمل ألاقي ابني أستاذة جنان... أنا ضلّيت لحالي نازحة في مستشفى الإندونيسي... بيتي راح وأخويا اللي كان معي قصفوا بيته فوقه، واستشهد هو وزوجته وولاده بس عندي أمل ألاقي ابني".

وتسألني "ن. س."، عن موعد الزيارة، وتستشيرني: "بدّي أحكيلك إنه بنتي عمرها سنتين وأربعة أشهر استشهدت في مجزرة في مدرسة خديجة من أسبوعين، شو رأيك لو زرتي أبوها تبلّغيه ولّا كيف؟".

"أرجوكِ تحاولي تساعديني إنّي ألاقي ابني"، تقول "أ. س."، وتضيف: "أنا عندي أمل ألاقي ابني أستاذة جنان... أنا ضلّيت لحالي نازحة في مستشفى الإندونيسي... بيتي راح وأخويا اللي كان معي قصفوا بيته فوقه، واستشهد هو وزوجته وولاده بس عندي أمل ألاقي ابني"

وحين بدأ إطلاق سراح الأسرى، تعود "د. ي."، لتكتب لي بعد أشهر بعد أن كنت قد أخبرتها بأني تلقّيت ردّاً من السلطات، فيه أن زوجها ليس في سجونهم: "محامية... معقول اليهود يعلنوا أسماء الأسرى اللّي عاملين عليهم إخفاء قسري؟".

هذه الأسئلة كانت الأصعب، وأصعب منها الردّ عليها. فمن يعرف أن يجيب عن: أين هو ابن "أ. س."؟ وأين هو زوج "ن. س."؟ وأين هو زوج "د. ي."؟ وغيرهم العشرات والمئات ممن فُقدوا أو قُتلوا في غزّة أو في أثناء الاعتقال. والأصعب حين كانت بعض العائلات تؤكد أنّ لديها أدلّةً وإثباتات على أن ابنها اعتُقل، كوجود صور التُقطت للمعتقلين وهو بينهم، أو أنّ أحد المحررين أخبرها مؤكداً وجوده في المعتقل الفلاني، بينما تُصرُّ السلطات الإسرائيلية على أنه غير موجود لديها. وحين كنتُ أعاود سؤال السلطات عن معنى "غير موجود لدينا"، كان يأتي الردّ نفسه مقتضباً بأنه ليس على قائمة معتقلاتنا، ودون توضيح ما إذا كان قد اعتُقل أصلاً ثم أطلق سراحه دون تدوين اسمه بين المعتقلين، أو أنه قُتل على الطريق في أثناء الاعتقال دون أيّ توثيق، حيث يتيح لهم "قانون المقاتل غير الشرعي"، الذي اعتقلوا بناءً عليه آلاف الغزّيين، عدم إصدار أمر اعتقال لمدة خمسة وأربعين يوماً.  

في هذه الحالات، كنت أقع في حيرة: كيف أخبر العائلة التي تنتظر أيّ خيط من الأمل في الحياة؟ كيف أخبرهم بهذا الردّ، ومعناه أن لا أحد يعرف مصيره، أو أنه فُقد مع آلاف المفقودين أو قُتل، دون جثمان لدفنه؟

جنان عبده، أسرى غزة - 60*70 سم اكريلك على قماش- 10.2024

ماذا أقول للأهل بعد الزيارة؟

أسئلة أخرى اعتقدت أنّه سيكون أسهل عليّ الردّ عليها، فاكتشفت العكس، ولم تُسعفني خبرتي في العمل لسنوات كمحامية، في إيجاد الإجابات. حين كنت أنجح في معرفة مكان الاعتقال، وأقوم بتحديد زيارة، كنت أعتقد أنني بعد الزيارة سأنقل للأهل أخباراً تطمئنهم على أحبّتهم. لكن زياراتي التي قمت بها إلى السجون، ومنها "عوفر" العسكري والنقب، أوضحت لي أنني لن أنقل لهم أخباراً مطمئنةً كما أرادوا. فكمّية الانتهاكات التي تعرّض لها الأسرى كانت تضعني في حيرة حول ماذا أشارك الأهل؟ وكيف أطمئنهم على أحبّتهم وأنا أعلم أنهم يعيشون في ظروف لاإنسانية وحشية قاسية وصلت حدّ التعذيب؟ هل تطمئنهم معرفة أنّ أحبّتهم على قيد الحياة، ويكتفون بهذا؟ ماذا عن تفاصيل الحياة داخل السجن؟ أسئلة كان من الصعب في كثير من الأحيان الردّ عليها، لمعرفة قسوة وقع الحقيقة على آذانهم. لكني اخترت برغم هذا مشاركتهم ما يُمكن مشاركته، خاصةً متى أراد الأسير ذلك. ومن الأسرى من طلب عدم مشاركة الأهل التفاصيل القاسية، كي لا يزيد من همّهم. لم يعد أمر ظروف الاعتقال، وكمية الانتهاكات، من الأسرار، فقد تحدث عنها الزملاء والمحررون، ووصلت إلى وسائل الإعلام. والأهمّ هنا مشاركة الأهل في التفاصيل البسيطة والحقيقية التي ترُدُّ لهم الروح، وتطمئنهم على أحبّتهم، ومعرفة أنّ للزيارة واللقاء بهم أثراً إيجابياً على الأسرى أنفسهم. فحين كنت أعود إلى الأهل وأطمئنهم بأنّي التقيته، وأنّه على قيد الحياة، وأنه ابتسم في نهاية اللقاء و"بسلّم عليهم"، وأني أعتقد أنّ هذه الزيارة أمدّته بالقوة، وأعادت له إنسانيته... كنت أشعر بأنّ هذا كافٍ بالنسبة لهم. 

كيف أخبر العائلة التي تنتظر أيّ خيط من الأمل في الحياة؟ كيف أخبرهم بهذا الردّ، ومعناه أن لا أحد يعرف مصيره، أو أنه فُقد مع آلاف المفقودين أو قُتل، دون جثمان لدفنه؟

زيارة المحامي هي أكسيد الحياة لأسرى غزّة

شكّل عنصر المفاجأة، العُنصر الأساس لكل من زرتهم شخصياً بنفسي، حيث كانت بالنسبة لهم زيارتي ضرباً من الخيال. لم يفهموا بدايةً من أنا، ومن أين أتيت، وحين نطقت بكلمة أنّ أهلهم عايشين، وأنّي وصلت إليهم بتوكيل من الأهل، بإمكاني التأكيد تقريباً أنهم جميعهم فقدوا توازنهم العاطفي، على الأقلّ لدقائق بين فرح وصدمة وعدم تصديق أنّ أهلهم على قيد الحياة حيث تركوهم خلفهم قبل شهور، ولم يعرفوا منذ تلك اللحظة عنهم أيّ شيء، وليتبيّن أنه قيل لهم إنّ غزّة بكاملها لم تعد موجودةً ولا بشر فيها. 

لا أنسى تعابير "أ. ب."، وكيف انحنى أرضاً وأجهش بالبكاء فرحاً وصدمةً، وهو يكرر "أهلي عايشين... عن جد أهلي عايشين"، ولا أنسى تساؤل "ع. ب."، وهو يسألني: "طب ليش أنا هون لوينتا أنا هون"، ويضيف بسذاجة: "أنا طالب جامعي بدّي أنهي تعليمي ليه اعتقلوني"، وآخر يقول: "بفضّل أموت، شو يعني بقولولي إنت معتقل لنهاية الحرب... إن ما خلصت الحرب شو بصير؟".  

شكلت هذه الزيارات عاملاً مهماً في استعادة إنسانية الأسرى المعتقلين في ظروف تعذيب قاسية لاإنسانية. كانت الخمس وأربعون دقيقةً التي تم تقليصها لاحقاً إلى ثلاثين دقيقةً، بالنسبة لهم، أكسيد الحياة، متنفساً وتذكيراً بالحياة وبأنهم بشر حيث تم التعامل معهم على أنهم ليسوا كذلك، وزوّدتهم بالطاقة والقدرة على تحمّل الآتي. وليس صدفةً أن تأتي في المقابل محاولات تأجيل وعرقلة هذه الزيارات ومنعها. 

لا أنسى ابتسامة "ع. ب."، حين زُرته للمرة الثانية، بعد أن تمّ نقله إلى السجن. لا أنسى كيف تغيّرت تعابير وجهه. في الزيارة الأولى بدا وكأنه يرى شبحاً، وفي الزيارة الثانية علت وجهه الابتسامة، حيث دخل الغرفة مقيّد اليدين والرجلين، لكنه كان مبتسماً.  

سألته إن أخبره السجّانون بهوية المحامية، فقال: "كنت عارف إنه هاي إنت، وإنك راح ترجعي زي ما وعدتيني". كان هذا كافياً لي للتأكد من أهمية الزيارة التي تحولت فعلاً إلى بصيص أمل. 

ناقشنا قضايا قانونيةً وصحيةً تخصّه تجب متابعتها، وأخبرني بأنه التقى بعمّه في زنزانة الانتظار، وكان قد اعتُقل معه في اليوم نفسه، ومضى على اعتقالهما أكثر من ستة أشهر قبل أن يلتقيا مُجدداً مصادفةً دون أن يعلما أنهما في السجن ذاته. كان اللقاء بينهما حميمياً. لقاء عائلي زوّد كلاً منهما بالدفء والحب والفرح ولو لدقائق، قبل أن ينتبه السجان إلى الأمر ويفصلهما. دقائق كانت كافيةً لمدّهما بالأمل والطاقة اللازمة لتحدّي قسوة السجن. 

كنت أعلم أنّ كلاً منهما في السجن ذاته، لكنهما لم يكونا يعلمان ذلك، وكان طلبي لكليهما مباشرةً، واحداً بعد الآخر، سبباً في هذا اللقاء. 

وحين دخل العمّ غرفة الزيارات بعده، لاحظت الفارق في التعابير. لم يكن العمّ متفاجئاً كما حدث مع "ع. ب."، في الزيارة الأولى، بل كان مبتسماً وشكرني على الزيارة واطمئنّ مني على أهله. ودّعته بعد أن أخذت منه إفادةً، واتفقنا على أن أتابع بعض الأمور القانونية المتعلقة به. حدث أمر مشابه أيضاً مع "ر. ا."، وأخيه، وبرغم أنهما لم يلتقيا يوم زيارتي، لكن كان لقائي بكلّ منهما في اليوم ذاته، الواحد تلو الآخر، نوعاً من اللقاء بينهما دون أن يلتقيا.

جنان عبده، أسرى غزة- 60*90 سم- اكريلك على قماش- 10.2024


التدوين

أعتدت أن أدوّن مشاعري وأفكاري المرافقة لمتابعة قضايا الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية. تكثفت هذه المدوَّنات مع تكثيف الأحداث وتسارعها. لم يكن العام المنصرم سهلاً بالمرّة. منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، رافقتنا مشاعر العجز المفرط كمحامين أمام ما يحدث لأهلنا في غزّة من جهة، والتنكيل والتعذيب حدّ الموت في المعتقلات العسكرية والسجون التابعة لمصلحة السجون من جهة أخرى. اعتقدت أنّ الموت في غياهب السجون أمر أقرأ عنه في الصحف، ولم أكن أعلم أنّ أحد الأسرى الذين كنت أنتظر زيارتهم سيكون الضحية القادمة.

تكثفت هذه المدوَّنات مع تكثيف الأحداث وتسارعها. لم يكن العام المنصرم سهلاً بالمرّة. منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، رافقتنا مشاعر العجز المفرط كمحامين أمام ما يحدث لأهلنا في غزّة من جهة، والتنكيل والتعذيب حدّ الموت في المعتقلات العسكرية والسجون التابعة لمصلحة السجون من جهة أخرى

الزوجة والأولاد في غزّة وربّ العائلة في ثلاجة الموتى في "أبو كبير"

أرسلت لي "نورا"، بناءً على طلبي، صورةً لزوجها. كانت الصورة لشاب في الأربعينات من عمره. اقتُطعت جوانب الصورة وبقي هو يتوسطها وكان يمسك بكلّ يد من يديه، يد أحد أطفاله الصغار. لا أعرف لأي منهم هذه اليد، حيث اقتطعت "نورا"، بحدس الأمّ، باقي الصورة لتحمي أطفالها كونها أرسلت الصورة لأقوم باستعمالها في طلبي المُقدّم للمحكمة لمعرفة ما إذا كان من في الصورة هو نفسه الذي يرقد جثمانه في معهد "أبو كبير" للطب الشرعي، ومعرفة أسباب الوفاة والتأكد من مكان احتجاز الجثمان.

منذ أن اعتُقل زوجها في العام الماضي، من بيته وكان حينها بين زوجته وأطفاله في غزّة، وزُجّ به في السجون الإسرائيلية، لم تعرف عنه العائلة شيئاً. انقطعت أخباره وانقطعت الحياة العائلية والزوجية كما قُطع في الصورة عن المحيطين به.

الوحدة شعور قاتل، فكيف إن كانت وحدة سجين يجري عمليةً جراحيةً وحيداً لدى آسريه.

توجهت إليّ "نورا"، في تموز/ يوليو الماضي، طالبةً أن أساعدها في معرفة مكان سجنه. وبعد فحص الأمر مع السلطات، علمنا أنه في النقب في أحد السجون التابعة لمصلحة السجون، ما معناه أنه بالتأكيد مرّ بـ"سديه تيمان" قبل أن يصل إلى هناك، كما هي الحال مع آلاف المعتقلين الفلسطينيين الذي تم اعتقالهم من غزّة، وسجنهم في "سديه تيمان"، ومن ثم توزيعهم على باقي السجون، إما العسكرية كعوفر العسكري أو التابعة لمصلحة السجون كما النقب، وفيه العدد الأكبر منهم، أو نفحة ورمون اللذين تم توحيدهما مؤخراً تحت اسم عناتوت، أو في عوفر التابع لمصلحة السجون قرب بيتونيا، أو جالوت الذي افتُتح بالقرب من طبريا بعد الاجتياح البرّي للبنان ليستقطب من تسمّيهم إسرائيل "مقاتلين غير شرعيين"، سواء من لبنان أو من غزّة، أو سجن نفتالي المستحدث.

طلبت "نورا" أن نعرف مكان اعتقال زوجها وظروف اعتقاله. وبعد أن علمنا بمكان اعتقاله، كان لا بد من زيارته وإدراج اسمه على قائمة عشرات المعتقلين الذين ينتظرون الزيارة، حيث امتلأت السجون بالآلاف. عجزت المؤسسات الحقوقية عن تغطية كل هذا الكم الهائل، وسط العرقلات المذكورة سابقاً، ما أدى إلى عدم تمكّني من زيارته وكذلك غيري من الزملاء والزميلات.

لم أتمكن من معرفة أخبار زوج نورا، قبل الزيارة، ولا إمكانية لمعرفتها. بقي الأمر هكذا إلى أن جاء الخبر: "استشهاد أسير إضافي في سجون الاحتلال"، وأورد الخبر اسمه الرباعي. كان الخبر صادماً بالنسبة لي... قرأت الاسم ثم عدت فقرأته، ثم تناولت أوراقي ورحت أبحث فيها عن الاسم الرباعي، برغم أني كنت على يقين بأنه هو، إلا أني تمنّيت أن يكون اسم الأب أو الجد مختلفاً في أوراقي التي دوّنتها، عمّا نُشر في الخبر العاجل. لكن للأسف جاء الاسم الرباعي مطابقاً.

اتصلت بها. برغم صعوبة الأمر كان لا بدّ من ذلك. فكرّت كثيراً في الكلام الذي سأقوله والأسئلة التي سأسألها.

وجاء ردّها ليؤكد أنها تلقّت هذا الخبر الصادم حيث لم يشكُ زوجها قبل الاعتقال من أمراض، ولا من وضع صحي صعب. هذا الأمر يجعلنا نعتقد أنّ أسباب الوفاة ليست طبيعيةً.

قلت لها: لربما هناك خطأ في كتابة رقم الهوية، علينا أن نتأكد قبل أن نطالب السلطات بمعرفة أسباب الوفاة. تمنيت في قرارة نفسي أن يكون هناك خطأ ما، في الاسم أو الهوية. لكن للأسف جاء ردّ السلطات ليؤكد أنّ الجثمان الراقد في "أبو كبير"، لزوجها. 

طلبت منها أن ترسل لي صورةً له. كان لوقع الصورة عليّ أثر كبير. شعور من الصعب وصفه، وأنا أرى صورة إنسان مليء بالحياة، أب يتوسط أبناءه المقتطعين عنه، وأنا أعلم أني أنظر إلى صورة من صار جثةً داخل السجون.

قلت لها: لربما هناك خطأ في كتابة رقم الهوية، علينا أن نتأكد قبل أن نطالب السلطات بمعرفة أسباب الوفاة. تمنيت في قرارة نفسي أن يكون هناك خطأ ما، في الاسم أو الهوية. لكن للأسف جاء ردّ السلطات ليؤكد أنّ الجثمان الراقد في "أبو كبير"، لزوجها


بتروا رجله وحيداً في سجون الاحتلال

لا أنسى كم كان وقع الصورة عليّ صعباً. ذكّرني بشعور صعب رافقني حين أرسل لي "س. ف." صورته مع رجله المبتورة في أثناء اعتقاله في سديه تيمان، بعد أن تعرّض للتنكيل والضرب عليها، ثم للإهمال الطبي في معالجتها، ما فاقم وضعه فتدهور وجاء الطبيب ليقول له وهو معصوب العينين ومقيّد بالسرير، جملةً قال لي إنّه لن ينساها، وإنّ عالمه انهار من بعدها. قال له الطبيب: "اختر إما حياتك أو رجلك"... فاختار حياته، وكانت أصعب لحظات يمرّ بها في حياته. أقسى من التعذيب نفسه، حيث أُجريت له عملية البتر وهو مقيّد ومغطى العينين وبوجود الجنود في غرفة العملية رافضين الخروج منها كما طلب منهم الطاقم الطبي. قال لي "س. ف.": لا أقدر أن أصف لك معنى أن أجري هذه العملية وحدي، دون أهل حولي أو قريب.

الوحدة شعور قاتل، فكيف إن كانت وحدة سجين يجري عمليةً جراحيةً وحيداً لدى آسريه.

جنان عبده، د.حسام أبو صفية. 80*100 سم- اكريلك على قماش- 30.12.2024


منكم أستمدّ قوّتي للاستمرار

شعرت بالعجز في كثير من الأحيان كغيري من الزملاء والزميلات، أمام الكمّ الهائل من الاعتقالات، وكنت أشعر بالذنب كلما أخبرت عائلةً بأنّي لن أتمكّن من زيارة ابنها قبل أشهر، بسبب العدد الهائل من المعتقلين والتضييقات والتعجيزات التي وضعتها السلطات الإسرائيلية أمامنا، حيث ضيّقت علينا الزيارات، وحددتها وقلّصت المدة المتاحة لها، وتقوم في الكثير من المرات بإلغاء الزيارة في اللحظة الأخيرة أو إعلان حالة طوارئ بعد وصول المحامي إلى السجن، لتلغى الزيارة أو تؤجّل لشهرين أو ثلاثة، أو يتم نقل المعتقل عشية الزيارة إلى سجن آخر، كما حدث معي حين طلبت زيارة معتقلين في "سديه تيمان". بعد أن حُدّدت الزيارة هناك، اتصلت بي مسؤولة التنسيق عشيّتها، لتخبرني بأنه تم نقلهما إلى معسكر عوفر. منع ذلك لقائي بهما قريباً، ودخول "سديه تيمان"، والاطلاع على الأوضاع هناك. لكني في النهاية التقيتهما، وكان هذا الأهم.

شعرت بالعجز في كثير من الأحيان كغيري من الزملاء والزميلات، أمام الكمّ الهائل من الاعتقالات، وكنت أشعر بالذنب كلما أخبرت عائلةً بأنّي لن أتمكّن من زيارة ابنها قبل أشهر، بسبب العدد الهائل من المعتقلين والتضييقات والتعجيزات التي وضعتها السلطات الإسرائيلية أمامنا

برغم شعور العجز أحياناً وصعوبة الموقف، كانت لديّ كمحامية في هذه السنة القوّة والقدرة على فعل شيء ما ذي فائدة أمام العجز الكبير. فكلّما زرت سجيناً، ورأيت النور في عينيه في آخر الزيارة، والابتسامة تعود إلى محياه، وعلمت أنّ هذه الدقائق التي التقيته خلالها ستكون الطاقة التي يستمدّ منها القدرة على الاستمرار، دفعني الأمر لأستمرّ في دوري وفي ما أقوم به، فإنسانيتي والتزامي الأخلاقي الوطني جزء لا يتجزأ من عملي المهني ومن مهنيتي. 

من الأسرى والأهل أستمدّ قدرتي على الاستمرار. ابتسامة على وجه أسير، والشعور بالاطمئنان، وفرحة الأهل بالزيارة، وتحقيق إنجاز ولو صغير، وتغيير مهما كان ضئيلاً في حياة أسير... هي بالنسبة لي القوة التي تدفعني للاستمرار.

كان وقع صور الأسرى المحررين التي وصلتني من عائلاتهم في الساعات الأولى، كبيراً. برغم هزلهم وتعبهم ومرضهم، فرحت بأنهم وأخيراً أحرار خارج السجون.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image