"أجبروني على حمل طائرة مسيّرة ودخول سبعة بيوت، من أجل تصويرها والتّأكد من خلوّها من السكان أو من الأدوات العسكريّة. بكى طفلي الرضيع لساعات وهو ينتظرني. طلبت منهم إرضاعه لكنّهم رفضوا طلبي، واستمرّوا في استخدامي درعاً بشريّاً"، تقول هزار الستيتي (33 عاماً)، من مخيّم جنين، لرصيف22.
خلال عمليّاته العسكريّة في مخيم جنين، وحصاره الذي دام عشرة أيّام، في آب/ أغسطس 2024، أجبر الجيش الإسرائيليّ "هزار"، على ترك طفلتها ذات الأشهر الستة، والقيام بهذه المهمّة التي تقول إنّها لم تتوقّف عن البكاء خلال تأديتها. "وضعوني في مقدّمة قوّة مشاة مكوّنة من نحو 30 جندياً، بيني وبينهم مسافة 10 أمتار، ومن ثمّ أعطوني أوامر بدخول البيوت، وإجبار سكّانها على الخروج منها، وتصويرها لهم قبل اقتحامها واعتقال الشّبان المطلوبين فيها"، تضيف.
وصلوا إلى بيتي. فجّروا الباب، وصرخوا في وجه ابنتي الصّغيرة، ثمّ خيّروني بين أن يسلبوني ابنتي، أو أن أكون درعاً بشريّاً
ما حدث مع هزار، لم يكن حادثاً عابراً، أو تصرّفاً اعتباطيّاً صادراً عن جنديّ أو فرقة، بل هو أسلوب عسكريّ ممنهج "يحدث بعلم القيادات العليا في الجيش الإسرائيليّ"، كما جاء في اعتراف الجنود أنفسهم في تحقيق سابق لصحيفة "هآرتس". "في الجيش يعرفون أنّه ليس حدثاً منفرداً من قائد سريّة شاب وغبيّ يقرّر التصرف بمفرده"، يقول أحد الجنود للصحيفة.
لكن مع بدء حرب الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة، وُثّقت قصص لاستخدام الجيش أجساد النّساء بشكل خاصّ، وضمن بروتوكولاتٍ معروفة ومُتّبعة فيه، من أجل تحييد الخطر عنهم في عمليّاته البرّية واجتياحاته للمناطق الفلسطينيّة.
"خُيّرتُ بين خطف ابنتي وبين أن أكون درعاً بشريّاً"
في ذلك اليوم، دخل نحو 70 جنديّاً إسرائيليّاً إلى المخيم وحاصروه، ثمّ اعتقلوا عدداً من الشّبان، حتّى وصلوا إلى بيتي. فجّروا الباب، وصرخوا في وجه ابنتي الصّغيرة، ثمّ خيّروني بين أن يسلبوني ابنتي، أو أن أكون درعاً بشريّاً"، تقول إيمان العامر (41 عاماً)، من مخيّم جنين، لرصيف22.
طلب الجنود من إيمان، بعد موافقتها تحت التهديد، أن تفتّش عدداً من البيوت بعد أن تطلب من أصحابها الخروج منها، وإبلاغهم بأنّ النار سوف تُطلَق عليهم إن لم ينصاعوا لهذه الأوامر.
الأشخاص الذين لم يكن من الممكن استخدامهم في الماضي كدروع، لأنهم كانوا يُعدّون "مهمّشين" اجتماعياً، مثل النساء والأطفال، يُعدّون الآن أكثر قيمةً، ما يجعلهم صالحين كدروع
تأتي هذه القصّة كجزء من بروتوكول يُعرف باسم "البعوض"، وهو بروتوكول غير معلَن من قبل الجيش الإسرائيليّ، لكنّ جنوداً إسرائيليين اعترفوا باتّباعه في مقابلات مختلفة.
و"البعوض" أسلوب عسكريّ يستخدم المعتقلين الذين يأسرهم الجيش مباشرةً في المنطقة، حيث يُكلّفون بمهام سريعة في مواقع مدنيّة أو غير مدنيّة، قبل دخول الجنود إليها، دون نقلهم كمعتقلين إلى داخل السجون الإسرائيليّة، ويتم احتجازهم أحياناً لأيّام أو حتّى أسابيع.
لماذا النساء؟
طال استخدام إسرائيل لأجساد الفلسطينيين كدروع بشريّة، بجميع فئاتهم العمريّة والجندريّة، فاستهدف، بالإضافة إلى الرّجال، الأطفال والشيوخ والنّساء، على مدار عقود احتلاله للأراضي الفلسطينية، لا في أثناء العمليّات العسكريّة الكبيرة وحسب.
"إنّ نظرة القوى الاستعماريّة إلى قضايا الجندر، نظرة جامدة وثابتة، تتلخّص في أنّ المرأة كائن ضعيف يمكن توظيفه كأداة، عبر التحرّش بها أو اغتصابها، أو عبر استخدامها أداةً للضّغط على المقاومين من أجل تسليم أنفسهم، أو للقيام بعمليات عسكرية مختلفة. وفي هذا الإطار، يمكننا فهم استخدام جسدها أيضاً كدرع بشريّ، من أجل الضغط على المقاومين لعدم استخدام السلاح ضدهم في أثناء العمليات العسكرية، بالنظر إلى مكانتها "الحسّاسة" بالنسبة لهم"، تقول الدكتورة لينا ميعاري، من دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة ومعهد دراسات المرأة، في حديثها إلى رصيف22.
وفي بحث عن العلاقة بين الدّروع البشريّة والجندر، يشير كتاب "الدروع البشريّة: تاريخ أناس في خط النّار"، إلى أنّ الازدياد في الاهتمام بالمرأة وقضاياها عموماً في العالم، تزامن مع استخدامها درعاً بشريّاً في الحروب، فاستخدام النّساء لم يكن أمراً موجوداً قبل مئة وخمسين عاماً، إنما برز استخدامهنّ مع توسّع مفاهيم المدنيّة والإنسانيّة العالميّة. وعليه، فإنّ الأشخاص الذين لم يكن من الممكن استخدامهم في الماضي كدروع، لأنهم كانوا يُعدّون "مهمّشين" اجتماعياً، مثل النساء والأطفال، يُعدّون الآن أكثر قيمةً، ما يجعلهم صالحين كدروع".
برزت خلال حرب الإبادة الإسرائيليّة الأخيرة، قصّص لعدد من الأطفال الذكور والإناث في فلسطين، ممّن استخدمهم/ نّ الجيش الإسرائيليّ دروعاً بشريّةً، منها قصّة الطفلة ملاك شهاب (9 سنوات)، من مخيّم نور شمس، التي أخرجها الجنود من بيتها برفقة عائلتها، واحتفظوا بها لتكون درعاً بشريّاً.
وبحسب رواية ملاك، فقد "دفعها الجنود إلى كلّ باب من أبواب منزل عمّتها، بينما ظلّوا مرابطين خلفها على أهبّة الاستعداد لإطلاق النّار. وحين لم يفتح أحد الأبواب، ولشدّة يأسها من الامتثال لأوامرهم، طرقته برأسها".
للتهجير!
"استخدموني كدرع بشريّ ثلاث مرات منذ طفولتي حتّى الآن. وفي كلّ مرة نفّذتُ فيها مهمّةً عسكريّةً تحت التهديد، كانوا يطلبون مني الرّحيل من المخيم بعد أداء المهمة. لو استخدموني ألف مرّة درعاً بشريّاً، سأبقى هنا في حارتي ومخيّمي"، تقول هزار.
ربّما يدلّل هذا الطلب على أنّ هذه البروتوكولات قد تتجاوز كونها أدوات عسكريةً لحظيّةً، إذ تعدّ الجسد الفلسطيني هدفاً بحدّ ذاته، وكذلك الفرد. "لقد استُخدمت النساء دروعاً بشريّةً في مخيّم جباليا، ضمن المخطط الأوسع لتفريغ المكان من سكّانه"، تقول ميعاري.
لأوّل مرة أشعر بأنّ الموت وشيك. فأنا أعرف الكثير من القصص عن فلسطينيين قتلهم الجنود بعد انتهاء المهام التي أوكلت إليهم. كنت أنطق بالشهادتين فور دخول كلّ غرفة، وكأنني ألفظ أنفاسي الأخيرة
وتضيف: "يلجأ المستعمِر إلى النّساء في اللحظات التي يكون فيها غير قادر على ضبط مقاومته وحماية نفسه. الهجمات في مخيّم مثل جباليا كانت غير متوقّعة، فاستخدم الجيش الإسرائيليّ كلّ وسيلة متاحة لحماية نفسه، والدروع البشريّة واحدة منها".
وضمن سياسة تهجير المدنيين التي اتّبعها الجيش منذ اليوم الأوّل لحرب الإبادة الإسرائيليّة، كشف تحقيق لموقع "أحرّ مكان في جهنّم" العبريّ، عن استخدام مُسنّة ومسنّ غزيَّين، درعَين بشريَّين كوسيلة لإخراجهما من بيتهما، بعد أن قالا إنّهما لا يستطيعان المشي إلى خان يونس، ولم يجدا مكاناً يهربان إليه بناءً على أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش.
وتوصّل تحقيق للمرصد الأورو-متوسّطيّ، إلى هويّة الزوجين المسنّين: مزيونة أبو حسين ومحمّد أبو حسين، وقد أُجبرا على دخول المنازل للتأكّد من خلوّها من المخاطر. وبعد إتمام المهمّة، أُعدما رمياً بالرصاص.
بروتوكول "الدبابير" في غزّة
إثر اعتقاله بعد السّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، من قطاع غزّة، استُخدم المواطن مهنّد وصفي، درعاً بشريّاً. "بعد 45 يوماً من اعتقالي في السّجون الإسرائيليّة، نقلوني إلى جنوب القطاع لأداء مهمّة عسكريّة؛ البحث عن أنفاق داخل البيوت. وبالفعل، قمتُ بالبحث داخل البيوت المفرغة من الناس، كي أعثر على دليل على وجود نفق. رفعت السجاد والأثاث في المنازل للبحث عن فتحة، لكنّي لم أجد شيئاً"، يقول لرصيف22.
ويتابع الحديث عن الشّعور الذي انتابه في تلك اللحظات: "لأوّل مرة أشعر بأنّ الموت وشيك. فأنا أعرف الكثير من القصص عن فلسطينيين قتلهم الجنود بعد انتهاء المهام التي أوكلت إليهم. كنت أنطق بالشهادتين فور دخول كلّ غرفة، وكأنني ألفظ أنفاسي الأخيرة".
تتطابق قصّة مهنّد، مع ما يُعرف ببروتوكول "الدبابير"، الذي ينقل الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من السّجون إلى مواقع القتال، حيث يستخدمهم كدروع بشريّة.
وتميّزت مهام البحث عن أنفاق، بحسب هذه الشّهادة وشهادات آخرين، بإجبار "الدرع البشري" على ارتداء الزيّ العسكريّ الإسرائيليّ، ربّما لتنظيف أبواب الأنفاق من المتفجّرات في حال وُجد النّفق، وتمّ تفجيره من قبل المقاتلين.
"ألبسوني زيّهم، ووضعوا على رأسي قبّعةً وكاميرا وجهازاً صوتياً. عصبوا عينيّ وكبّلوا يديّ، ثمّ أمروني بتفتيش المواقع. كذلك، حقّقوا معي وعذّبوني. في إحدى المرّات، وضعوني في غرفة وعرّوني وقاموا بتشغيل المكيّف، ثمّ بتشغيل الموسيقى بصوت مرتفع باللغة العبريّة، حتّى فقدتُ السّمع بشكل جزئيّ"، يقول مهنّد.
ومما ورد في شهادة للممرّض حسن الغول، من قطاع غزّة: "أجبروني على ارتداء زيّ عسكريّ كامل لكن من دون سلاح، وأعطوني 'قطّاعةً'، و'كشّاف ضوء'، وقالوا لي سنذهب إلى مستشفى ناصر لنقتحمه. سوف تدخل أنت قبلنا. هناك فتحة سنشير لك إليها، وستكون فوق رأسك طائرة مسيّرة. نحن نتحكم فيها، فإذا فعلت أي شيء نحن نراك ونراقبك".
ويتابع حسن: "قالوا لي سوف تذهب إلى المستشفى، وإذا وجدت أيّ مدني قل له أن يخرج لأنّ الجيش سيقتحم المستشفى. أيّ باب مغلق افتحه. أيّ جرّة غاز فيها سلك اقطعه. قاطعت الجنديّ قائلاً: أيّ جرّة غاز مع سلك يُمكن أن تنفجر بي. فقال لي: فلتنفجر، لهذا السبب أرسلناك. فنفّذتُ المهمّة تحت التهديد والسّلاح".
خرق "للقانون الإسرائيليّ" أيضاً؟
ولعلّ البروتوكولات العسكريّة آنفة الذّكر، تُعرّف وسائل وطرائق استخدام الفلسطينييّن كدروع بشرية لفترة تاريخيّة حديثة، ولا تلخّص تاريخ المكان الحافل بهذه الممارسة حتّى قبل إنشاء دولة إسرائيل. فعلى سبيل المثال، وثّق الكاتب تشارلز أندرسون، في بحثه "عندما تحوّل الفلسطينيّون إلى دروع بشريّة"، حادثة أوّل درع بشريّ تمّ استخدامه في فلسطين في فترة الثورة العربيّة عام 1936، وهو سليمان طوقان، رئيس بلدية نابلس، الذي حظي بقيمة اجتماعيّة وسط أهالي المنطقة. وضعه الجيش البريطانيّ فوق سطح مبنى تابع للجيش، من أجل حماية عناصره من هجوم المقاومين الفلسطينيين. ويشير أندرسون، إلى أنّه تمّ استهداف الثوّار الفلسطينيّين وردع الهجمات المتوقّعة من قبلهم، في الشرايين الأساسيّة في المناطق.
استخدموني كدرع بشريّ ثلاث مرات منذ طفولتي حتّى الآن. وفي كلّ مرة نفّذتُ فيها مهمّةً عسكريّةً تحت التهديد، كانوا يطلبون مني الرّحيل من المخيم بعد أداء المهمة. لو استخدموني ألف مرّة درعاً بشريّاً، سأبقى هنا في حارتي ومخيّمي
ولعلّ هذا الانتهاك الإسرائيليّ لأجساد الفلسطينيّين والفلسطينيّات، برز خلال اجتياح مدن الضفّة الغربيّة خلال الانتفاضة الثانية في آذار/ مارس 2002، وعُرف باسم "إجراء الجار"، وهدف إلى تمشيط المنازل قبل دخول الجيش إليها للبحث عن مطلوبين.
وإثر الانتفاضة الثّانية، صدر قرار عن المحكمة الإسرائيليّة العليا، بتاريخ 6 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2005، يمنع استخدام المواطنين الفلسطينيّين دروعاً بشريّةً في العمليّات العسكريّة، إلّا أنّ الجيش استمرّ حتّى هذه اللحظة في استخدامهم، خارقاً جميع الأعراف والقوانين الدوليّة.
يحظر القانون الدوليّ استغلال أو استخدام الخاضعين لحماية اتفاقيّّات "جنيف" الرّابعة، بحسب المادتين 28 و49 منه، كدروع بشريّة بهدف تحصين المواقع العسكريّة من هجمات العدوّ أو منع الهجمات المضادّة الانتقاميّة خلال هجومٍ ما.
ويمنح القانون الدولي الإنساني النساء، في أوقات النزاع، الحماية العامة، فيأخذ في الحسبان الحقيقة القائلة بأنّ النساء، بشكل خاصّ، يتعرّضن لأنواع محدّدة من العنف. وعليه، يحتجن إلى حماية خاصّة كونهنّ أمّهات، وكونهنّ أكثر عرضةً للعنف الجنسيّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohamed Adel -
منذ 3 أياملدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ 3 أياماذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ 5 أيامهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...
Rebecca Douglas -
منذ 5 أيامنحن أنصار الإمام المهدي عبد الله هاشم أبا الصادق(ع) ناس سلميين ندعو للسلام والمحبة وليس لنا علاقة...
Baneen Baneen -
منذ 5 أيامنقول لكم نحن لا نؤذيكم بشيء وان كنا مزعجين لهذه الدرجة، قوموا باعطائنا ارض لنعيش فيهاا وعيشوا...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...