"وجه كان يسكن قلبي وأسكن غرفته، نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة". راودتني هذه السطور التي كتبها الشاعر أمل دنقل، ذات يوم، تعبيراً عن فقدانه شخصاً مقرّباً. سمعت صداها مرتَين في تجربتَين مختلفتَين حين اختفى أصدقاء لي فجأةً، كأنهم لم يكونوا، بعدما كنّا نقضي أغلب الأيام في تواصل مستمرّ، وكنت أتوهّم حميمية علاقتنا. أوجعتني التجربة ولم أنسَها، وظلّت تطاردني في أحلامي لأيام طوال.
أصبح اختفاء الأصدقاء المفاجئ دون مقدمات أو تفسير، ظاهرةً متكررةً، خاصةً مع تسارع نمط الحياة وتغيّر العلاقات الاجتماعية. فجأةً، نجد أنفسنا نحاول الاتصال بصديق مقرّب، لنكتشف أنّه لم يعد يردّ، أو أصبح يعاملنا كالغريب الذي لم يشاركنا يوماً فنجاناً من القهوة وقليلاً من الضحكات. ببساطة، تلاشى من حياتنا دون كلمة وداع واحدة، أو تفسير منطقي. هذا الاختفاء يترك أسئلةً بلا إجابات، ويثير مشاعر تتراوح بين الحزن والخذلان والحيرة.
الصداقة كالحب تحتاج إلى بصيرة
تحكي بليك تورك، في مقالة لها، عن صدمتها بخصوص اختفاء صديقتها دون مبرر، فتقول: "كما هو الحال في الحب، تتطلب الصداقة قدراً من التمييز والبصيرة حتى لا ننخدع بالمظاهر، ويصل الأمر في النهاية إلى صاعقة نفسية لا تُحتمل".
بدورها، تقول سارة فلورنسا، في مقالة لها: "ليس في الحب وحده يمكن أن نتعرّض للتجاهل والاختفاء المفاجئ، بل في الصداقة أيضاً".
قد يختفي شخص كنت تظنّه صديقك دون أي تفسير، بين ليلة وضحاها. فعلى مدار الحياة، تتغير علاقاتنا، وقد نفقد الاتصال ببعض الأصدقاء والمقرّبين، لكن ما يجعل "التجاهل" مؤلماً بشكل خاص، هو الغموض الذي يحيط به، فنظلّ نتساءل عمّا فعلناه خطأً، وغالباً دون أن نجد إجابةً.
نجد أنفسنا نحاول الاتصال بصديق مقرّب، لنكتشف أنّه لم يعد يردّ، أو أصبح يعاملنا كالغريب الذي لم يشاركنا يوماً فنجاناً من القهوة وقليلاً من الضحكات. ببساطة، تلاشى من حياتنا دون كلمة وداع واحدة، أو تفسير منطقي. هذا الاختفاء يترك أسئلةً بلا إجابات، ويثير مشاعر تتراوح بين الحزن والخذلان والحيرة
تحكي شيرين (28 عاماً)، عن كيف اختفت صديقتها من دون إنذار: "كانت لديّ صديقة اختفت من حياتي فجأةً بلا مقدمات، وقبلها بليلة واحدة رافقتني إلى السينما، ثم في اليوم التالي لم تردّ على اتصالاتي أبداً، حتى أننا تقابلنا صدفةً في منزل صديقة مشتركة، ولم تلقي عليّ تحيةً واحدةً، لم أفهم السبب أبداً، وأثق تماماً بأنني لم أسبّب لها أيّ نوع من الأذى أو الإزعاج، لذا أصابتني حالة عصبية لم أتعافَ منها حتى الآن برغم مرور عامين على هذا الموقف".
تضيف شيرين، وهي تتذكر موقف صديقتها التي استضافتها في منزل عائلتها بمحبة وكرم، ولم تتلقَّ فيه سوى معاملة لا تستحقّها: "حصلي تروما. مبقتش أقدر استحمل أي حدّ يختفي ويسكت فجأة، والأفضل نتخانق ونتعاتب لكن متختفيش".
وتختم: "أنا كرهتها ولو جات فرصة هقولها كده. جوايا طاقة غضب إني أضرب أي حدّ عمل فيّ كده لأني مستحقش ده. مفيش شخص يستحق كل ليلة يسأل نفسه هو أخطأ في إيه".
في دراسة بعنوان "Understanding the Disappearing Act"، يُشير مصطلح "الاختفاء المفاجئ" (Ghosting)، الذي بات شائعاً في السنوات الأخيرة، إلى إنهاء جميع أشكال التواصل مع شخص ما بشكل مفاجئ، دون أي تفسير أو تحذير مسبق، سواء في سياق العلاقات العاطفية أو الصداقات. هذه الظاهرة تترك الطرف الآخر في حالة من الحيرة، الألم والشعور بالرفض.
ومن منظور نفسي، يمكن عدّ الاختفاء المفاجئ سلوكاً قائماً على التجنّب، حيث يلجأ الأفراد إليه للهروب من المواجهة، أو تجنّب المحادثات غير المريحة، أو تفادي الصراعات المحتملة. ببساطة، يختار الشخص أن يختفي من حياة الآخر، عوضاً عن مواجهة مشاعر عدم الارتياح أو الشعور بالذنب المرتبط بإنهاء العلاقة بشكل مباشر وصريح.
في هذا السياق، تقول نور فكري (26 عاماً) لرصيف22: "تعرفت إلى صديق قبل فترة ليست ببعيدة، أو بمعنى أدقّ هو من بادر إلى التعرف إليّ. كان يحادثني يومياً، ونتناقش في أمور الحياة كافة. كان يشاركني يومه وتفاصيل عمله واهتماماته. تمشّينا لمرات، والتقطنا صوراً ما زلت أحتفظ بها على هاتفي. تؤلمني كلما رأيتها. فجأةً اختفى، ولم يعد يرسل إليّ أيّ رسائل يومية".
تضيف نور: "لأسبوعين متواصلين يطاردني في أحلامي. أتفقد هاتفي ولا أعثر على رسالة واحدة. أعيد سماع تسجيلاته الصوتية عبر واتساب، ثم أغلق شبكة الإنترنت وأعيد تشغيلها ظنّاً مني أنّ رسائله يعيق وصولها ضعف شبكة الإنترنت. كانت فترةً مأساويةً بكل المقاييس، بكيت فيها كأني فقدت جزءاً من روحي، وحتى الآن يخفق قلبي بشدّة إذا صادفته في مكان ما. أشعر بأنّ حديثاً داخلي ينتظره، ربما أستطيع يوماً أن أخبره بأنه آذاني بشدّة، حتى أنني أشعر وكأنّ روحي أصبحت مبتورةً فعلاً".
يعلّق الدكتور ماجد أرنست، استشاري الطب النفسي، قائلاً إنّ علاقات الصداقة إذا كانت قويةً وحقيقيةً، تصبح أكبر داعم للإنسان في حياته: "روابط الصداقة ربما تكون أكثر متانةً حتى من علاقات الأقارب".
يرى أرنست، أنّ الصديق الحقيقي لا يختفي فجأةً، وأن هذه الظاهرة تصبح بلا معنى تماماً ومجرّدةً من التعريفات كافة التي تناقش الصداقة: "لا يمكن لصديق أن يختفي فجأةً من حياة صديقه، إلا إذا كانت علاقته من البداية ضعيفةً".
ويضيف الدكتور ماجد لرصيف22: "أحياناً في بعض العلاقات ونتيجة الفتور والملل، وتحديداً إذا كان طرف من الطرفين لا يأبه بالعلاقة ولا يبذل مجهوداً من أجل استمرارها، هنا وبعد محاولات وشعور سلبي يصل لأحدهم، لا يجد أمامه سوى الرحيل فجأةً دون محاولات أخرى ولا حتى تفسير، لأنه يرى من وجهة نظره أنه أعطى إشارات عديدةً لم تُفهم في وقت طويل".
الصداقة والاختفاء في عالم السوشال ميديا
الاختفاء المفاجئ في علاقات الصداقة أصبح أكثر شيوعاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي. هذه المنصات سهّلت تكوين العلاقات، لكنها جعلت إنهاءها أيضاً أكثر بساطةً من خلال ميزة التجاهل أو الحظر دون الحاجة إلى تبرير. في الماضي، كانت الصداقات تتطلب مواجهةً مباشرةً عند حدوث خلاف أو رغبة في الانسحاب. أما اليوم، فيكفي التوقّف عن الردّ أو حذف الحساب لإنهاء العلاقة.
تؤكد الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع، في حديثها إلى رصيف22، أنّ هناك عدداً كبيراً من الكتابات والدراسات التي تناقش دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعميق الفجوات بين الروابط والصلات، وأهمها كتابات زيغمونت باومان، التي عنونها بـ"الحداثة السائلة"، والمقصود بها العولمة. يؤكد باومان، في كل كتبه، على الدور السلبي التي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في تفكيك العلاقات الاجتماعية بمختلف أنواعها، فمن خلال ضغطة على زرّ، يمكننا محو أي شخص من حياتنا فجأةً، ومن دون تمهيد أو مقدّمات.
"كما هو الحال في الحب، تتطلب الصداقة قدراً من التمييز والبصيرة حتى لا ننخدع بالمظاهر، ويصل الأمر في النهاية إلى صاعقة نفسية لا تُحتمل"
في مقالة بعنوان "Loneliness in a Connected World: The Decline of Human Contact"، يذكر بول كييرنان أنّ انتشار منصات التواصل الاجتماعي أدى إلى تغيير الطريقة التي نتواصل بها وننقطع عن بعضنا البعض، حيث مكّنتنا من البقاء على اتصال مع الأصدقاء بغض النظر عن المسافة الجسدية. ومع ذلك، فإنّ جودة هذه التفاعلات غالباً ما تكون باهتةً، مقارنةً باللقاءات وجهاً لوجه، كما تعزز وسائل التواصل الاجتماعي ثقافة العرض الذاتي المنسّق، حيث يقوم الأفراد بصياغة شخصياتهم عبر الإنترنت بدقّة، مع تسليط الضوء فقط على الجوانب الأكثر إيجابيةً في حياتهم، لذا يمكن أن يؤدي هذا إلى خلق واقع مشوّه.
وزيادةً على ذلك، أدّت سهولة الاتصال الرقمي، إلى تآكل تدريجي للأشكال التقليدية للتفاعل الاجتماعي. فبدلاً من لقاء الأصدقاء لتناول القهوة أو الانخراط في محادثات ترفيهية، يختار العديد من الأفراد تبادل المحادثات القصيرة بدلاً من الرسائل النصية أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين قد تعمل هذه التفاعلات الرقمية كبديل مؤقت للتواصل وجهاً لوجه، فإنها غالباً ما تفتقر إلى العمق والحميمية التي تميّز العلاقات الإنسانية الأصيلة، وقد يؤدي انتشار التفاعلات السطحية إلى التنصل منها بالسطحية نفسها والمفاجأة عينها.
تتفق الدكتورة سامية قدري، مع هذه الرؤية، فتشير إلى أنّ علاقات الصداقة تأثرت بوجود السوشال ميديا، لأنها قامت بتعليب هذه العلاقة ورسمت لها إطاراً غريباً، واختصرتها في مجرد بعض الرموز والتفاعلات والتعليقات، أو التجاهل التام للمنشورات وكأنه بمثابة تجاهل للشخص نفسه. كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لا تغني أبداً عن الوجود الفعلي والتحية باليد أو العناق أو القبلات، ومع تسارع الحياة الشديد ضعفت هذه الروابط شيئاً فشيئاً، وأصبحت تُسمّى صلات بدلاً من روابط، لأنه مصطلح أكثر هشاشةً.
ترى قدري، أنّ هناك بعض العوامل الاجتماعية التي تؤثر في اتخاذ الفرد قرار الاختفاء المفاجئ، وتحديداً بغلق أو استبعاد الصديق/ ة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها الشعور بالخجل من المواجهة أو عدم القدرة على التواصل والشرح.
صدمات وتأثيرات نفسية
تُعرَّف صدمة الهجر بأنها استجابة عاطفية عميقة قائمة على الخوف، وناتجة عن تجارب الفقدان، مثل فقدان شخص مهم، الانفصال غير المتوقع، أو الإهمال المبكر من قبل الشخصيات الأساسية في الحياة، سواء كان ذلك جسدياً أو عاطفياً، وفقًا للأخصائية الاجتماعية المعتمدة كلوديا غولدستين.
هذه الصدمة لا تتعلق فقط بلحظة الهجر نفسها، بل بكيفية استمرار هذه التجربة في التأثير على نظرتك إلى العلاقات ومستوى صحتك النفسية، وفق ما توضح الأخصائية النفسية نيكول ماسيللي: "أبسط طريقة لوصفها هي الخوف من أن يتركك الآخرون، خاصةً عندما تصبح العلاقة أكثر عمقاً وتتطلب مزيداً من الانفتاح العاطفي". على سبيل المثال، قد تخشى أنه كلما تعرّف شخص ما إليك بعمق ورأى حقيقتك، زادت احتمالية أن يهجرك.
ما هي التأثيرات النفسية التي تقع على الفرد الذي عانى من تجربة اختفاء صديق فجأةً؟ وكيف يفكّر من يختفي هكذا؟
يقول الدكتور خليل فاضل، استشاري الطب النفسي وزميل الكلية الملكية في لندن، لرصيف22: "من الممكن تفسير الاختفاء المفاجئ في علاقات الصداقة، بأنه سلوك لأشخاص غير عاديين لديهم صراعات عديدة منذ الطفولة، أو تكوّن إزاء علاقات مختلفة في الكبر، فهم كما الجميع لديهم دفاعات نفسية، لتفادي التوتر والقلق. هنا يحدث الاختفاء، لأنه فعل يحمي المختفي من صراعاته الداخلية غير المحلولة مثل الخوف من الهجر.
يضيف فاضل، أنّ هناك ما يُعرف بمصطلح "الجرح النرجسي": "يخشى الفرد المختفي أن يُجرح في أيّ شيء يخصه، ويرى نفسه شيئاً لا يمكن المساس به أبداً في تجاربه الإنسانية، لذا يهرب من التجارب فجأةً، ليحتفظ بهالته كما هي".
والاختفاء المفاجئ دون سبب، مؤشر على اضطرابات نفسية تسمّى غالباً "اضطراب الشخصية الحدية"، إذا كان نمطاً متكرراً، فيقترب الشخص من شخص آخر فجأةً، ويتسبب في تعلّقه الزائد، وفجأةً يختفي ويتنقل من علاقة إلى علاقة بالسلوك نفسه.
في الماضي، كانت الصداقات تتطلب مواجهةً مباشرةً عند حدوث خلاف أو رغبة في الانسحاب. أما اليوم، فيكفي التوقّف عن الردّ أو حذف الحساب لإنهاء العلاقة
يبرر الدكتور فاضل، الاختفاء المفاجئ القائم على أسباب محددة، مثل الاختفاء من علاقة مزعجة ومؤذية، بأنه أمر صحي تماماً، في حين أنّ الإنسان المضطرب هو الذي يقفز من علاقة إلى أخرى، وينسحب منها من دون تمهيد أو توضيح، ولا يشعر بالذنب جرّاء هذا.
يختم الدكتور خليل فاضل حديثه بالقول: "يشعر الفرد بانزعاج شديد لما استثمره في علاقاته حين تُهدم. يزداد وحشيةً هذا الشعور إذا كان ناجماً عن انفصال مفاجئ لا مبرر له، لأنّه مهما كان التوقيت الذي قضاه فإنّ الوقت يحمل في طياته ذكريات ومشاعر وعشرةً. لا توجد نصائح معلبة يمكن اقتراحها لتخطّي الأمر، لكن هناك خطوات علاجية لا بدّ من المرور بها والوعي بضرورتها، ويتحدد ذلك بناءً على مدى قوة العلاقة أو ضعفها، أو ما كان كامناً في الأعماق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Souma AZZAM -
منذ يومالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ يومينأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ 6 أياممقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ أسبوعلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...