انتهى الجزء الأول من مسلسل "مو عامر"، بالبطل محمد النجار، مشرّداً عن طريق الخطأ في المكسيك، ليعود إلى رحلة محاولة الوصول إلى الوطن البديل أمريكا، الذي لم يعترف به كمواطن طوال عشرين عاماً من تواجده وعائلته فيه. يُكمل العمل بجزئه الثاني والأخير، قصة العائلة التي تنتظر جلسة استماع في قضية لجوئها، لتتمكن إذا مُنحت حق اللجوء من السفر لزيارة فلسطين.

العمل من تأليف مو عامر، وصديقه المصري رامي يوسف، ويشارك في التمثيل كل من فرح بسيسو وجوهانا برادي وسايمون ريكس وتوبي نيغوي، ومن فلسطين شارك كلّ من عدي خليفة، وريم تلحمي، وكامل الباشا، في الحلقة الأخيرة من المسلسل الذي امتد على ثماني حلقات.
وكأنّ قدر الفلسطيني أن يتشرد وهو مشرّد أصلاً. فبعد أن عاشت عائلة "مو"، سنوات طويلةً في أمريكا، عمل أفرادها واندمجوا في المجتمع واكتسبوا من الثقافة الأمريكية، وحاولوا تمرير ثقافتهم ورموزها بهدوء وتأنٍّ، عبر زجاجة زيت الزيتون، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لمنحهم حق اللجوء، إذ كانوا في انتظار جلسة استماع في قضية لجوئهم حين علق "مو" في المكسيك، فحضرت والدته وشقيقه سمير جلسةَ الاستماع وحصلا على حق اللجوء، وتالياً صارا أمريكيين.
زيت الزيتون... من رمزية التراث إلى مشروع اقتصادي
لا يتعامل الفلسطيني خارج البلاد مع زيت الزيتون، وفقاً لنكهته وجودته واستخداماته فحسب، بل يتطور الأمر إلى استخدام زيت الزيتون كهوية وطنية ثقافية وسياسية تعبّر عن الحنين إلى البلاد، والتمسّك بحق الرجوع إليها، ووسيلة عبور للآخر الذي لا يعرف عن فلسطين شيئاً، وهذا ما فعلته يسرى نجار، والدة مو في الجزء الأول، وتطور هذا الخط درامياً ليصير زيت الزيتون مشروعاً اقتصادياً تحاول من خلاله العائلة النجاة بنفسها، وتأمين المال الذي تحتاجه.
لعل أهم ما في العمل من قصة وتمثيل وتطورات درامية متسارعة، هو أنه يقول بوضوح وبإثباتات متتالية، إنّ الفلسطيني قادر على الحياة في كل الظروف، وبرغم قسوة هذه الخصلة على أصحابها إلا أنها حقيقية
إذا ألقينا نظرةً من الأعلى على ما حدث مع العائلة، سنجد فلسطينيتها قد تجسدت في محاولتها النجاة عبر رموزها، فشجرة الزيتون في فلسطين غير قادرة على الصمود أمام أي مستوطن أرعن، لكنها كانت أداةً مقنعةً للمقاومة اليومية لعائلة النجار.
عائلة عربية مضطربة
نجح العمل في الإضاءة على جوانب الثقافة العربية لدى أبطال العمل، وأوجد مبررات نفسيةً ودراميةً لها، فالعائلة المتكاتفة التي عبرت إلى أمريكا بصورة غير شرعية بحثاً عن الأمان، امتنعت فيها الأمّ عن مصارحة ابنها الكبير بكونه مصاباً بمرض التوحد، حرصاً منها على ألا يشعر بكونه مختلفاً عن الآخرين، برغم أنه ظلّ أسيراً لاختلافه عن الآخرين طوال حياته، ولم تنجح الأمّ في الانفصال عاطفياً عن ابنها ليأخذ فرصته في اكتشاف مشكلته بعيداً عن وصايتها.
في المقابل، عرض العمل تمسّك مو عامر، بفلسطينيته وفجاجته أحياناً في الدفاع عنها، فقد جادل في المقهى العرب واليهود والأمريكان، مرات عديدةً، حول معنى الاحتلال وسرقة الثقافة والإرث إلى جانب سرقة الأرض، برغم قناعته بأن ما من شيء سيغيّر أفكار الآخر عنه أو عن إسرائيل. لكنه في الوقت ذاته، ظلّ متمسكاً بحبيبته التي رافقت رجلاً إسرائيلياً بعد أن افترقا، وحاول أن يستعيدها من خلال لفت انتباهها إلى شخصية "جاي" الإسرائيلية العميقة التي تنهب كل ما هو فلسطيني من أرض وإرث ثقافي، وحتى وصفة حُمّص فَشل في تحضيرها.
تحالف المستضعفين
عادةً، يترافق أصحاب المآسي، وتتكون الصداقات في هذه الحالة من الحاجة إلى شريك في المعاناة والألم، وبهذه الصورة بُني الخط الدرامي لعلاقة مو، بصديقه المكسيكي سامي، المهاجر غير الشرعي، والإفريقي نيك، اللاجئ من الحروب، ليشكلوا معاً "تريو المهمّشين" الذين يحاولون دعم بعضهم بعضاً لتحقيق الاستقرار الذي حُرموا منه في أوطانهم الأصلية، وقد تم تغليف هذه المعاناة المشتركة بطابع كوميدي يسهّل تقبّل المشاهد، مأساة كل منهم على حدة.
الاحتلال الثقافي العابر للحدود
تُذكر مسألة سرقة الإسرائيلي لهوية الشعب الفلسطيني الثقافية، بتشنّج كبير، ويدافع الفلسطيني عن أطباق مائدته وأزيائه وأسلوب حياته التي يستولي عليها الإسرائيلي بغضبٍ كبير، لكن العمل ناقش الجزئية ذاتها على حساسيتها بجدّية، وبسخرية لاذعة وذكية عبر العلاقة بين مو وجاي، الشيف الإسرائيلي الذي يقدّم أطباقاً فلسطينيةً، مثل الحمّص.
اختيار السخرية كأداة يثأر من خلالها الفلسطيني لهويته، يبدو أكثر نجاعةً أمام الجمهور غير الفلسطيني الذي لم ينتبه إلا قبل سنة ونصف إلى ما يحدث هنا، وتالياً فإنّ إحراز التقدم في السردية الفلسطينية يكون من خلال تقديم القصة بأسلوب جديد يتناسب مع جمهور المنصة التي يعرض عليها، فالبكائيات والندب على سرقة الزعتر وزيت الزيتون والفلافل لم يأتيا بأيّ نتيجة.
الفلسطيني الساخر
لعل أهم ما في العمل من قصة وتمثيل وتطورات درامية متسارعة، هو أنه يقول بوضوح وبإثباتات متتالية، إنّ الفلسطيني قادر على الحياة في كل الظروف، وبرغم قسوة هذه الخصلة على أصحابها إلا أنها حقيقية، فمن دونها يموت الفلسطيني أو يهجّر أو يسجن، لا خيارات كثيرة لديه، وقد جسّد مو، الشخصيةَ الفلسطينية التي لا تملّ محاولات الوصول إلى واقع أفضل؛ فقد بحث عن الوطن الآمن في أمريكا، ثم باع "تاكو" الفلافل في شوارع المكسيك، ثم عاد للاستثمار في إنتاج زيت الزيتون في تكساس، وهذا ما يحدث مع معدومي اليأس الذين يربّون الأمل فيكبر ثم يأكلهم، أي الفلسطينيين.
العودة إلى البلاد
يحلم الفلسطيني بالرجوع إلى دياره حتى وإن كان لا يعرفها إلا من خلال أحاديث الآباء والأجداد وذكرياتهم عنها، وقد كان الرجوع إلى البلاد هو كل ما يحتاجه "مو" طوال الوقت. فبعد أن وافقت حبيبته على الزواج منه، تم منحه الجنسية الأمريكية، ورافق والدته وشقيقه في رحلة إلى بورين/نابلس عبر مطار بن غوريون.
اذا عقدنا مقارنةً بين مسلسل "مو"، وبعض الأعمال التي ناقشت القضية الفلسطينية، "مو" يناقش قضية فلسطينيي الشتات، الذين لم يتطرق عمل تلفزيوني أو سينمائي إلى مناقشة بنيتهم الثقافية والسياسية، ومحاولاتهم لاستعادة فلسطينيتهم من خلال الرجوع إلى البلاد
لم يكن وصول البطل مرضياً للمشاهد، وإن كان يبدو انتصاراً على الصعاب، فقد وقفت العائلة أمام المأساة من المسافة صفر؛ فالخال ممنوع من الوصول إلى أرضه لقطف الزيتون إلا بتصريح من إسرائيل، والأراضي كثيرة لكنها ممنوعة من الاستخدام وفق قرارات الاحتلال، والمستوطن مسلّح وفي وسعه أن يقتلك من دون سبب أو بسبب، لا فرق، والبلاد صعبة أكثر بقليل مما تبدو عليه من الخارج، وهذه حقيقة الأمر.
"مو عامر" و"فوضى"
اذا عقدنا مقارنةً بين مسلسل "مو"، وبعض الأعمال التي ناقشت القضية الفلسطينية، مثل "التغريبة الفلسطينية" و"الاجتياح" و"عائد إلى حيفا"، سترجح كفّة "مو" بالتأكيد، فالأخير يناقش قضية فلسطينيي الشتات، الذين لم يتطرق عمل تلفزيوني أو سينمائي إلى مناقشة بنيتهم الثقافية والسياسية، ومحاولاتهم لاستعادة فلسطينيتهم من خلال الرجوع إلى البلاد. ثم إنّ موعد عرض العمل يصبّ في مصلحة سردية الفلسطيني الذي تشرّد ونسي العالم أو تناسى تشرده، إلى جانب التشريد الذي يحصل اليوم في غزّة ومخيمات الضفة الغربية.

من جهة أخرى، عرضت "نتفلكس"، مسلسل "فوضى" المكون من أربعة أجزاء (2015-2023)، والذي حظي بانتشار عالمي كبير، وأثار جدلاً كبيراً حول عدم موضوعيته، إذ يناقش العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي بوصفها صراعاً بين المدني والإرهابي، ولعلّ من تابع العمل باستطاعته أن يشمّ رائحة السردية الإسرائيلية من الحلقة الأولى.
حظي "فوضى"، بجماهيرية كبيرة لحمولته الفنية من التشويق والغموض في مواسمه كافة، وهذا بالتحديد ما يجعل عمل "مو" ذكياً في قصته ووقت عرضه وحمولته الفنية التي تشكلت من أحداث متسارعة عولجت بسخرية، وقُدّمت بخفّة لتفرّد مجموعة من القضايا الحقوقية والإنسانية والسياسية في رأس كل مشاهد للعمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Some One -
منذ 20 ساعةالذي كتب وتخيل هذه العلاقة، وتخيل مباركة الوالدين، وتقبل المجتمع لهذه المثلية الصارخة. ألم يتخيل...
مستخدم مجهول -
منذ يوميناول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ 4 أيامyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 5 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 6 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 6 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...