شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"هنا وجدت ضالّتي"… سوق البلاط في تونس وأسرار أدويته الطبيعية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

الاثنين 17 فبراير 202502:08 م

وسط المدينة العتيقة في تونس العاصمة، وعلى بعد عشرات الأمتار من جامع الزيتونة المعمور، يقع سوق البلاط المتخصص في بيع الأعشاب الطبية والعقاقير والأدوية الطبيعية. ويختلف سوق "البلاط" عن غيره من أسواق المدينة العتيقة، بأنّه صيدلية طبيعية، ويأتيه الناس من كل جهات البلاد، ويقصده السياح من دول عدة، باحثين عن أدوية لعللهم أو مكملات غذاية أو بعض العقاقير التجميلية.

السوق الذي يحتوي على عشرات الدكاكين والمحال، حافظ على شكله ونشاطه لقرون عدة، وأصبح قبلةً سياحيةً واستشفائيةً لزبائن يبحثون عن أعشاب وأدوية تُسمّى في تونس بـ"الأدوية العربية"، وتكون أسماؤها أحياناً غريبةً وغير مألوفة.

سوق ضارب في القدم

يعود سوق البلاط على الأرجح إلى القرن الميلادي التاسع، زمن الدولة الأغلبية في تونس، لكنه بلغ أوجه في العهد الحفصي، ابتداءً من القرن الـ13، وكان يجمع أنشطةً مختلفةً ولا يختص ببيع الأعشاب والأدوية فحسب.

تشير مصادر عدة، إلى أنّ السوق تم بناؤه بالحلّة التي هو عليها الآن، خلال القرن الـ18، مع تأسيس الدولة الحسينية سنة 1705، على يد الحسين بن علي.

السوق الذي يحتوي على عشرات الدكاكين والمحال، حافظ على شكله ونشاطه لقرون عدة، وأصبح قبلةً سياحيةً واستشفائيةً لزبائن يبحثون عن أعشاب وأدوية تُسمّى في تونس بـ"الأدوية العربية"، وتكون أسماؤها أحياناً غريبةً وغير مألوفة

في كتابه "العادات والتقاليد التونسية: الهدية والفوائد العلمية في العادات التونسية"، يقول المؤرخ محمد بن عثمان الحشايشي، إنّ تنظيم النشاط داخل السوق يعود لقرار الوزير الأكبر الهادي الأخوة، المؤرخ بتاريخ 21 كانون الثاني/يناير 1937، والمتعلق بالحرف والمهن والصناعات التقليدية التي تمارَس في الإيالة، وفي ذلك القرار ذُكرت لأوّل مرة مهنة بيع الأعشاب الطبية.

ويضيف الحشايشي، أنّ تسمية سوق البلاط تعود إلى بلاط الباي وحاشيته، مشيراً إلى أنّ السوق كان يستقطب التجّار من أنحاء البلاد كافة، وكذلك التجار القادمين من إسطنبول ومن المشرق، حيث يضعون الأعشاب والأدوية التي يُحضرونها معهم في محال السوق القريبة من خلوة إمام الصوفية الشيخ أبي الحسن الشاذلي.

وفي السياق نفسه، يقول التاجر في سوق البلاط، شوقي الفورتي، إنّ تسمية السوق تعود إلى أنه أوّل سوق تم تبليطه، وكان في البداية ممشى للملك.

دواء مكمّل

في سوق الدبّاغين، يوجد أكثر من 40 حانوتاً ممتلئاً بحزم الأعشاب المعلّقة على الحيطان وفي الواجهات، وبعض الباعة ورثوا هذه المهنة أباً عن جدّ، وتمرسوا فيها وتعلموا نواميسها وأسرارها منذ نعومة أظافرهم.

شوقي الفورتي (55 سنةً)، تاجر يمارس بيع الأعشاب في سوق البلاط، منذ 40 عاماً. ورث دكانه عن أبيه وأجداده الذين مارسوا هذا العمل منذ 140 عاماً. يقول شوقي، في تصريح لرصيف22، إنّ الدكاكين في هذا السوق تبيع أدويةً مكملةً للطب الحديث وليست بديلةً عنه، مشيراً إلى أنّ تشخيص حالة المريض موكلة دائماً إلى الطبيب، ثم يلتجئ المريض في مرحلة ثانية إلى الأعشاب الطبيعية حتى تكون مساعدةً له على الشفاء.

ويضيف الفورتي، أنّ السوق يحتوي على أدوية عدة لأمراض مستعصية، مثل مرض العذر وتساقط الشعر وتأخّر الإنجاب وغيرها، مبيّناً أنّ جميع شرائح المجتمع تُقبل على السوق وحتى بعض مشاهير التمثيل والغناء في البلاد.

ويفيد الفورتي، بأنّه يتعامل مع العديد من الأطباء الذين يوجّهون إليه بعض المرضى حتى يعطيهم الأدوية الناجعة لعلّاتهم، على غرار مرضى الكلى.

ويواصل الفورتي، حديثه إلى رصيف22، قائلاً إنّ للسوق سمعةً ناصعةً في دول عربية عدة، مشيراً إلى أنّ له زبائن من دول عربية يقبلون على السوق عند زيارة البلاد، خاصةً بهدف الحصول على أعشاب تداوي ضغط الدم والسكري وقرح المعدة وغير ذلك.

كما يؤكّد الفورتي، أنّ التونسيين في الخارج يقبلون على السوق، ويحملون أدويتهم من الأعشاب معهم عند مغادرة البلاد، معتبراً أنّ الأسعار في السوق في متناول الجميع، وهي منخفضة مقارنةً بالأدوية في الصيدليات، لكن بعض الأدوية يكون سعرها مرتفعاً نسبياً نظراً إلى استقدامها من خارج البلاد، خاصةً من دول في جنوب شرق آسيا، على حدّ قوله.

ويرفض الفورتي، ربط السوق ببيع الأعشاب التي تُستعمل في السحر أو في إزالته، مشيراً إلى أنّ ذلك مرتبط ببعض الدخلاء الذين ينسبون أنفسهم كذباً إلى هذا السوق.

إشعاع دولي

سوق البلاط، السوق المختلف، يمثّل إشعاعاً كبيراً لدى دول عربية عدة حيث يقبل زائرو تونس بكثرةٍ عليه. يقول التاجر محمد أمين (30 سنةً)، إنّ زبائنه يأتون من دول عدة خصيصاً قاصدين دكانه، خاصةً من الدول المجاورة لتونس، مثل الجزائر وليبيا وكذلك موريتانيا، مشيراً إلى أنّ هؤلاء الزبائن أصبحوا يثقون جيداً بمنتجاته ويقصدون دكانه كلما أتوا إلى تونس.

ويضيف محمد أمين، في تصريح لرصيف22، إنّ الزبائن لا يشترون من عنده الأدوية فحسب، وإنما يطلبون أعشاباً عدة ومكمّلات صحيةً تساعد في تصفية الوجه، وإزالة التجاعيد، والتجميل أيضاً.

ويردف محمد أمين، أنّه يستقدم بعض الأدوية من جهات مختلفة في البلاد، وكذلك من خارج تونس، مثل الهند واليمن ومصر وليبيا وغيرها.

"جئت أبحث عن ضالّتي"

هنا في سوق البلاط، لا تكاد الحركة تهدأ البتّة. نقاش دائم بين الباعة والحرفيين الذين يسألون عن فوائد الأدوية والفروق بينها حتى يشتروا أنسبها لهم.

بالقرب من أحد الحوانيت، التقينا بأحمد (اسم مستعار)، وكان برفقة صديقه. يرفض أحمد، ذكر السبب الذي أتى به إلى السوق، لكن رفيقه يقول إنّه جاء يبحث عن بعض العقاقير لأخيه المتزوج حديثاً.

يتحدّث أحمد إلينا، بعد تردد، قائلاً: "إنّ أخاه تعرّض للسحر خلال أيام زفافه، ووقع نفور في نفسه من زوجته برغم أنهما تزوجا بعد قصة حب يعرفها القاصي والداني في منطقتهم".

ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أنّ أخاه ذهب إلى أكثر من طبيب، وكلهم أجمعوا على أنه ليست فيه علّة، لكن أحد العرّافين وصف له بعض العقاقير والأعشاب من سوق الدبّاغين وطلب منه أن يستعملها لفترة وجيزة من أجل إزالة السحر.

يقول أحمد، إنه يأتي إلى السوق لأول مرة، فهو ليس من سكان العاصمة، بل جاء من إحدى المحافظات الداخلية للدراسة هنا، لذلك اعتمد عليه أخوه في هذه المهمة.

على بعد أمتار، التقينا بشابّة تزوجت قبل 3 سنوات، لكنها لم تنجب بعد، برغم أنها زارت أكثر من طبيب ولكن دون جدوى.

في السوق أيضاً، تحدثت إلينا شابّة باستحياء كبير، قائلةً إنها متعلمة وحاصلة على شهادة جامعية، ولم تكن تعتقد أنها ستقبل يوماً على استخدام الأعشاب والعقاقير لمساعدتها على الحمل، لكنّها اضطرت بعد ضغط عائلي بضرورة عدم ترك أي سبيل للعلاج.

سوق "البلاط"، السوق المختلف، يمثّل إشعاعاً كبيراً لدى دول عربية عدة حيث يقبل زائرو تونس بكثرةٍ عليه. يقول التاجر محمد أمين إنّ زبائنه يأتون من دول عدة خصيصاً قاصدين دكانه، خاصةً من الدول المجاورة لتونس، مثل الجزائر وليبيا وكذلك موريتانيا، مشيراً إلى أنّ هؤلاء الزبائن أصبحوا يثقون جيداً بمنتجاته ويقصدون دكانه كلما أتوا إلى تونس

وتضيف أنّها أتت إلى السوق من أجل الحصول على بعض العقاقير، خاصةً أنّ كل الأطباء يقولون إنّها لا تشكو من مانع يحجب عنها الحمل.

وتفيد بأن إحدى صديقاتها نصحتها بالمجيء إلى السوق، معللةً ذلك بأنّ لها تجربةً ناجحةً في هذا السياق إذ إنّها تعافت سابقاً من أحد الأمراض بعد حصولها على دواء من سوق البلاط، برغم أنها زارت عدداً من الأطباء، ولكن دون جدوى.

ظاهرة قديمة

يقول مؤلف كتاب "الشخصية التونسية بين السياسة والتاريخ"، فريد خدومة، في تصريح لرصيف22، إنّ إقبال التونسيين على طبّ الأعشاب أو ما يُعرف بالطبّ البديل، ظاهرة قديمة ما زالت ترافق التونسيين منذ قرون، مشيراً إلى أنّ هنالك أحياناً شعوراً لدى بعض التونسيين بأنّ فاعليّة الأعشاب الطبيعية أقوى من الأدوية المصنّعة.

ويضيف أنّ إقبال التونسي على هذه الأدوية، مردّه إلى بحث الأهل عن أيّ طريقة لمعالجة مريضهم، لذا نراهم في الآن نفسه يأخذونه إلى الطبيب في عيادته، وفي طريق العودة يعرّجون على الشيخ فلان "المعالج الرعواني" أو "الطبيب الروحاني".

ويرى خدومة أنّ الإشكالية تتمثل في دخول بعض الأدعياء على هذا القطاع، ما تسبب في الخلط بين المتخصصين في هذا العلم وبين السحرة والمشعوذين والدجّالين.

كما يرى أنّ "الشخصية التونسية شخصية مزاجية متقلبة لا تستقرّ على حال، أي كما يقال لا يعجبها العجب، لذا نراها تسعى وراء كل غريب وعجيب، ولعلّ الشيخ الفلاني الذي يداوي بوصفات يعدّها له أحد ملوك الجان قد تجذب إليها حتى جزءاً من نخبة النخبة".

ويشير خدومة، في ختام حديثه، إلى أنّ النساء أكثر إقبالاً من الرجال على هذا السوق، لأنّ المرأة تكون دائماً حريصةً على الظهور بشكل جميل وجذاب، وهو ما يعني أنّها تقتني بعض الأعشاب والأدوية الطبيعية، بالإضافة إلى المساحيق التي تأخذها من بعض محال التجميل، على حدّ تعبيره.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image