شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الفيلم الذي استفزّ الجميع في

الفيلم الذي استفزّ الجميع في "الاسماعيلية"… "وكان مساء وكان صباح، يوماً واحداً"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 15 فبراير 202512:37 م

لم تنتهِ الدورة السادسة والعشرون من مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (5-11 شباط/ فبراير الجاري)، برئاسة المخرجة هالة جلال، دون أن تترك خلفها نقاشاً واسعاً بين جمهورها السينمائي، لأسباب متعددة، كان في مقدّمتها حصول فيلم "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً"، على جائزة النقّاد الدوليين "الفيبريسي"، مع عرضه الأول.

بدا الانطباع الأول للجميع "الاستفزاز" من الشكل البصري والخطابي الذي اختاره المخرج يوحنا ناجي، في أثناء صناعة فيلم عن سيرته الذاتية. ذلك الاستفزاز بالمعنى الإيجابي المحفّز على التفكير في الأمر أو السلبي الذي جعل البعض يجده غير ملائم سينمائياً. نحاول هنا الوقوف على تلك المنطقة التي تسببت في ذلك كله، وربما من خلالها على نقطة الضعف والقوة في هذا الفيلم "المهم" على كل حال.

فيلم "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً"

قبل الحديث المباشر عن الفيلم، يمكن أن نلقي نظرةً سريعةً على برنامج المهرجان الذي ضمّ عشرة أفلام تسجيلية من مناطق وأفكار مختلفة. كان من أهمها فيلم "سجلات العبث"، الذي سُردت قصته عن طريق رسائل متبادلة بين زوجين يهربان من السلطة. أيضاً كان هناك فيلم آخر ربما هو الأفضل بصرياً بين الأفلام التسجيلية، "ليل لا يزال يعبق برائحة البارود"، الذي يحكي سيرة مخرج وذكريات طفولته في قريته في موزمبيق. فيلم حالم ومعبّر عن قطاع كبير من السينما الإفريقية المجهّلة برغم جودتها واستثنائيتها البصرية تحديداً.

الفيلم المصري الوحيد في المسابقة، كان "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً". يحكي فيلم يوحنا ناجي، التسجيلي الطويل الأول، سيرته الذاتية، وبالتحديد علاقته مع والدته. يعيد بناء ذكريات طفولته المفقودة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، محاولاً ملء الفراغات التي خلّفها غياب الأرشيف الشخصي

أيضاً كان هناك فيلم "خط التماس" اللبناني، وهو سيرة ذاتية للّبنانية فداء بزري، التي تحكي عن طفولتها التي تقاطعت مع بداية الحرب الأهلية في لبنان 1972، اللحظة التي حملت فيها الطوائف كافة داخل لبنان أسلحتها في وجه بعضها البعض للدفاع عن نفسها. تلك اللحظة التي تقرر المخرجتان طرح سؤالهما عنها: من المسؤول عن كل ذلك؟ المخرجة العربية فداء، إلى جانب الفرنسية سيلفي باليوت، تمرّران تساؤلهما على الجميع. نشأت فداء بزري، التي تشارك في الإخراج بينما يحكي الفيلم قصتها في بيروت في الثمانينيات، حيث كانت تستمع إلى قصص جدّتها عن "الجحيم الأحمر". والآن بدأت تتساءل عن قيمة الحياة وسط الصراع، وتواجه المسلّحين من خلال المنمنمات، وتقارن بين منظورها الطفولي ومنظورهم. الفيلم يدين الجميع تماماً، كما شعار الثورة: "كلّن يعني كلن".

فيلم "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً"

الفيلم المصري الوحيد في المسابقة، كان "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً". يحكي فيلم يوحنا ناجي، التسجيلي الطويل الأول، سيرته الذاتية، وبالتحديد علاقته مع والدته. يعيد بناء ذكريات طفولته المفقودة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، محاولاً ملء الفراغات التي خلّفها غياب الأرشيف الشخصي، بعدما اكتشف أنه لا يملك أرشيفاً كافياً مع والدته. استخدم مزيجاً من الصور والفيديوهات التي قام بمعالجتها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، عادّاً أنّ الصور ليست مجرد وثائق، بل وسيلة لاكتشاف الذكريات الضائعة وخلق قصص جديدة حولها. تطلّب منه كتابة سيناريو للذكريات المزيفة، حتى يتمكن من تقديمها للجمهور بطريقة تُشعرهم بواقعيتها.

يوحنا ناجي

كل التساؤلات التي طرحها الفيلم، بدأت من ذلك الاختيار: توليد ذكريات ذاتية من خلال الذكاء الاصطناعي. بالطبع يمكن للذكاء الاصطناعي اليوم خلق قصص أدبية مختلفة، لكن التفكير فيه كأداة لإعادة إنتاج ذكريات ذاتية بشرية، كان مساراً لتورّط وتفكير واسعين يمسّان الجميع. وربما كانت تلك النقطة الأقوى والاختيار المثالي التي تُنسب قوتها إلى المخرج. جعلني ذلك أفكر في اختبار أن أكتب عن الفيلم وعن طريق تكليف الذكاء الاصطناعي بأن يفعل ذلك بدلاً مني، بناءً على معطيات وأفكار أخبره بها عن الفيلم. تراجعت في اللحظة الأخيرة كما يحدث لي عادةً عندما أتقدّم خطوةً نحو الآلة التي ستمارس عملي قريباً.

بات الدور الأمثل للذكاء الاصطناعي، تعزيز القدرات البشرية وليس استبدالها. وفق "إنتربرايز"، يرى 54% من البالغين في الولايات المتحدة، أنّ الذكاء الاصطناعي مفيد في سياقات معيّنة، بينما تميل النسبة الباقية إلى الاعتقاد بأنه قد يكون ضارّاً، طبقاً لاستطلاع شركة "ديناتا" لأبحاث السوق عام 2024. الفارق يكمن في كيفية التنفيذ، فنسبة 77% من المشاركين تفضّل التعامل مع وكلاء بشريين مدعومين بالذكاء الاصطناعي بدلاً من روبوتات المحادثة الآلية بالكامل. كما يؤكد 39%، أنّ تجاربهم مع أنظمة الذكاء الاصطناعي كانت أسوأ من التفاعل مع البشر، بينما يرى 33% فقط تحسّناً في التجربة. من هذا المنطلق، تدعو شركات مثل "كوجيتو"، إلى استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز البشريّ، لم يكن في حسبان كل تلك الإحصاءات أن تفكّر في الذكاء الاصطناعي كأداة ستمكّن البشريّ من التعرّف على ذاكرته. هل تدرك مدى ما يجعل ذلك مستفزاً أو محفّزاً على التفكير في كل الخطاب البشريّ؟

زيف على شكل سيرة ذاتية

هل الصدق مهم في نطاق السير الذاتية؟ الباحث فيلييب لوجون، في كتابه "مسودات الذات"، يصفه بـ"وعد الصدق"، وهو الذي يميّز العمل الفني كونه سيرةً ذاتيةً أو روايةً: الكتابة الصادقة وإبعاد الخيال. "فقد دمّر الكذابون الأبطال الوطنيين في سيرهم"، كما يقول والت وتمان، من رسمهم للشخصيات باعتبارهم ملائكةً. وربما من ذلك تبدو معضلة الفيلم الأولى، إذ تصبح إعادة التخييل المزيّف مسار تساؤل: هل يصلح أساساً أن يُعدّ سيرةً ذاتيةً أو لا؟

لا يمكن على الإطلاق المرور على الفيلم دون تجاهل المجاز الديني فيه، إذ كانت تسميته ذاتها ("وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً") تعبيراً عن أول يوم للخلق، اليوم الأول في الحياة وفق الرؤية المسيحية القادم منها المخرج، تعبيراً عن ذكريات تحدث بين صباح ومساء. يحكي الفيلم قصته بين قصة خلق الأيام. ربما يوازي فيها المخرج بين ذاكرته التي يبدأ معها كل شيء بالنسبة إليه وبين العالم المتجاوز. يصبح وذكرياته ترساً في سديم لا ينتهي. يحمل معناه وفق كل متلقٍّ على حدة.

استخدم مخرج الفيلم مزيجاً من الصور والفيديوهات التي قام بمعالجتها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، عادّاً أنّ الصور ليست مجرد وثائق، بل وسيلة لاكتشاف الذكريات الضائعة وخلق قصص جديدة حولها. تطلّب منه كتابة سيناريو للذكريات المزيفة، حتى يتمكن من تقديمها للجمهور بطريقة تُشعرهم بواقعيتها

يبدأ الفيلم من وعد وحوار مفتوح بين البطل/المخرج صانع العمل والذكاء الاصطناعي. يذهب المخرج إلى أحد محال الصيانة لتصليح كاميراه الشخصية، ويقرر أن يصبح ذلك مجازاً مثالياً للّجوء إلى الذكاء الاصطناعي. يفكّر المخرج بدلاً من سرد قصته مباشرةً دون أرشيف، في أن يلجأ إلى خيال الذكاء الصطناعي عن القصة، توليد ذكريات بصرية من قصته الشخصية. أمر معقّد احتاج إلى أربع سنوات متتالية لخروج الفيلم. تقسّم القصص إلى ثلاث قصص مختلفة واحدة على لسان يوحنا/المخرج الطفل، وأخرى على لسان الأب، وأخيرة على لسان الأمّ، أو للدقّة تخيّل لتلك الأصوات عن طريق الذكاء الاصطناعي.

فكرة جيدة تحتاج إلى تحرير

في أحد مشاهد الفيلم التي يتحدث فيها المخرج مع الآلة، ويطلب منه صورة أكثر دقةً، تخبره الآلة أنّه "مفيش ولا صورة ليك. دا المشترك بينا". يبدو مشتركاً وجيهاً لوجود شريك في رحلة مجهولة لاستكشاف الذات، تخيّل ذاتٍ بديلة عن شيء غير ملموس على الإطلاق.

بالرغم من كون الفيلم قد حصل على دعم مؤسسة "آفاق" وداعمين آخرين، فقد قرر المخرج العمل على أغلب عناصر الفيلم بشكل منفرد تماماً من كتابة ومونتاج وإخراج، وربما هنا تكمن نقطة الضعف الأكبر في الفيلم، الذي نعتقد أنه يحتاج إلى إعادة مونتاج. في أحد المشاهد نسمع جملة "لو عاوز تعرف كل شيء لازم تشوفه مفكك"، وتبدو مثاليةً لشرح القصص المنفصلة المتّصلة. كانت في أوقات مختلفة غريبةً نوعاً ما عن بعضها الآخر.

فيلم "وكان مساء وكان صباح... يوماً واحداً"

على سبيل المثال، كانت القصة الثانية في العمل ليست فقط أطول من اللازم، بل بعيدة في أغلب جوانبها عن تطوير قصة الطفل البطل مع ذكرياته وذاكرته، ومفككة أكثر مما يبدو. أسقطت إيقاع الفيلم الأكبر ربما، وخلقت فجوةً بين البداية القوية التي حرّكت الفكرة في غالبية من شاهدوها، وبين القصة الأخيرة التي لجأ فيها المخرج إلى فيديو حقيقي من أحد أعياد الميلاد للعائلة يتحدث فيها عن الطفل الذي كانه وعن والدته التي لم تعد موجودةً على الإطلاق.

إجمالاً يصبح الفيلم مساحةً تجريبيةً بامتياز، فيلم فيديو متنقل بين أفكار متعددة مفككة وذاتية. وربما ذلك ما جعل وقعه على الأغلبية يحمل شعوراً "استفزازياً" أحياناً بمعنى إيجابي وأحياناً سلبي.

ذات مرة عبّر أحد النقّاد عن غضبه من كتابة إرنست همنغواي، قال إنّ الرجل لديه مشروع فيه "تكنيك" جيد يبحث عن موضوع. كان يقصد بالطبع إيضاح الجزء العبقري بجانب الموضوع الذي يرى أنه يتوه من همنغواي كل مرة برغم عبقريته. على مدار الفيلم، كنت أرى تلك الجملة معكوسةً في حالة يوحنا ناجي، الذي لديه موضوع جيد يبحث عن تكنيك. ربما لو ضُبطت فكرة الفيلم شديدة الذكاء جيداً لما استفزّت من وجدها جيدةً مثلي أو غالبية من خرجوا معي من صالة العرض غاضبين، ربما لدى المخرج الشاب ما يتعلمه لاحقاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image