كل استشارات الصحة النفسية والبرمجة العصبية والدعم النفسي لا تستطيع أن تفصلني عن مظاهر الفقر، وأنا أسير في مدينة يتسوّل فيها كبار السن، نساء ورجالاً، والعاجزون وذوو الإعاقة، ويبدو أن بعض الموظفين حجزوا مكاناً إلى جانبهم.
"صباح الخير يا بنتي. محتاج ما معي مصاري": كان أول ما سمعته صباح الأحد، بجانب سينما "سرايا"، وأنا ذاهبة باتجاه عملي. كنت مسرعة، وكأني لم أغادر الفراش. لبست ما تيسّر وغسلت وجهي بالماء البارد، لأن خطة التقنين أن تزورنا الكهرباء عند التاسعة، وكان ما كان.
نظرت إليه دون اهتمام، ففي كل صباح ألتقي بنساء ورجال يتلحفون الريح، وإذا عبرت في وقت مبكر في هذه المدينة الصغيرة، نرى من يتخذ من إحدى زوايا الطريق ملجأ لقضاء ساعات الليل الباردة، قبل سقوط النظام وبعده، وكأن الفقر كتب لهذه البلاد.
ما نحياه اليوم في هذه المدينة يُذهب ما تبقى من أمل خلال الشهرين الفائتين.
كلمات العجوز أيقظتني. يداي ترتجفان من البرد، وكان من الصعب أن أفتح الحقيبة التي هي أصلاً شبه فارغة، وبحركة بطيئة اعتذرت وسرت بغصّة زادت في يقظتي، وكأن رأسي ارتطم بجدار سميك.
العجوز ذاته، وعصاه التي توشك على الكسر، التقيته عدة مرات، طلب مني مرة أن أقوم بسحب راتبه من الصراف. قد هذا يكون العام الفائت، وأتذكر جيداً أن الراتب الذي سحبته حينها يتجاوز مائتي ألف، وهنا وقفت.
عدت للعجوز، ألقيت التحية، لأن فضولاً وغصّة كبيرة دفعاني للسؤال: "يا عم ألم تستلم راتبك التقاعدي بعد؟"، ليرفع نظره بذلّ لن أسامح نفسي عليه: "نعم استلمت"، وأخرج من جيبه علبة دواء كُتب عليها "250 ألف ليرة"، وقال: "أحتاج من يساعدني لأعود إلى المنزل".
لا أعرف أي لون امتقع به وجهي، وكم وبّخت نفسي وأنا أتنفس بضيق، لكن حاولت المتابعة: "تعال ياعم نتقاسم ما معي، وأعذرني على سخافة السؤال". العجوز أظهر لي نوعاً من المسامحة، لكن ما سارت إليه أفكاري كان الموجع الذي يحتاج لمعالج نفسي ينزع منها جرأتي على تأنيب العجوز.
تسول الدواء
ما نحياه اليوم في هذه المدينة يُذهب ما تبقى من أمل خلال الشهرين الفائتين، وبعد حدث غريب ومختلف بكل المقاييس، بدأ من سقوط النظام وهروب بشار الأسد، عندما هرب وحيداً دون أن يتذكر من أوصلهم للفقر والتسول في كل أرجاء البلاد، واستلام حكومة تصريف الأعمال التي أيضاً جاءت بقرارات طالت فقراء الحال، وهم أيضاً موظفون دائمون ومتقاعدون وورثة تأخرت رواتبهم التي لم تكن تطعمهم أكثر من الخبز الحاف على أيام بشار، لتتوقف المصارف فترة من الزمن وتبدأ معاناة جديدة. كنت أعرف أنها ستحدث، لكن خيالي لم يصل إلى ما وصلنا إليه في واقع الحال، عندما توسع التسول من الشارع إلى الصيدليات، أكثر مكان يقصده كبار السن.
علبة دواء طلبتها من الصيدلاني، وعلى الجهة الثانية يدفع المتقاعد خمسين ألف ليرة ويطلب تسجيل ما تبقى، ولأننا في مدينة صغيرة ونعرف بعضنا، سألني: "أنت صحفية هل تعرفين متى سيصرف الراتب؟"، إجابتي بالنفي كانت محسومة، لكن الأكثر وجعاً ما أخبرني به الصيدلاني، أنه وقبل إيقاف الرواتب أو تأخّرها، تعود هذا العجوز شراء أدويته وزوجته بهذه الطريقة، لن رواتبهما التقاعدية لا تغطي تكلفة ثلاثة أنواع من أدوية الضغط والسكر لهما لولا مساعدة إحدى القريبات، التي تحاول إرسال ما تيسر كل شهرين أو ثلاثة، لكن كيف يحصلان على الطعام أو التدفئة؟ العلم عند الله، كما أخبرني.
أليس ذلك أيضاً نوع من التسوّل؟ ما الوسيلة أمام عجوز عمل أكثر من ثلاثين عاماً بأمل أن يكفل له راتبه حياة كريمة، أو بالحدود الدنيا بعض الكرامة وألا يحتاج أحداً؟ وهذا حلم بعيد المنال لشريحة كبيرة من السوريين.
أتلاقى بهم يتكئون على جدار، يفترشون الأرض بعد ليل بارد وطويل، يضاف لهم أطفال بالعشرات، هذا يبيع البسكويت وتلك تفرش بعض الدبابيس: "اشتري يا خالة لبنتك الله يرضى عليك"
هناك من يقضي ليله على ناصية الطريق
تراكمت في ذاكرتي مظاهر تضاف لما سبق، في طريق الذهاب والإياب، مرتين أو ثلاثة، خلال الأسبوع الواحد للعمل الذي اختصر الأسبوع إلى ثلاثة أيام أو يومين، لعجز الموظف عن تأمين أجور النقل قبل سقوط النظام وبعده، أتلاقى بهم يتكئون على جدار، يفترشون الأرض بعد ليل بارد وطويل، يضاف لهم أطفال بالعشرات، هذا يبيع البسكويت وتلك تفرش بعض الدبابيس: "اشتري يا خالة لبنتك الله يرضى عليك"، وعصابة تزيد عن العشرة تنتظر الظفر بمن يتحنّن عليهم بما تيسر بجانب المطاعم.
هؤلاء من التقيهم كيفما تجولت، يشغلون بالي، يتكلمون ويسألون وقد تطول جمل الرجاء والتوسل بما يكبل حركتي، ويجعلني أتوقف لعدة مرات حيث لا ينفع الاعتذار، زميلتي تقول: "لاتصدقي كل هذه الشكوى. منهم من يمتلك المال، ولكنه يرغب بالمزيد"، لكن مصداقية هذه الفكرة تتبدّد عندما أرى رجلاً كبير السن يتلفّظ بكلمات غريبة، تظهر أنه شبه فاقد للذاكرة من شدة الجوع وعدم توفر الرعاية. هنا يتكلم الجوع والبرد والعطش، هنا تتكلم عيونهم التي فقدت بريق الحياة، وهاموا على وجههم بانتظار شفقة من أولاد الحلال وأصحاب القلوب الطيبة في حال صادفوهم.
فقراء يغطون عين الشمس
جدتي على أيامها، كانت تعيد جملتها التي ترن في أذني: "إذا خرج كل الفقراء معاً يغطون عين الشمس"، أي يحجبون أشعتها، ويبدأ شعوري بكثرة الفقر وانتشاره ومدى صحة المقولة بصورة غير موصوفة من تاريخ هذه البلاد، عندما كنا بالكاد نصادف سائلين، إلا في بعض المواسم، حين كانت تأتي نسوة من جماعات تتجول بين المدن صيفاً، منهن من تطلب المال ومنهن من تجد في التبصير وقراءة الطالع فرصة للحصول على المال، لكن ما نعيشه اليوم، بعد أربعة عشر عاماً من الضيق والفاقة، فاق التصور واتسعت الدائرة كثيراً، وهذا ليس مستغرباً، تبعاً لتردي الأوضاع الاقتصادية والغلاء.
اليوم، وبعد قرابة شهرين على سقوط النظام، أشعر أن عين الشمس اتسعت وزاد معها الفقراء، وكل يوم يلتحق نساء ورجال وأطفال بهذه المجموعة، لأن رغيف الخبز أصبح أغلى والرغيف أصغر ولم يعد قادراً على بعث شعور الشبع، وإذا فقد شعور الشبع فالعاقل مهان، ولا ملجأ إلا الشارع الذي ضاق بهم. وكثيراً ما أشعر بهم يتقصدون الاقتراب والدفع باتجاه المارة لعلهم ينتبهون، وهم يعلمون كل العلم أن نسبة كبيرة من المارة ليست بأحسن حالاً منهم، وقد يصدر عنهم ألفاظ ومواقف تعود لعدم المقدرة أو حتى الضيق من كل ما يحدث.
ما نعيشه اليوم، بعد أربعة عشر عاماً من الضيق والفاقة، فاق التصور واتسعت الدائرة كثيراً، وهذا ليس مستغرباً، تبعاً لتردي الأوضاع الاقتصادية والغلاء
بالأمس، سيدة اقتربت من الحشود بجانب أحد الأفران. رأيتها بعد أن عجزت عن تجنب تجمع مياه آسنة، تلبس فردة حذاء واحدة وغاصت رجلها الثانية، لتقترب شابة وتأخذ بيدها خشية أن تقع. المسنة جاءت تطلب الخبز ولا مال بين يديها، مع العلم أن من يطلب الخبز في هذه المدينة لا يعود بدونه، وحصلت على الخبز وعادت كما جاءت، تسحب رجلها بفردة وبعض أرغفة قد تجفّ قبل تصل إلى منزلها، ومن يعلم، قد لا تجد ما يغمس به الخبز، وهذا بات واقع الحال الذي نراه بأم العين.
رد السائل
بعد الحصول على شهادة تخرج من إحدى الكورسات الإعلامية، دخلت لشراء بعض الحلويات لتحلية الرفيقات بهذه المناسبة السعيدة، وصادف دخول رجل كبير بالسن. كان وجهه مألوفاً بالنسبة لي، يجادل العاملة أن تعطيه قطعة من أي نوع. يريد أن يأكل أي نوع من الحلويات، والعاملة كما يقال "عبد مأمور"، دلّ احمرار وجهها على خجل كبير من الرفض. حاولت أن تبرّر أنه يومياً يزور المكان ويحصل على تحلية، والرجل لم يتوقف عن الطلب مثل الطفل. يومها اقترب شاب غطت عينيه الدموع: "تعال ياعم اختر ما تشتهي أنت ضيفي". الغريب أن المسن فرح كطفل، ولم يتردّد بقبول ضيافة الشاب، ووضع في جيبه مبلغاً من المال محاولاً عدم إظهار ذلك.
موقف توقفت عنده كثيراً، لأتذكر أن الرجل الذي ترجّى العاملة كطفل، صادفته بين عمال يجدون في الساحة العامة وسط المدينة مكاناً للحصول على عمل بالحمل والعتالة، أو أي عمل باليومية، لكن يبدو أن ما مررنا به خلال الأربعة عشر عاماً الماضية، من إفقار وغلاء، حرمه من تأمين ما يرعاه في كبره، خاصة بعد أن ذهبت الصحة، وضعف الجسد، وحل الجوع ليأتي على ما تبقى، فالرجل، كما لاحظت، فقد التركيز، وتقبل المساعدة دون سؤال، وهو من أمضى عمره في الكد والتعب، ولو أراد هدر ماء وجهه عندما كان شاباً لكان وضعه المادي أفضل وأجاره من السؤال وذل الحاجة.
في الختام
مع هذه المظاهر، أشعر بأن الطريق يطول بيني وبين الوصول إلى مكتبي مكانياً، وبين أحلامنا بالكفاية والرعاية والأمان، لنا ولمن سبقنا وعمل وكدّ وقدم ما لديه، لمن استنزف طاقته ورمى أجسادنا جثثاً شبه هامدة، لتراودني أفكار كثيرة: هل هؤلاء فقط هم الفقراء؟ هل يمكن أن نعرف كم من الكبار يعيشون بين جدران منازلهم، جائعين ومرضى، تعففوا عن الخروج وطلب العون؟ لا أتمكن من الحصول على إجابة كانت واضحة جداً في كل مرة أحاول فيها استلام راتبي من الصراف، والاستماع لحديث كبار السن وهم بالكاد يتمكنون من صعود أدراج المصرف لاستلام الراتب، وقد يتعثرون ويقعون قبل الحصول على مبتغى غير كاف لعلبة دواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 3 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 3 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 5 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 6 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل