في العام 1993 كنت طبيبًا قد تخرج للتو، وافتتح عيادته المتواضعة في قريته المتواضعة. ولأن الأمر تواضُع في تواضُع، فقد كان مرضاي متواضعين هم أيضاً، وأعني بذلك أنهم كانوا قليلين العدد ولا يشغلون أكثر من ساعة أو ساعتين من وقت دوامي الممتد على مدار عشر ساعات من النهار. كنت أجلس بانتظار مريض قد يأتي وقد لا يأتي، على الأقل في الفترة الصباحية، أي من التاسعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً.
القرى في هذه الساعات لها ميزة خاصة، وهي أن الأطفال يكونون في مدارسهم، والرجال في أعمالهم أو حقولهم، أما النساء فيقمن بأعمال البيت والطبخ للأزواج والأبناء الغائبين. إذن، مَن سيزور طبيباً في هذه الساعات إن لم يكن يعاني مما يهدد حياته ذاتها؟ وأنا، كطبيب جديد، لم أكن معروفاً لا لأولئك الذين يعانون مما يهدد حياتهم، ولا لمن يتمتعون بوافر الصحة، ناهيك عن أن تخصصي ذاته، وهو طب الأسنان، لا يتقاطع كثيراً مع تهديدات الحياة، فلا أحد يموت فجأة من التهاب لثة أو تسوس ضرس.
نحن أمام أيام وشهور صعبة ومصيرية، ولا أدعي المعرفة بكيفية إفشال هذا السيناريو إن صح.
إذن، كان لدي فائض من الوقت لا أدري كيف أبدده. لكنني اكتشفت بعد أقل من شهر أن جاري "أبو كمال" هو الآخر يعاني من مشكلة تبديد وقت الفراغ، لكن لأسباب مختلفة عني؛ فهو رجل في السبعين من عمره، يعاني من مشاكل في ساقه اليسرى تمنعه من العمل أو حتى الحركة الكثيرة. لذلك، يقضي نهاره تحت شجرة الليمون في الحديقة الملاصقة لعيادتي، يشرب الشاي ويرد على تحيات المارة وأسئلتهم عن صحته وأحواله.
صرنا، أنا وأبو كمال، صديقين مقربين، نشرب الشاي معاً، ونتحدث في أمور الدنيا والدين. ولا أنكر أنني كنت أستدرجه في النقاش السياسي لأستفيد من رأيه في المقالات القليلة جداً التي كنت قد بدأت كتابتها في صحيفتي "كل العرب" و"القدس" بين حين وآخر. كان أبو كمال يجيب استناداً إلى فطرته في فهم الأشياء، وإلى خبرته الطويلة في الحياة على "هذه الأرض"، كما كان يسمي قريتنا. لكنني أشهد لنزاهته في الاعتراف بالجهل حين لم يكن يملك إجابة مقنعة لأحد أسئلتي، حيث كان يقول بكل تواضع: الله أعلم.
في نهاية تلك السنة، وقّع الفلسطينيون والإسرائيليون اتفاق أوسلو، وكان ذلك مفاجأة سياسية من العيار الثقيل، خصوصاً أنه جاء بعد عامين من المفاوضات العسيرة في مدريد، وعدم التقدم في أي ملف من الملفات المطروحة للتفاوض. ولأن الاتفاق حظي بردود فعل متفاوتة ومتناقضة من الشارع الفلسطيني وفصائله السياسية، لم أستطع بخبرتي كشاب صغير أن أبني موقفاً متماسكاً يصلح لأن أقدمه في مقال سياسي، دون أن أتعرض لسخرية القراء. لذلك، قررت الذهاب إلى صديقي الجديد وسؤاله عن رأيه فيما حدث وإلى أين سيؤدي.
ما رأيك يا حاج في هذا الاتفاق الذي وقّعه عرفات ورابين؟ سألت، وانتظرت الإجابة. لكن أبا كمال صفن طويلاً قبل أن يقول: "أنت يا دكتور صرت تفهمني جيدًا؛ عندما أعرف أقول إنني أعرف، وعندما لا أعرف أقول إن العلم عند الله. لكنني في هذه المرة لست متأكداً إن كان الله نفسه يعلم، فلا تسألني أرجوك".
لم أعد أذكر إن كنت ضحكت أم استغفرت بعد هذه الإجابة، كل ما أذكره هو أنني لم أكتب مقالاً عن اتفاق أوسلو حينها.
ما رأيك يا حاج في هذا الاتفاق الذي وقّعه عرفات ورابين؟ سألت، وانتظرت الإجابة. لكن أبا كمال صفن طويلاً قبل أن يقول: "أنت يا دكتور صرت تفهمني جيدًا؛ عندما أعرف أقول إنني أعرف، وعندما لا أعرف أقول إن العلم عند الله. لكنني في هذه المرة لست متأكداً إن كان الله نفسه يعلم، فلا تسألني أرجوك"
هذه المقدمة الطويلة لها هدفان: الأول هو تبرير التردد فيما سأكتبه عن ترامب، أما الثاني فهو تقليل هذه الكتابة قدر الإمكان واختصارها في التوقع. وكما أظن، فإن التوقع عبارة عن حالة تقع بين المعرفة واللامعرفة، أي أنني لا أستطيع الجزم بما نحن مقبلون عليه في عهد ترامب. وبالتالي، لا يمكنني القول بفم ملآن إن هذا الرجل سيفعل كذا وكذا، وأن شعبنا وقضيتنا سيكونان في مهب الريح، أو أننا سنحصل على حقوقنا بالحد الأدنى الذي يحل هذا الصراع مرة وللأبد. لكنني، في المقابل، لا أستطيع ترديد مقولة أبي كمال سالفة الذكر والركون إليها. لذا سأحاول:
دعونا نحاول دراسة الرجل من خلال زلات لسانه لا من خطاباته المُعدة سلفاً. وهنا، فإن أوضح زلتين له هما إجابته عن سؤال يتعلق بالحرب في غزة بـ "هذه ليست حربنا"، والثانية في معرض إجابته عن سؤال يتعلق بضربة إسرائيلية محتملة لإيران حيث قال: "أفضّل حل المشكلة مع إيران بالدبلوماسية أولاً".
في الجملة الأولى، لا أعتقد أن ترامب يقصد التخلي عن هذا الملف الذي يفاخر هو نفسه بإنجاز صفقة التبادل فيه. هل سيترك نتنياهو يصول ويجول دون رادع، أم سيفرض عليه إيقاف هذه الحرب لأنها ليست حرب الولايات المتحدة؟ باعتقادي أن الإجابة تقع بين الحالتين، وهي تتعلق بالأولويات لا بالمضمون. أقصد أن الرجل ينوي تأجيل هذا الملف، أي الملف الفلسطيني برمته، إلى حين تهيئة الظروف المناسبة في المنطقة وعند الطرفين.
لا أعتقد أن ترامب معني بطرح صفقة القرن مجدداً للنقاش، لا بصيغتها الأولى ولا في الوقت الحالي، فأولوياته في المنطقة سوف تتمحور حول السعودية وإيران، لا حول إسرائيل وفلسطين. هناك سيتم طرح الصفقة أولاً، وسوف يحاول بيع السعودية حلاً مع إيران كبديل، أو على الأقل كداعم لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
سيسجل ترامب انتصاراً بصفقة الرهائن، وبالتالي سيسحب من نتنياهو الذرائع لاستكمال الحرب في غزة، مما سيتسبب بإسقاط حكومته عاجلاً أم آجلاً. وبالتوازي، ستدور حرب من نوع آخر في الضفة الغربية. سيكون أحد مهمات هذه الحرب، بالإضافة إلى تعزيز الاستيطان وضم مناطق واسعة من الضفة الغربية، هو تجريد الفلسطينيين من تمثيلهم السياسي، وخلق قيادة بديلة تقبل بالحل القادم بعد إنهاكهم وتيئيسهم
أعني أن شرط الدولة الفلسطينية المطروح سعودياً كثمن للتطبيع لن يعجب ترامب، وسوف يعمل على إفراغه من مضمونه. وهذا الإفراغ من المضمون لن يكون على طريقة بايدن والديمقراطيين في المقايضة بين شرط "دولة فلسطينية" والاستعاضة عنه "بمسار يؤدي إلى دولة فلسطينية"، بل سيكون واضحاً منذ البداية بأنه لا يقبل الشروط من أحد، وإن كان لا بد منها، فهو فقط من يضعها.
هل سينجح في جر إيران إلى الحظيرة الغربية؟ سأغامر وأجيب بنعم. فهذا توقّع ليس إلا في نهاية المطاف. وبما أنه توقّع، فسوف أشطح قليلاً وأقول إنه سيجهزها للتطبيع أيضاً. لن يتم هذا المشروع الكبير خلال شهر أو شهرين، بل سيأخذ وقتاً طويلاً تكون فيه الظروف لدى الطرفين المتحاربين قد نضجت، أقصد بالطرفين نحن والإسرائيليين. لكن كيف ستنضج هذه الظروف للحل؟
ستنضج بـ "هذه ليست حربنا"، أي أنه سيسجل انتصاراً بصفقة الرهائن، وبالتالي سيسحب من نتنياهو الذرائع لاستكمال الحرب في غزة، مما سيتسبب بإسقاط حكومته عاجلاً أم آجلاً. وبالتوازي، ستدور حرب من نوع آخر في الضفة الغربية. سيكون أحد مهمات هذه الحرب، بالإضافة إلى تعزيز الاستيطان وضم مناطق واسعة من الضفة الغربية، هو تجريد الفلسطينيين من تمثيلهم السياسي، وخلق قيادة بديلة تقبل بالحل القادم بعد إنهاكهم وتيئيسهم.
ممن ستتكون هذه القيادة؟ من أولئك الذين يعتاشون على هامش المشروع الوطني، ومن عشائر ووجهاء، ومع رشة ملح كبيرة ومعتبرة من حزب جديد على شاكلة الشرع في سوريا. ومع من ستوقع هذه القيادة؟ بالتأكيد ليس مع نتنياهو، فلا ترامب ولا الإسرائيليون أنفسهم سيسمحون له بأن يكون بطل الحرب وبطل السلام أيضاً.
نحن أمام أيام وشهور صعبة ومصيرية، ولا أدعي المعرفة بكيفية إفشال هذا السيناريو إن صح. لكنني ما زلت ممن يراهنون على قدرتنا في قول "هذا ليس سلامنا"، والله أعلى وأعلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 20 ساعةصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ 5 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ 6 أيامراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ أسبوععمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون