شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
التوسّع العمراني العشوائي يلتهم الأراضي الزراعية ويهدّد قوت اليمنيين

التوسّع العمراني العشوائي يلتهم الأراضي الزراعية ويهدّد قوت اليمنيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الجمعة 24 يناير 202511:19 ص

في مدينة كريتر في محافظة عدن، تعيش عائلة وفاء، "آل يسلم"، وتتأرجح بين أمل في المستقبل ويأس من واقع مرّ. تتذكّر وفاء، الأراضي التي تقول إنه جرى صرفها لعائلتها في تسعينيات القرن الماضي، حيث كانوا يأملون في زراعتها ويجنون محاصيلها، لكن جاءت حرب الانفصال اليمنية عام 1994، ومن بعدها الحرب الأهلية في عام 2015، والتي لا تزال مستمرةً، والعائلة لا تزال تنتظر الوقت المناسب لزراعة الأرض التي تأثّرت بهذه الحروب المتتالية.

لكن العائلة فوجئت بأنّ "متنفذين" -كما تصفهم- بسطوا أيديهم على الأرض التي صُرفت لهم ويمتلكون وثائق ملكيتها، وهي أرض زراعية، وبنوا عليها مصنعاً. وعندما حاولت العائلة استرداد الأرض وإصلاحها وزراعتها، أوقفتها جهات تنفيذية بلا سبب واضح، برغم تقديم الوثائق والمستندات التي تم تسليمها لهم من قِبل "جمعية السلام"، وهي جمعية زراعية غير حكومية.

تقول وفاء، بيأسٍ لرصيف22: "كنّا قد توافقنا على البدء بإصلاح الأرض وزراعتها، لكن هؤلاء الأشخاص تمكّنوا من البسط (أي السطو) عليها، وبنوا مصنعاً عليها في ظل غياب الدولة، ولا يمكننا حتى أن نستعيد شبراً من الأرض، برغم وجود كل الوثائق والاستدلالات التي تم تسليمها لنا من قبل جمعية السلام".

على الجانب الآخر من أطراف مدينة تعز، تتحدّث تسنيم حامد، عن الأراضي الزراعية القريبة من منزلها، والتي كانت تُعدّ مصدر رزق لأهالي القرية، لكن مع بدء الزحف العمراني العشوائي الذي توسّع بشكل مطرد منذ بداية الحرب 2015، لاحت أزمة زراعية نتيجة عدم حصول المزارعين على دعم حكومي لمواجهة الآفات الزراعية وانخفاض إنتاجية الأراضي، فاتجهت الزراعة بوجه عام إلى التدهور.

تسنيم وأسرتها من المستفيدين من البناء السكني العشوائي على الأراضي الزراعية في منطقتها في مدينة تعز التي يقول عدد من سكانها، لرصيف22، إنّ التغوّل السكني بات يغطي "نحو 17 كيلو من مساحتها" المزروعة في غياب التقديرات الرسمية ورقابة الدولة

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ تسنيم وأسرتها من المستفيدين من البناء السكني العشوائي على الأراضي الزراعية في منطقتها التي يقول عدد من سكانها، لرصيف22، إنّ التغوّل السكني بات يغطي "نحو 17 كيلو من مساحتها" المزروعة في غياب التقديرات الرسمية وفي غياب رقابة الدولة.

التخلّي عن الزراعة

في قرية الدمينة (غرب مدينة تعز)، كانت الزراعة مهنةً رئيسيةً للسكان حيث كان الفلاحون يزرعون أراضيهم بالحبوب زراعةً موسميةً من أجل الاستدامة المالية، ولتوفير قوت يومهم والسلع الغذائية الأساسية. لكن مع بدء الزحف العمراني، بدأ مزارعو القرية بالتخلّي عن مهنة الزراعة، ما أدّى بهم إلى بيع أراضيهم لصالح البناء والإسكان.

أثر التوغّل العمراني في اليمن

كان الإغراء بالمبالغ المالية التي حصلوا عليها دفعةً واحدةً ثمناً للأرض لتحقيق الطموحات البسيطة، والرغبة في التخلّي عن الزراعة ومشقتها، ومحاصرة الزحف العمراني لهم بالفعل من جهات عدة، عوامل ساهمت في سرعة بيع المزارعين لأراضيهم، لا سيّما في ظل الحصار الممتد لسنوات من قبل الحوثيين لتعز والذي زاد مشقّات الحياة على أهلها.

مع ذلك، كان العائد المادي الذي قُدِّم للمزارعين لبيع أراضيهم غير كافٍ للاستمرار في حياتهم، ولم يوفّر لهم "الاستدامة المالية" على مدار السنة التي كانت تضمنها لهم محاصيلهم.

الملكية الزراعية سبب أيضاً

الزحف العمراني في "الدمينة"، ليس قصّةً فريدةً بل هو نموذج تكرّر في العديد من المناطق الزراعية في اليمن التي تحوّلت إلى أماكن سكنية. لعبت دوراً كبيراً في ذلك الملكية الزراعية المفتتة، حيث يمتلك كل شخص مساحة/ ات صغيرةً، لا يكفي محصولها كمصدر دخل يوفر حياةً كريمةً أو تكفي مساحتها للاستثمار في زراعة محاصيل وفيرة الإنتاج. 

وتقول تسنيم، من خلال تجربتها، إنه ربما يمكن معالجة ذلك عبر تشجيع التنّوع الزراعي وتوفير الدعم للفلاحين الذين يتعرّضون لضغوط اقتصادية واجتماعية، بما في ذلك ظاهرة التمدّن الدخيلة على حياتهم الريفية حيث يصطدم نمط الحياة المدنية بشكل مباشر مع نمط حياتهم الريفية المتناسبة مع العمل الزراعي الرعوي نتيجة الزحف العمراني، وإدخال أساليب معيشة متنوّعة تحتاج إلى السيولة المالية وليس الأصول المادية.

نقص كبير يُلاحَظ أخيراً في مساحات الرقعة الزراعية في اليمن، التي لا تمثّل سوى 2.5% من إجمالي مساحة البلاد، بما يهدّد الأمن الغذائي لليمنيين في ظل الزيادة السكانية المتواصلة. فما هي أسبابه؟ وكيف ينبغي للسلطات التعامل معه؟

تدهور الأراضي الزراعية… تحدّيات وآثار اقتصادية

بدوره، يقول وكيل قطاع الريّ واستصلاح الأراضي الزراعية في وزارة الزراعة والريّ والثروة السمكية في عدن، المهندس أحمد الزامكي، إنّ تدهور الأراضي الزراعية في اليمن يعود إلى مجموعة من الأسباب الطبيعية والبيئية، من أبرزها الجفاف والفيضانات وزحف الرمال، بالإضافة إلى الهجرة من الريف ونقص الخدمات الزراعية الأساسية.

من توغّل الزحف العمراني في تهامة

يضيف الزامكي، لرصيف22، أنّ التوسّع العمراني على حساب المناطق الزراعية، خاصةً بالقرب من التجمّعات السكانية وعلى مجاري السيول، يُعدّ من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تدهور هذه الأراضي حيث أدّى انقطاع جريان السيول لفترات طويلة بسبب الجفاف وشحّ الأمطار إلى تفاقم المشكلة.

كما يوضح أنّ هذا التدهور أدّى إلى نقصٍ كبير في مساحات الرقعة الزراعية، التي لا تمثّل سوى 2.5% من إجمالي مساحة البلاد، ومع الزيادة السكانية المتواصلة، يزداد احتياج البلاد إلى الغذاء، ما يتطلّب زيادة الإنتاج الزراعي وتحسين الأمن الغذائي.

في ظلّ هذه الظروف، أصبحت البلاد تعتمد بشكل متزايد على الواردات الخارجية لاستيراد معظم السلع الغذائية، ما يؤثر سلباً على الاحتياطي النقدي الأجنبي ويضعف الاقتصاد الوطني، وهو الوضع الذي ينعكس أيضاً على سعر العملة الوطنية وعلى ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية.

ويشير الزامكي، إلى أنّ المناطق الأكثر تضرراً تشمل دلتا تبن في محافظة لحج، ودلتا أبين في محافظة أبين، وكذلك مناطق الحسوة جعولة وبئر فضل وبئر أحمد في محافظة عدن، بالإضافة إلى مناطق زراعية أخرى قرب المدن الرئيسية في الضالع وسيئون في منتصف وادي حضرموت.

تعزيز حماية الأراضي الزراعية في اليمن

وحسب أستاذ البيئة محمد الوصابي، فإنه في ظل التوسّع العمراني المتزايد، يتعرّض القطاع الزراعي لتهديدات خطيرة تؤثر بالسلب على البيئة وعلى التنوّع البيولوجي حيث يؤدّي تحويل الأراضي الزراعية إلى مبانٍ، إلى نقص حاد في الموارد النباتية والحيوانية، بما يهدّد بقاء الحياة البرية، بسبب فقدان الموائل الطبيعية وانحسار مساحات العيش للكائنات الحية، وهو ما يضاعف خطر انقراض بعض الأنواع التي تعتمد على هذه البيئات الثرية.

كما يلفت، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ تقطيع الأراضي الزراعية إلى قطع صغيرة يصعّب حركة الكائنات الحيّة، ويقلّل من فرص التزاوج والتكاثر، ويزيد من معاناتها. أما في ما يتعلق بالتأثيرات على التربة، فإنّ التوسّع العمراني يؤدّي -والحديث لا يزال للوصابي- إلى تلوّثها بمخلّفات البناء والمواد الكيميائية، بما يضرّ بخصوبتها وجودتها، فضلاً عن أنّ الضغط الناتج عن المباني يقلّل من نفاذية التربة، ويضعف قدرتها على استيعاب الماء والهواء، وهذا يؤدي بالتبعية إلى تدهورها.

وزيادةً على ذلك، فإنّ إزالة النباتات من الأراضي الزراعية لغرض البناء تُسهم في فقدان المواد العضوية الضرورية للحفاظ على خصوبة التربة، وترك التربة مكشوفةً لفترات طويلة يؤدي إلى تعرّضها للتعرية، بما يضاعف من خطر التصحر وفقدان الأراضي الزراعية، ويهدّد الأمن الغذائي في المنطقة، وفق الوصابي.

حقائق وأرقام

أظهرت ورقة عمل صادرة عام 2014، عن وزارة الزراعة والري، حول "الموارد الأرضية والتربة في الجمهورية اليمنية"، أنّ الأراضي الزراعية الصالحة انخفضت بشكل ملحوظ خلال العقود الماضية. فبين عامَي 1970 و1980، تراجعت المساحة من 2.692 مليون هكتار إلى 2.44 مليون هكتار. وفي عام 1984، انخفضت إلى 1.1515 مليون هكتار، لتصل في عام 2000 إلى 997.220 هكتار.

وتُعدّ المدرجات الزراعية ركيزةً أساسيةً للتنمية الريفية في اليمن، حيث تمثّل نحو 47% من الأراضي المزروعة، إلا أنّ تدهورها وهجرة اليد العاملة الماهرة أدّيا إلى تفاقم الأزمة. على الرغم من أنّ الهطول المطري في تلك المناطق يتراوح بين 1،700 و2،500 مليون متر مكعب سنوياً، إلا أنّ الظروف البيئية الصعبة أدّت إلى تدهور التربة.

من توغّل الزحف العمراني في تهامة

ويُساهم قطاع الزراعة بنحو 20% من الناتج القومي لليمن، ويعتمد عليه نحو 58% من السكان كمصدر رئيسي للدخل. وبرغم أنّ مساحة الأراضي المزروعة تقدّر بنحو 1،241،387 هكتار (3.7% من المساحة الإجمالية)، إلا أنّ نصيب الفرد من المساحة الزراعية لا يتجاوز 0.09 هكتار، وهو من أدنى المعدلات عالمياً.

وبحسب مجموعة البنك الدولي، فإنه "في الوقت الحالي، لا يوفر قطاع الزراعة في اليمن سوى 15 إلى 20% من احتياجاته الغذائية الأساسية بالرغم من أنّ هذا القطاع هو العمود الفقري لسبل كسب العيش في اليمن".

بحسب مجموعة البنك الدولي، فإنه "في الوقت الحالي، لا يوفر قطاع الزراعة في اليمن سوى 15 إلى 20% من احتياجاته الغذائية الأساسية، بالرغم من أنّ هذا القطاع هو العمود الفقري لسبل كسب العيش في اليمن. كيف يؤثّر الزحف العمراني على الزراعة في اليمن؟

هل من حلول؟

إلى ذلك، يشدّد أستاذ البيئة في جامعة صنعاء، محمد الوصابي، على ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة لحماية الأراضي الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي في اليمن، موضحاً أنّ ذلك يتطلّب جهوداً متعدّدةً من بينها مراجعة القوانين الراهنة المتعلّقة بالزراعة والأراضي الزراعية، وسنّ قوانين جديدة تعزّز حماية الأراضي الزراعية وتفرض عقوبات على المخالفين، لأنّ تعزيز الرقابة وتفعيل دور الأجهزة الحكومية من ضروريات منع التعدّي على الأراضي الزراعية والتصدّي للمخالفين.

شكل المنطقة قبل الزحف العمراني
شكل المنطقة بعد الزحف العمراني

ينبّه الوصابي، أيضاً، إلى أهمية توفير الدعم الفني لتطوير أساليب الزراعة الحديثة، إلى جانب دعم المزارعين وتسهيل حصولهم على التمويل اللازم، والقيام بحملات توعوية لشرح أهمية المحافظة على الأراضي الزراعية وتأثير تدهورها على الأمن الغذائي للبلاد وإيجاد حلول بديلة لتوفير الطاقة وتشجيع المزارعين على استخدامها، فضلاً عن تطوير البنية التحتية الزراعية وتوفير المياه بطرق سهلة.

من جهة أخرى، يقترح الوصابي، تعزيز الوعي المجتمعي من خلال العديد من الإجراءات، عبر الحملات التوعوية الواسعة عن أهمية الأراضي الزراعية وتبعات تدهورها، بالتزامن مع تقديم برامج تثقيفية في المدارس والجامعات والمساجد، وتنظيم ندوات وأمسيات تتعلّق بأهمية الزراعة ودورها في دعم الأمن الغذائي.

ويؤكد أيضاً على أهمية الحملات الإعلامية الشاملة عبر التلفزيون والراديو والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي لنشر رسائل توعوية، وإنتاج أفلام مرئية قصيرة ورسوم متحرّكة توضّح أهمية المحافظة على الزراعة وأضرار التصحّر، داعياً إلى إدراج أهمية الزراعة في المناهج الدراسية، وتشجيع الزراعة المنزلية وتوفير الأدوات اللازمة لها.

كما يقترح "الشراكة مع مؤسّسات ومنظّمات محلّية وخارجية لتنفيذ مشاريع تهدف إلى حماية الأراضي الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي وتنظيم مسابقات وأنشطة فنية في الجامعات والمدارس لتشجيع الطلاب على الزراعة، والاحتفال بالأعياد والمناسبات الزراعية من خلال مبادرات زراعية تشمل زراعة الشتلات في كل مناسبة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image