شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
سجون دمشق لم تكن رحيمة أبداً… هذا حالها في العصر المملوكي

سجون دمشق لم تكن رحيمة أبداً… هذا حالها في العصر المملوكي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 15 يناير 202511:42 ص

تعددت السجون في دمشق خلال العصر المملوكي (648-923 هـ/1250-1517م)، فبينما خُصّص بعضُها للعامة من الناس، خُصصت أخرى للمعارضين السياسيين وأصحاب الرؤى الدينية المخالفة، لكنها في كل الأحوال اشتركت في صنوف التعذيب التي مورست ضد المساجين.

من أشهر سجون دمشق في هذه الفترة، سجن باب البريد، وكان بمحلة باب البريد، التي تشمل سوق المسكية والنهاية الشرقية لسوق الحميدية وسوق الحرير، وموقعه سوق باب البريد اليوم، حسبما يذكر عبدالرؤوف جبر القططي في دراسته "السجون في مصر وبلاد الشام في الدولتين الأيوبية والمملوكية 567-923هـ/1171-1517م".

مرّ بهذا السجن عدد من الأحداث المهمة، منها في سنة 899 هـ، عندما أتى جماعة من قرية القابون، شمال شرق دمشق، فكسروا السجن وأخرجوا منه جماعة من السجناء.

وبقي حبس البريد مُستخدماً حتى أواخر العهد المملوكي. ففي سنة 926 هـ خُنق ترجمان الإفرنج ويدعى "الجعبري"، بتهمة إرسال بعض آلات الحرب إلى إسماعيل شاه الصفوي، وقُتل معه في الحبس خنقاً بعض الأروام اليونانيين بعدما قُبض عليهم في شهر رمضان مع بنت "خطأ" (اسم كان يطلق على بائعات الهوى)، وهم يشربون الخمر، كما يروي القططي.

سجون داخل المدارس والقلاع

في الجهة الجنوبية الغربية من دمشق كان هناك سجن باب الصغير. ويروي القططي، أنه حينما هاجم المغول بقيادة غازان دمشقَ سنة 699 هـ، أحرق المعتقلون باب هذا السجن وخرجوا منه، وكانوا نحو 150 سجيناً.

وُصفت السجون المملوكية في دمشق بأن أمرها مهول من الظلمة والروائح الكريهة وانعدام النظافة وتفشي الأمراض الاجتماعية والقبائح، علاوة على تهاوي بنيانها وسقوط جدران بعضها على من فيها من المساجين وموتهم

وهناك سجن السد، وفيه قُطعت يد رجل من المساجين كان يزوّر المراسيم السلطانية، واسمه السراج عمر القفطي المصري، وحُمل في قفصٍ على جمل وهو مقطوع اليد والدّم ينصبّ منها، وأُركب معه رجلان آخران، هما الشيخ زين الدين زيد، على جمل، وهو منكوس وجهه إلى دبر الجمل وعريان مكشوف الرأس، وشخص آخر يدعى البدر الخصمي، على جمل آخر. وأُركب الوالي شهاب الدين على جمل آخر، وطيف بهم دمشق ونودي عليهم: "هذا جزاء من يزوّر على السلطان"، ثم أُودعوا حبس الباب الصغير.

ومن سجون دمشق أيضاً سجن دوادار السلطان في حي العقيبية بجوار جامع التوبة، والذي نُقب وخرج منه جماعة كثيرة، وكذلك سجن الدير وسُجن فيه شاب شافعي المذهب اسمه موسى العلماوي بسبب كلمة قالها واعتبرها القاضي المالكي لفظاً كفرياً، فأمر بحبسه والتضييق عليه، فبات في السجن في قيد وَغُلّ.

واستُخدمت المدارس في بعض الأحيان كسجون، مثل المدرسة العذراوية في حارة الغرباء داخل باب النصر المسمى "باب سعادة". ويروي القططي، أن الست العذراء بنت أخي صلاح الدين الأيوبي، أنشأت هذه المدرسة سنة 580 هـ، ولم ينقطع التدريس بها رغم استخدامها في بعض الأحيان كسجن يُنفذ فيه حكم الترسيم (الحجر أو التوقيف أو الإقامة الجبرية بعد العزل) على بعض العلماء وموظفي الدولة مثل الولاة والقضاة والمحتسبين وموظفي الأوقاف ممن تثبت عليه تهمة.

كما استُخدمت قلعة دمشق كسجن، فقبل العصر الأيوبي استُغلت كمحبس للأسرى الصليبيين الذين أسرهم السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 585 هـ في معركة على الجسر المؤدي إلى صيدا، وفي العصر المملوكي استُخدمت سجناً لأمراء المماليك وكذلك عامة الناس. كما كان فيها سجن للنساء، فقد سُجنت فيه العالمة أمة اللطيف بنت الناصح عبدالرحمن الحنبلي، وكانت صالحة عفيفة صاحبة أملاك وأموال، وحُبست بقلعة دمشق نحو ثلاث سنوات، ثم أطلق سراحها.

وبحسب القططي، استُخدمت بعض أبراج القلعة ومبانيها سجناً، مثل برج الخيالة الذي هرب منه السجناء بعد تنقيبه سنة 806 هـ، وكذلك سجن الحيات.

سجون الجباب للمعارضين السياسيين

وفي قلاع المدن القريبة من دمشق أُنشئت سجون الجُباب، مثل جُب قلعة حلب، وجُب قلعة حمص. ويذكر القططي، أن "الجُباب" من أبشع السجون الموجودة في هذا العصر، وقد استُخدمت لسجن المعارضين السياسيين، وكانت عبارة عن حفرة في الأرض تضيق فتحتها وتُوسع من الأسفل، ويُدلى المساجين داخلها من فتحة أعلاها ثم تغلق عليهم، وكان الطعام والماء يُدلى إليهم من طاقة في سقف الجُب، ومن ثم كان المسجون يمكث في الظلام الدامس والروائح الكريهة والشدائد العظيمة.

وكان السجين يُوضع في بئر لمدة طويلة لا يرى فيها الشمس ولا يتجدد عليه الهواء، ويضطر أن يأكل ويبول ويتبرز في نفس المكان، وبالتالي كان المكان يتحول إلى مرتع للديدان والأمراض والحشرات والقوارض، وقد يصل اليأس بالسجين إلى درجة تمني الموت.

صنوف مختلفة من التعذيب

وداخل هذه السجون مورست صنوف كثيرة من التعذيب، منها الضرب باليد، وغالباً ما يكون صفعاً أو لطماً أو لكماً أو طرحاً على الأرض أو ركلاً، ولم يكن الغرض منه الإيلام بقدر الإهانة. وبحسب الطان جنين في دراستها "أساليب التعذيب المعنوية والجسدية في عهد دولة المماليك البرجية"، ضُرب المساجين أيضاً بالمقارع، مثل العصا، على الرجلين أو الظهر أو على الرأس، وهي أشد إيلاماً من الضرب باليد، وقد يكون الضرب أيضاً بعكاز من الفولاذ، أو بالحجارة والطوب.

وتعرض المساجين أيضاً للتسمير، من خلال وضع الشخص المراد تعذيبه على لوح من خشب على شكل صليب، وتُدق فيه أطراف الشخص بالمسامير. وتذكر جنين، أن التسمير نوعان: تسمير "عطب" ويُراد به القتل، حيث يُبقى المحكوم عليه بالإعدام مُسّمراً أياماً ينزف الدم منه حتى يموت، وتسمير "سلامة" ولا يراد منه القتل. وهناك أيضاً التسمير بالقباقيب، حيث تُدق كعبا الشخص على خشبة أشبه بالنعل ويُجبر على المشي.

وبجانب الآلام الجسدية التي يسببها التسمير، فإنه يشكل أيضاً تعذيباً نفسياً، حيث كان يُشهّر بالشخص بعد أن يُثبّت مع الخشبة على ظهر الجمل، ويُطاف به في الطرقات والناس تنظر إليه.

ومن وسائل التعذيب التي شاعت في هذا العصر ما يعرف بـ"الشنكلة" أو "التعليق"، حيث يُعلق الشخص من أصابع يديه أو رجليه، وقد تُستخدم "الكلاليب" في ذلك، وهي آلات حديدية يستعملها القصابون لتعليق اللحوم.

ومورست أيضاً قطع الأوصال، ويشمل قطع اليدين والرّجلين وصلم الآذان، وجدع الأنف، وكذلك قطع اليدين والرجلين، وقطع الأصابع، وقطع الأثداء.

عندما ارتفع الطاعون في الشام عام 841 هـ، ومن أجل أن يعمّ الخير والنفع على الناس، أفرج نائب دمشق عن كل المساجين في بلاد الشام.

وضمت قائمة صنوف التعذيب ما يعرف بـ"التكحيل" و"التسميل"، وهو أن يُحمى قطعة حديد بالنار، وتُكحّل به عين المذنب، فيفقد عينه. أما "التسميل" فهو فقء العين.

و"العصر" من طرق التعذيب التي شاعت في تلك الفترة، حيث يُوضع الشخص في آلة تُسمى المعصرة، وتتكون من خشبتين مربوطتين ببعضهما، ويوضع بينهما وجه الشخص ورأسه أو رجلاه أو عقباه، ثم تُشد الخشبتان شداً وثيقاً مما يؤدي إلى كسر العظم.

وفي أواخر العصر المملوكي انتشرت طريقة الخوزقة. وتذكر جنين، أن الخوازيق كانت أنواعاً، منها ما يُضرب في الأرض ويوضع أعلاها صار ببكرة يُعلق فيها الرجل ويُجذب إلى أعلى إلى أن يقع على الخازوق، فيخرج من جسده حيث يقع منه، والنوع الثاني من الخوازيق يكون غليظاً، وكلما ازداد غلظة ازدادت قسوته.

وشاع السلخ كأشنع صنوف التعذيب في العصر المملوكي، من خلال سلخ الجسد والرأس.

انعدام النظافة وتفشي الأمراض

بصفة عامة، وُصفت السجون المملوكية في دمشق بأن أمرها مهول من الظلمة والروائح الكريهة وانعدام النظافة وتفشي الأمراض الاجتماعية والقبائح، علاوة على تهاوي بنيانها وسقوط جدران بعضها على من فيها من المساجين وموتهم؛ ففي 886 هـ سقط أحد جدران سجن الدّم ببريد دمشق على من فيه من المساجين ومات قسم منهم، حسبما يروي مبارك محمد الطروانة في كتابه "الحياة الاجتماعية في بلاد الشام في عصر المماليك الجراكسة 784-922هـ/ 1382-1516م".

وكان يتعرض المحكوم عليهم بالسجن للإهانة والحطّ من مكانتهم الاجتماعية، فقد قاسى الكثير منهم من الأهوال والشدائد قبل دخولهم السجن وبعده، فكانوا يتعرضون للضرب المبرح أمام الناس مع الإهانة والتشهير، كأن يُربطوا في سلاسل ويُطاف بهم في الشوارع حفاةً مكشوفي الرؤوس، ودون أن تُقدم لهم وجبة طعام، مما اضطر بعضهم إلى الهروب أو نقب جدران السجن وقتل السجان للتخلص من ذلك الواقع المهين.

وبالإضافة إلى عقوبة السجن أوقع المماليك عقوبة الشنق، وهي تعرية النصف العلوي للمحكوم عليه، ثم يُلفّ حبل المشنقة حول رقبته وطرفه الآخر يدور حول بكرة مثبتة في عارضة المشنقة، ويُشد الحبل فيرتفع المسجون إلى أعلى وفي نفس الوقت تضيق الحلقة الملفوفة حول رقبته حتى تُزهق روحه.

ونُفذت هذه العقوبة في جرائم السرقة واللصوصية والنكاية بالآخرين وشرب الخمر وحمل السكين التي يُحذر حملها. والملاحظ أن حجم تلك الجرائم لم يكن جسيماً لتصل عقوبتها إلى الشنق، إلا أنه أحياناً كانت تُنفذ في جرائم مماثلة ومكافئة للجريمة، بحسب الطراونة.

وتقرباً إلى الله، كان بعض السلاطين يصدرون الأوامر بالتخفيف عن المساجين والإفراج عنهم؛ ففي سنة 784هـ أصدر السلطان برقوق العديد من المراسيم للإفراج عن المساجين في كل سجون بلاد الشام، ومنع القضاة من سجن أحد على دين لارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء الأسعار، وأمر عام 802 هـ بإطلاق سراح الأمراء المحبوسين في مدينة دمشق.

كان في قلعة دمشق سجن للنساء، سُجنت فيه العالمة أمة اللطيف بنت الناصح عبدالرحمن الحنبلي، وكانت صالحة عفيفة صاحبة أملاك وأموال، وحُبست بقلعة دمشق نحو ثلاث سنوات

وعندما شُفيت يدا نائب دمشق سيباي بعد سقوطه عن الفرس أفرج عن بعض المساجين من سجون دمشق عام 917 هـ. وعندما ارتفع الطاعون الذي انتشر في بلاد الشام عام 841 هـ، ومن أجل أن يعمّ الخير والنفع على الناس، أفرج عن كل المساجين في بلاد الشام. وإلى جانب ذلك كان النواب يفرجون عن بعض المساجين إما شفقة بهم أو لشفاعة من بعض أعيان البلد، أو بعد دفعهم مبالغ معينة لخزينة الدولة، كما يذكر الطراونة.

التصّدق على المساجين

كان السجناء في سجون الدولة المملوكية يحصلون على احتياجاتهم من الطعام إما من أهاليهم أو صدقات أهل الخير. ويذكر الدكتور إسلام إسماعيل عبد الفتاح في دراسته "حقوق المساجين في مصر وبلاد الشام في عصر الدولة المملوكية 648 – 923هـ/1250-1517م"، أن كثيراً من أهل الخير عُرفوا بالصدقة على المساجين، ومنهم عبد الله بن مشكور الحلبي ناظر الجيش (ت 778هـ/1376م) الذي له مآثر معروفة بحلب، منها أنه أوقف أوقافاً على المحبوسين في حبس أولي الجرائم.

وكثيراً ما كان السجناء يخرجون من السجن إلى الطُّرقات وهم مُكبلون بالحديد بحراسة الأعوان حتى يشحذوا، وهم يصرخون من شدة الجوع. وبحسب عبد الفتاح، كانت الدولة توزع عليهم في بعض الأحيان طعاماً مما يُجمع من المصادرات، أما المساجين في سجون القلاع وهم من الأمراء، فقد كان القائمون على سجنهم هم من يقومون بتقديم الطعام لهم، وهو على الغالب الماء والخبز.

وفي غالب الأحيان كان حال السجن سيئة من الناحية الصحية، فكان من يُسجن في سجن دمشق يقاسي شدائد عظيمة من البقّ والبراغيث، وكان يشم من يمرّ بجواره رائحة كريهة، ويسمع صراخ المسجونين وشكواهم من الجوع والعري والقمل.

وكثيراً ما كان السجناء يصابون بالأمراض التي يسببها طول المكوث في السجن، مثل حدبة في الظهر، فكان ينحني ظهر المسجون في مدة اعتقاله. وأحياناً كان يُشدد على السجين، ويُهمل إهمالاً متعمداً انتقاماً منه، فيُثقَّل بالحديد في رجليه وبالخشب في يديه حتى الوفاة في الاعتقال.

ويذكر عبدالفتاح، أنه كثيراً ما كان يتعرض السجين إلى الإهمال الصحي إلى أن يتوفى، فقد أصيب العلامة ابن النويري بالإسهال الشديد، وقاء دماً، في أثناء مدة حبسه في سجن حلب، وبقي ملقىً على باب السجن في أسوأ حال، والناس ينظرون إليه أفواجاً، حتى توفي في سنة 853 هـ من دون أن يعالجه أحد، وأخرج إلى المارستان (المستشفى) بعد وفاته، ليُغسل ويُصلى عليه.



إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image