"لم أعد أعرف هذه الجزائر التي تسجن عبد الوكيل"؛ هكذا عنون أستاذ الاجتماع السياسي ناصر جابي، مقاله الأسبوعي في "القدس العربي"، بعد اعتقال الصحافي والناشط السياسي عبد الوكيل بلام. اختفى بلام عن الأنظار لمدة أسبوع كامل، في فترةٍ شهدت حالةً من الغموض والتوتر. طوال تلك الفترة، لم يتمكّن عبد الوكيل من التواصل مع عائلته، ما أثار حالةً من القلق العميق في أوساط الصحافيين والناشطين السياسيين في الجزائر. اعتقال بلام، جاء ليُضاف إلى سلسلة من القضايا التي تُسلّط الضوء على قمع حرية التعبير المتنامي في البلاد.
لم تقتصر ردود الفعل على المستوى المحلي فقط، بل قوبل اعتقال عبد الوكيل، بتغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، مع تأكيدها على أنه يمثّل انتهاكاً صارخاً للحقوق الأساسية للمواطنين.
اعتقال عبد الوكيل، والاعتقالات الأخيرة، تدفع إلى التساؤل حول مستقبل الجزائر في ظلّ القمع الواسع للحريات السياسية والإعلامية وغياب المناخ الذي يسمح بالرأي الآخر دون خوف من الانتقام أو الاعتقال.
"أكثر من 200 معتقل رأي في السجون الجزائرية… ما يواجهه عبد الوكيل بلام اليوم، يعكس استمرار النهج نفسه الذي قوبل به الحراك الشعبي في الجزائر في بداياته، والمتمثّل في سياسة أمنية قمعية تهدف إلى القضاء على كل من يخالف السلطة في طرحها وتوجهاتها"
انتكاسة جديدة لحرية التعبير في الجزائر؟
ظهر عبد الوكيل، العضو السابق في حركة "بركات" المناهضة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، بعد أسبوع من الاختفاء أمام قاضي التحقيق، قبل أن يودَع في السجن، بعدما وُجّهت إليه تهم ثقيلة تتعلّق بـ"الانتماء إلى منظمة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالنظام العام والأمن، والإضرار بالوحدة الوطنية، بالإضافة إلى جناية المساهمة في مشروع لإضعاف الروح المعنوية للجيش الوطني الشعبي".
شابت اعتقال بلام، تجاوزات عديدة، كما تعرّض للإخفاء القسري، فهو وفقاً لما يقوله المحامي سعيد الزاهي، لرصيف22: "اعتُقِل من أمام منزله يوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ولم يتمكّن من التواصل مع شقيقه إلا في 4 كانون الثاني/ يناير 2025، في خرق واضح للمادة 51 مكرّر 1 من قانون الإجراءات الجزائية، التي تُلزم الجهة التي نفّذت الاعتقال بتمكين الموقوف من الاتصال الفوري بأحد أفراد عائلته أو محاميه. هذا التأخير أثار شكوكاً لدى زوجته وعائلته حول الجهة التي قامت باعتقاله، وجعلهم يعيشون أياماً صعبةً وقلقاً بالغاً على مصيره" .
"عبد الوكيل بلام، صحافي معروف بخلقه الرفيع وتمسّكه بممارسة حقه الدستوري في حرية التعبير، ينبذ العنف ويدعو دائماً للحوار كوسيلة حضارية لإيجاد الحلول. آراؤه واضحة ومعروفة لدى الجميع من خلال مناشيره والبث المباشر الأسبوعي الذي يحرص فيه على تناول القضايا بجرأة وموضوعية"، يضيف الزاهي.
ويردف: "ما يواجهه عبد الوكيل اليوم، يعكس استمرار النهج نفسه الذي قوبل به الحراك الشعبي في بداياته، والمتمثّل في سياسة أمنية قمعية تهدف إلى القضاء على كل من يخالف السلطة في طرحها وتوجهاتها، مصحوبة بتضييق متزايد على المجال الإعلامي والسياسي ضد أي صوت معارض".
وندّدت منظمة مراسلون بلا حدود، باعتقال الصحافي وطالبت بإطلاق سراحه، عادّةً أنه "مستهدف بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي".
العفو الرئاسي… خطوة مصالحة أم تهدئة شكلية؟
جاء العفو الرئاسي الأخير، بمثابة مفاجأة للجزائريين، حيث صدر في توقيت غير مألوف مع نهاية السنة الميلادية، بعكس ما جرت عليه العادة إذ يرتبط إعلان قرارات العفو بالمناسبات الوطنية والدينية، مثل عيد الاستقلال الذي يصادف 5 تموز/ يوليو من كل عام، أو عشية شهر رمضان وعيد الفطر.
امتاز العفو الرئاسي هذه المرة بسياقه الدولي والإقليمي الخاص، حيث أعقب السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام". وشمل العفو الرئاسي 2،471 مسجوناً، إلى جانب تدابير تهدئة. وبرغم تقديمه كخطوة نحو "الانفتاح" على أصحاب الآراء المعارضة، إلا أنه سرعان ما فقد رمزيته، لتعقبه حملة اعتقالات جديدة أثارت جدلاً واسعاً.
"الواقع يكشف عكس ما أُعلِن عنه، حيث سُجّلت 28 حالة اعتقال خلال 14 يوماً فقط بعد العفو، منها 16 حالة إيداع في الحبس و4 تحت النظر. هذا العدد الكبير من الاعتقالات في فترة زمنية قصيرة، يعكس تناقضاً بين ما تُروّج له السلطة، وما يحدث فعلياً على الأرض"
وأُطلِق سراح خمسة معتقلي رأي، وفق ما أفاد به الناشط السياسي زكي حناش لرصيف22، إذ أكّد عدم مطابقة النتائج مع الإعلان السابق الذي أشار إلى الإفراج عن 22 شخصاً. ويرد في البيان: "قرر أيضاً إفادة 14 محبوساً بإجراءات عفو كلي لباقي العقوبة المحكوم بها عليهم نهائياً في جرائم تتعلق بالنظام العام، بالإضافة إلى ثمانية محبوسين على ذمة التحقيق وإجراءات المحاكمة، بتدابير تهدئة تتعلق هي الأخرى أيضاً بجرائم النظام العام".
يشير الناشط بذلك إلى وجود تناقض واضح في بيان رئاسة الجمهورية الذي أعلن عن "عفو رئاسي وتدابير تهدئة"، مع وعود بإطلاق سراح 22 شخصاً. في المقابل، وثِّق إطلاق سراح خمسة أشخاص فقط. وبينما تحدث البيان عن تهدئة، أظهرت الوقائع تصعيداً، ما يثير تساؤلات حول مصداقية هذه التصريحات.
"الواقع يكشف عكس ما أُعلِن عنه، حيث سُجّلت 28 حالة اعتقال خلال 14 يوماً فقط بعد العفو، منها 16 حالة إيداع في الحبس و4 تحت النظر. هذا العدد الكبير من الاعتقالات في فترة زمنية قصيرة يعكس تناقضاً بين ما تُروّج له السلطة وبين ما يحدث فعلياً على الأرض"، يشرح حناش، الذي وثّق أكثر من 200 حالة اعتقال لمعتقلي رأي في السجون الجزائرية حتى كانون الأول/ ديسمبر 2024.
وفي حينه، اعتبرت أطراف عدة في العملية السياسية في الجزائر، أنّ العفو يمهّد "لإصلاحات سياسية حقيقية"، خاصةً بعد دعوة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إلى حوار شامل إستراتيجي يجمع كل الأطياف والأحزاب السياسية بعد انتخابه خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2024. علّق حزب حركة البناء الجزائري، بأنّ "نيّة الحكومة واضحة لفتح الباب على مصرعيه أمام الجميع بمختلف التوجهات ليس في الرأي بل في المشورة والتخطيط من أجل مستقبل هذا الوطن وتمتين جبهته"، كما ورد على لسان رئيس الحركة عبد القادر بن قرينة.
لكن آخرين رأوه مجرد إجراء شكلي. من هؤلاء الرئيس السابق لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، محسن بلعباس، الذي وصف العفو الرئاسي بأنه يعزّز منطقاً غامضاً ومتناقضاً بشكل عميق. هذا التناقض الذي يتنقل بين تهدئة شكلية وقمع متواصل، يطرح تساؤلات جوهريةً حول الجهة التي تتحكم فعليّاً في اتخاذ هذه القرارات.
بالعودة إلى المحامي سعيد الزاهي، فإنه يقول لرصيف22: "هناك تناقض صارخ بين إجراءات التهدئة وما يحدث من كثرة الاعتقالات، لأنه عندما يتحدّث بيان الرئاسة عن إجراءات التهدئة، فهو يؤكد على وجود وضع غير طبيعي. البيان يقرّ بأنّ الوضع متشنّج، وبأنّ الأزمة السياسية هي من تدفع السلطة إلى هذه الإجراءات والاعتقالات ظنّاً منها أنها تستطيع إسكات الجميع وهو ما لم يمكن تحقيقه".
"حرب هاشتاغات"... ما دلالتها؟
سبقت العفو الرئاسي حرب هاشتاغات إلكترونية، أولها "أنا لست راضياً" الذي اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن عدم رضا شريحة من المواطنين عن الوضع في الجزائر، وقابله هاشتاغ "أنا مع بلادي" الذي أُطلِق ردّاً على ماعُدَّ "حملةً تستهدف زرع الفتنة داخل الجزائر".
وتفاعلت مع هذا الهاشتاغ شخصيات عدة مؤثرة في الجزائر، كالإعلامي الرياضي حفيظ دراجي، الذي كتب منشوراً على فيسبوك ردّاً على الهاشتاغ قال فيه: "كل الفصول في الجزائر بمثابة ربيع لا ينتهي، وربيعنا لا يِشبه أي ربيع. من يتوقّع لنا ربيعاً يُسقِط الجزائر، فليعلم أن الثورة في الجزائر لم تتوقّف عبر التاريخ، ولن تتوقف أبداً ضد الفقر، والتخلف، والجهل، والأمية، والظلم، والفساد، وكل أشكال العبودية. نحن شعب لا يخضع ولا يركع إلا لله. لذلك، أنا مع بلادي، برفقة أبناء بلدي، البارحة، اليوم، وغداً، وفي كل الظروف والأحوال".
من جهة أخرى، علّق المحامي عبد الغني بادي، على الأمر في منشور له قائلاً: "أن تكون مع وطنك حقاً، يعني ألا تصمت أمام الاستبداد والظلم، وألا تساهم في تزييف الحقائق بشأن الأوضاع السائدة في البلاد على كافة المستويات".
يرى مراقبون أنّ الجزائر أمام مفترق طرق حاسم، وأصبح استقرارها مرهوناً باتخاذ خطوات إصلاحية شاملة، عادّين أنّ الحلّ يكمن في إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي، وفتح المجال الإعلامي والسياسي أمام الجميع دون تمييز، مع اتخاذ تدابير جادة تعزز الثقة بين السلطة والمجتمع
وأثار هاشتاغ "مانيش راضي"، حفيظة الرئيس تبون، الذي قال في خطاب له إنه لا يمكن افتراس الجزائر بهاشتاغ، حيث أشارت وسائل إعلام محلية إلى أنّ مغاربةً هم من أطلقوا الهاشتاغ.
العلاقات الفرنسية الجزائرية فصل جديد من التوتر
في غضون ذلك، تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية حالةً من التوتر المتصاعد والتشنّج لأسباب متعددة، من بينها قضية اعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، الذي أوقف منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وإيداعه السجن بتهمة "المساس بأمن الدولة ووحدتها" في الجزائر، وذلك بسبب تصريحات صحافية مثيرة للجدل.
في تصريحاته، أشار صنصال، إلى أنّ قادة فرنسا خلال احتلال الجزائر عام 1830، "خلقوا أزمةً" عبر ضمّ الجزء الشرقي من المغرب إلى الجزائر، عادّاً أنّ مناطق مثل وهران وتلمسان ومعسكر، الواقعة غرب الجزائر، "كانت تاريخياً تابعةً للمغرب".
يعكس الواقع الحالي في الجزائر تناقضاً واضحاً بين الخطاب الرسمي الذي يدعو إلى التهدئة، والإجراءات العملية التي تزيد من الاحتقان السياسي والاجتماعي.
كما وجّه الكاتب انتقادات حادةً إلى النظام الجزائري، واصفاً إياه بأنه "نظام عسكري اخترع جبهة البوليساريو لضرب استقرار المغرب". وأضاف أنّ فرنسا لم تمارس "استعماراً استيطانياً" في المغرب لأنه "دولة كبيرة"، بينما كان استعمار الجزائر، وفق تعبيره، سهلاً لأنها "كيان صغير بلا تاريخ".
أثارت هذه التصريحات غضباً واسعاً في الجزائر، حيث جاءت في ظرف حساس تشهد فيه العلاقات مع فرنسا توتّراً متزايداً، إلى جانب التوتر الإقليمي المتعلّق بالنزاع مع المغرب حول الصحراء الغربية، وطالبت فرنسا بإطلاق سراح صنصال فيما عدّه الرئيس تبون "لصّاً دون هوية".
كما تصاعدت التوترات بين البلدين، بعد سلسلة من الاعتقالات التي طالت مؤثرين جزائريين في فرنسا، بتهمة نشر رسائل تحريضية على العنف والكراهية ضد معارضي النظام في الجزائر، وذلك على خلفية تصاعد التفاعل مع هاشتاغ "مانيش راضي"، والدعوات المتزايدة للخروج في مظاهرات تعبّر عن رفض الوضع القائم في الجزائر.
وندّدت الجزائر بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي طالب فيها الجزائر بإطلاق سراح صنصال، عادّاً أنها تسيء إلى نفسها بهذه التصرفات، فيما ردت الجزائر بأنّ تصريحات ماكرون "تدخّل سافر في الشؤون الداخلية" للبلاد.
وتعقيباً على تصريحات السياسيين الفرنسيين المسيئة إلى الجزائر، قال أمين عام حزب جيل جديد الجزائري، حبيب براهمية، على "إكس"، تويتر سابقاً: "من الضروري تذكير هذا الجيل الجديد من السياسيين الفرنسيين، الذين يفتقرون إلى الحكمة، بأنّ هناك إجراءات دبلوماسيةً وأصولاً محترمةً للتعامل مع دولة ذات سيادة". وختم تغريدته كاتباً: "في رأيي، من الأفضل لفرنسا أن تتخلّى عن هذه الخطابات التي تبدو مُهدِّدةً ومليئةً بالازدراء تجاه الجزائر، وأن تتبنى موقفاً أكثر جدّيةً وكرامةً، يتماشى مع مكانتها ومبادئها المعلنة".
بحسب مراقبين وناشطين سياسيين، يعكس الواقع الحالي في الجزائر تناقضاً واضحاً بين الخطاب الرسمي الذي يدعو إلى التهدئة، والإجراءات العملية التي تزيد من الاحتقان السياسي والاجتماعي. هذا التناقض، وفق آرائهم، يضع البلاد أمام مفترق طرق حاسم، حيث يصبح الاستقرار مرهوناً باتخاذ خطوات إصلاحية شاملة.
ويرى هؤلاء أنّ الحلّ يكمن في إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والحراك، وفتح المجال الإعلامي والسياسي أمام الجميع دون تمييز، مع اتخاذ تدابير جادة تعزز الثقة بين السلطة والمجتمع، وتمثّل البداية نحو تحقيق الاستقرار وإرساء أسس حوار وطني شامل يعكس تطلعات الجزائريين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ 5 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ 6 أياموحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ اسبوعينمبدع