بعد أيام على سقوط النظام السوري، تواصلت معي صحافية تعمل في إحدى القنوات المعروفة الناطقة باللغة الإنكليزية، طالبةً أن أساعدها في العثور على "سيدة خرجت حديثاً من المعتقل، وتتحدث الإنكليزية بشكل جيد". هذا الطلب غير المهني، والذي يعبّر إلى حدٍّ كبير عن عدم حساسية وفهم كافيين للسياق السوري وما عاشه ويعيشه السوريون منذ عقود، لم يكن الوحيد من نوعه.
منذ ذلك الحين، ومع قدوم مئات الصحافيين/ ات الغربيين/ ات والعرب، ومراسلي/ ات عشرات وسائل الإعلام العربية والغربية المهتمة بتغطية "الحدث السوري" الذي عاد فجأةً إلى صدارة المشهد بعد إسقاط نظام بشار الأسد، رصدنا في رصيف22، مجموعةً من المواقف المخالفة لمعايير التغطية الإعلامية المهنية والإنسانية والأخلاقية، وهو ما استدعى العمل على هذا التقرير أملاً في عدم تكرارها، خاصةً أن سوريا اليوم تشهد زخماً إعلامياً غاب عنها منذ سنوات طويلة في ظل القيود التي كانت سلطات النظام الساقط قد فرضتها على دخول الإعلام الأجنبي مع اندلاع الثورة عام 2011. زخم وصفه أحد الزملاء بأنه يشبه "سيركاً صحافياً".
البحث عن "مأساة"
على غرار الفيلم المصري الكوميدي "البحث عن فضيحة"، لكن بصورة تراجيدية، تعاملت وسائل إعلام غربية عدة -وبدرجة أقلّ الوسائل العربية- مع التطورات في سوريا منذ إسقاط النظام. وبينما كانت قضية المعتقلين والمغيّبين قسرياً، والسجون سيئة السمعة للنظام، هي أهم وأبرز القضايا، كان "تكالب" هذه المنابر الإعلامية والصحافية على "السبق" و"الإثارة" على حساب الضحايا من معتقلين/ ات مفرَج عنهم/ نّ وأهالٍ مكلومين على ذويهم الذين تأكدوا من مقتلهم تحت التعذيب أو حائرين في بحثهم عن طرف خيط يجلي مصيرهم. لا يبدو أنّ أياً منهم/ نّ حظي/ ت بتدريب على التغطية في مثل هذه الظروف والسياقات، ولا على التعامل مع الضحايا والناجين من هكذا مأساة.
طلب صحافي من أحد المعتقلين العودة إلى سجن صيدنايا لتصوير "مشهد تمثيلي" للحظة خروجه من السجن بعد أيام قليلة من استرداده حريته، وآخر كان يبحث حصراً عن معتقلة "تعرضت للاغتصاب وأنجبت أطفالاً داخل السجن"، وخرجت "مؤخراً" من المعتقل وليس قبل سنوات… عن التغطية الإعلامية غير المهنية لـ"الحدث السوري" منذ إسقاط الأسد
منذ اليوم الأول، فُتحت المعتقلات والأفرع الأمنية وسجن صيدنايا الشهير بـ"المسلخ البشري"، وخرج منها عشرات الآلاف وهم في حالة جسدية ونفسية سيئة للغاية. ومع الاعتراف الكامل بأهمية تسليط الضوء على هذا الملف، وعلى "إجرام" النظام الساقط، إلا أن العديد من الإعلاميين والصحافيين تعاملوا مع هذا الملف بالغ الحساسية على أنه مجرد "تراند"، ومن دون مراعاة للاعتبارات المهنية والإنسانية، ولا معايير الاحترافية في التعامل، ومن دون أي اعتبار كذلك لأصحاب القضية أنفسهم. لعلّ تقرير مراسلة "سي أن أن"، كلاريسا وورد، والحديث المفبرك عمّا وصفتها بـ"لحظة تحرير أحد المعتقلين في سجن صيدنايا"، والذي تبيّن لاحقاً أنه "تمثيلي" إلى حدٍّ بعيد، ومن يظهر فيه هو ضابط في المخابرات السورية، هو الأبرز في هذا المضمار.
عن وقع هذه التغطية غير المهنية، تتحدث سنا مصطفى، وهي ناشطة حقوقية عادت من الولايات المتحدة إلى سوريا بعد سقوط النظام للبحث عن والدها المختفي منذ عام 2013، إلى رصيف22، عن موقف تقول إنها لا يمكن أن تنساه: "كنت في مشفى المجتهد في دمشق، كي أعاين الجثامين الموجودة هناك وأحاول التعامل مع احتمالية أن يكون جثمان والدي واحداً منها، وكان معي عشرات الأهالي أيضاً. ما أن فُتح باب البراد حتى قفزت صحافية تعمل في إحدى الوسائل الغربية، حاملةً الكاميرا، ودخلت قبلنا كي تصور المشهد وهي تدوس على الجثامين غير آبهة بالعائلات المكلومة، وطبعاً تشاجر الجميع معها مستنكرين تصرفها".
هذا البحث غير المهني وغير الإنساني عن "السبق"، كان حاضراً في الكثير من المواقف الأخرى التي وثّقها رصيف22، ومنها موقف ظهر فيه صحافي وهو يطلب من أحد المعتقلين العودة إلى سجن صيدنايا لتصوير "مشهد تمثيلي" للحظة خروجه من السجن بعد أيام قليلة من استرداده حريته، وآخر كان يبحث حصراً عن معتقلة "تعرضت للاغتصاب وأنجبت أطفالاً داخل السجن"، وخرجت "مؤخراً" من المعتقل وليس قبل سنوات، وثالث كان يغطي وقفةً تضامنيةً خاصةً بقضية المعتقلين وسط دمشق، وعندما عرف بوجود معتقل خرج حديثاً من السجن انهال عليه بكمٍّ من الأسئلة التي تنتهك خصوصيته، ولا تراعي حالته النفسية والجسدية ومدى جاهزيته للحديث عن "تجربته".
"تريند" و"مسلسل" عن سجن صيدنايا
في سياق متصل، كان ملاحظاً تحوّل السجون والأفرع الأمنية خلال الأسابيع الأخيرة إلى "تريند"، فبات لا بدّ لأي وسيلة إعلامية تدخل إلى سوريا من التوجّه نحو تلك الأماكن وإعداد تقارير صحافية قد تخلو من أي معلومات جديدة، ولعل الأخطر من ذلك مشاهدة صحافيين داخل غرف الاعتقال وغرف التحقيق وهم "يدوسون" على أوراق وملفات يُفترض أن تكون محفوظةً من التلف والضياع. ووفق شهادات متقاطعة حصل عليها رصيف22، فإن بعض الصحافيين أعطوا أنفسهم صلاحية إخراج بعض الأوراق والملفات والأقراص المضغوطة والاحتفاظ بها بغرض إعداد مواد إعلامية، مع غياب تام لرقابة سلطات الإدارة الجديدة. كان ينبغي أن يكون التعامل مع وثائق لها أهمية بالغة في ملاحقة مجرمي الحرب والمسؤولين عن اعتقال وتعذيب السوريين لعقود، صارماً جداً.
"كنت في مشفى المجتهد، أعاين الجثامين الموجودة هناك، وأحاول التعامل مع احتمالية أن يكون جثمان والدي واحداً منها، ومعي عشرات الأهالي. ما أن فُتح باب البراد حتى قفزت صحافية تعمل في إحدى الوسائل الغربية، حاملةً الكاميرا… دخلت قبلنا كي تصور المشهد، وهي 'تدوس على الجثامين' غير آبهة بالعائلات المكلومة"
عن ذلك، تقول الصحافية السورية ميار مهنا، لرصيف22، وهي اليوم تعمل من دمشق لتغطية الأحداث الأخيرة: "نرى الإعلام يتوجّه نحو القصص الأكثر مأساويةً وعنفاً، ويختزل الظلم الذي تعرّض له الشعب السوري في قضية المعتقلات. لا أعتقد أن هذا يتضارب مع تسليط الضوء على ملفات مهمة أخرى، ومستويات التعسّف الأخرى التي عانت منها شرائح واسعة في ظلّ نظام الأسد".
تفسّر مهنا الأمر بأنّ "المعتقلات والسجون هي فضاء فيه مخيلة تأخذنا إلى عوالم مختلفة. في مرحلة ما تحوّل سجنا صيدنايا والمزة وغيرهما إلى ما يشبه متاحف العنف، يرغب الصحافيون وحتى عموم الناس في زيارتها لاختبار تجربة فيها شيء من 'الإثارة'، وكأنهم يريدون افتراض أنهم عاشوا ما عاشه المعتقلون خلال العقود الماضية. تحوّلت قضية المعتقلين إلى مادة صحافية درامية تحصد المشاهدات، والناس يريدون معرفة المزيد عنها لأنها مأساوية وتثير الفضول بسبب الحالة السرّية التي كانت تحيط بسجون سوريا قبل إسقاط النظام"، عوضاً عن مساعدة الناجين/ ات وتوفير بيئات آمنة لهم/ نّ والتعامل المسؤول مع محنتهم/ نّ.
ليس أدلّ على ما تقوله مهنا، من المنشورات ومقاطع الفيديو التي تملأ الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي يظهر فيها صانعو محتوى وإعلاميون ومؤثرون في صور على أبواب السجون وداخلها وحتى قرب بعض المقابر الجماعية، والبعض يبدو وكأنه في "جلسة تصوير" محضّرة مسبقاً.
وتنبّه مهنا، إلى الأثر النفسي لكل ذلك على المعتقلين أنفسهم وذوي الضحايا الذين قُتلوا تحت التعذيب والمغيبين قسرياً، مردفةً: "ما يحصل اليوم في هذا الملف وحشي للغاية. الإعلام يستميت ليعثر على أكثر سجين تعذّب كي يحكي قصته أمام الكاميرا، ولو كان سجيناً ‘عادياً’ فلا أهمية للأمر. وقد سمعنا أخباراً عن نية العمل على مسلسل يحكي قصة سجن صيدنايا خلال الفترة المقبلة. ألا يمكن أن يحرّض ذلك على المزيد من العنف حالياً؟".
كما ترى الصحافية السورية، ضرورةً في تسليط الضوء على الكثير من الملفات المغيبة عن الإعلام، شارحةً: "هناك الملايين ممّن يعيشون في ذلّ وفقر وخوف. ماذا عن البطالة؟ ومؤسسات الدولة المغلقة؟ والانتقامات التي نسمع عنها في أكثر من محافظة؟ وتجاوزات السلطات الجديدة في أكثر من ملف؟ نحن بحاجة إلى وسائل الإعلام كي لا نبني سلطةً قمعيةً جديدةً، بل كي ننقد بصوت عالٍ، فالمستقبل شائك وللإعلام دور كبير في ذلك".
استغلال وتكريس صور نمطية
في حين أن ملف المعتقلين من أكثر الملفات التي شهدت انتهاكات إعلاميةً في سوريا مؤخراً، إلا أن العديد من التغطيات الأخرى افتقرت بدورها إلى المهنية الكافية والقدرة على نقل الحدث السوري ضمن سياقه الصحيح وبأقل قدر ممكن من الانحياز.
"هناك الملايين ممّن يعيشون في ذلّ وفقر وخوف. ماذا عن البطالة؟ ومؤسسات الدولة المغلقة؟ والانتقامات التي نسمع عنها في أكثر من محافظة؟ وتجاوزات السلطات الجديدة في أكثر من ملف؟".
نشرت الكاتبة والناشطة السورية سارة هنيدي، على صفحتها، جزءاً من مقابلة أجرتها مع تلفزيون "بي بي سي"، وفيها كانت تناقش المذيع حول "الاهتمام المفاجئ للإعلام بأجساد النساء وحقوقهنّ مع استلام هيئة تحرير الشام مقاليد الحكم كسلطة أمر واقع، في حين لم يلاحظ الاهتمام ذاته مع كل القمع الذي تعرضت له النساء على مدار عقود في ظلّ حكم عائلة الأسد لسوريا"، وأشارت إلى كثير من التحديات التي يتعيّن على السوريين اليوم التعامل معها، والأمر لا يقتصر على حقوق النساء على أهميتها.
الأمر ذاته كان ملاحظاً في تغطيات إعلامية أخرى، إذ ركّز عدد كبير من الصحافيين/ ات على محاورة النساء فقط، أو الحديث عن مخاوف الأقليات والحريات العامة بما فيها ممارسة الشعائر الدينية وشرب الكحول وحرية اللباس وغيرها، وهو أمر ظهر حتى في مقابلة الصحافي المخضرم جيرمي بوين، مع قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع، على "بي بي سي"، قبل نحو أسبوعين، إذ تناولت بمجملها قضايا تعبّر عن أولويات يراها المجتمع الغربي مهمةً، لكنها اليوم بالنسبة للسوريين قد تكون أقل أهميةً من كثير من الملفات مثل ملفات المعتقلين والمهجرين وإعادة الإعمار والأمن والاقتصاد.
وتنسحب هذه الانحيازات أيضاً على التعامل مع الصحافيين المحليين في سوريا، الذين تعرّضوا ويتعرّضون في كثير من الأحيان لانتهاك حقوقهم المهنية والمادية من قبل صحافيين غربيين لا يتعاملون معهم بأي نديّة وشراكة. وفي هذا السياق، نشرت الصحافية السورية ميس قات، مجموعةً من المواقف التي ترى أنّ على الصحافيين المحليين تجنّبها في أثناء التعامل مع الصحافة الأجنبية، ومنها "الوقوع في فخ العمل نيابةً عن الصحافي الأجنبي دون تعويض مادي أو معنوي ملائم، والاكتفاء بصيغ الاتفاق الشفهية وغير الرسمية، والقبول بمبالغ مادية بخسة على اعتبار أن العمل مع الصحافية الأجنبية فرصة لن تتكرّر".
"نحتاج إلى قوانين صارمة"
مع كل هذه الانتهاكات وغيرها، يشدد بسام سفر، وهو صحافي وكاتب ومدير مكتب رابطة الصحافيين السوريين في دمشق، على أهمية وضع تشريعات تغطي جوانب عمل الصحافيين كافة على اختلاف جنسياتهم، داخل سوريا.
ويقول لرصيف22: "حتى اللحظة، في سوريا التي عانت لأكثر من 50 عاماً من الدكتاتورية، لم تستطع وزارة الإعلام إنتاج قوانين تراعي حقوق الصحافي وحقوق الإنسان في بلدنا، وتحمي الناس من تسلّط الإعلاميين، فالبعض مثلاً يقبل الظهور في تقارير إعلامية تنتهك أبسط القواعد المهنية تحت وطأة الإغراء المادي والحاجة، لذلك المطلوب اليوم أن تعمل وزارة الإعلام والمؤسسات الصحافية والهياكل التجميعية للصحافيين السوريين على اختلافها، على وضع قوانين تساعد الصحافيين المحليين والأجانب، وتضمن وتحفظ إنسانية السوريين وهم يقدمون أي معلومات لوسائل الإعلام، وتحدّ من سيطرة المال وإمكانية قبول الناس للحديث عن قضايا تحمل انتهاكات على المستوى الفردي والصحافي والمؤسساتي".
"ما يحصل اليوم في هذا الملف وحشي للغاية. الإعلام يستميت ليعثر على أكثر سجين تعذّب كي يحكي قصته أمام الكاميرا، ولو كان سجيناً ‘عادياً’ فلا أهمية للأمر. وقد سمعنا أخباراً عن نية العمل على مسلسل يحكي قصة سجن صيدنايا خلال الفترة المقبلة. ألا يمكن أن يحرّض ذلك على المزيد من العنف حالياً؟"
إلى جانب ذلك، ينبّه سفر، إلى غياب المكاتب الصحافية والمؤسسات التي يمكن أن تساعد الصحافيين الوافدين في تغطياتهم الإعلامية، وعدم وجود دليل للكثير من آليات العمل الإعلامي داخل سوريا أو كيفية الحصول على معلومات موثقة بالطريقة الصحيحة.
ويضيف: "الأمر يحتاج إلى عمل جدّي من قبل وزارة الإعلام والاتحادات والروابط والنقابات ذات الصلة، لتقديم خدمات تليق بالصحافيين والمؤسسات وبالسوريين عموماً، بطريقة مهنية وأخلاقية. نحن كصحافيين قد تكون قدرتنا على مواجهة هذه الانتهاكات بشكل فردي ضعيفةً، وقد يصعب ضبط علاقة الصحافيين الأجانب بكل الأشخاص الذين يلتقون معهم في الطريق والمقهى ومختلف الأماكن. لكن كمؤسسات مهنية ونقابية، المطلوب وضع قوانين توضح آليات العمل والتغطية الصحافية، والخدمات التي تقدّمها كل جهة، وأن يكون كل ذلك مضبوطاً ضمن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية والمحلية المرعية، وليس خاضعاً لأهواء ومزاجية الصحافيين أنفسهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 11 ساعةوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ يومالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ يوماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!