"خطوة تاريخية لإسرائيل تحت رعاية سقوط نظام الأسد: لأول مرة منذ أكثر من خمسة عقود، تُهاجم إسرائيل قواعد جوية للعدو. نحو 300 هجوم في أقل من يومين"، هذا ما أكدته صحيفة "يديعوت أحرونوت" صباح اليوم، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024، متحدثة عن ليلة صاخبة هاجمت فيها إسرائيل أهدافاً متفرقة، منها مدينة الرقة وريف دمشق، مغيرة على مراكز أبحاث علمية في حلب وفي ريف العاصمة.
ووفق التقديرات الإسرائيلية "ليس من المستحيل أن يتم تدمير سلاح الجو السوري كاملاً، في غضون أيام".
ومع توافر الغطاء الأمريكي، وتجاهل المجتمع الدولي، وانشغال "سوريا الجديدة" بمآلات المرحلة الانتقالية، ربما يستحيل انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في المنطقة العازلة بهضبة الجولان إلى احتلال شريط سوري إلى الأبد، يمتد بطول 80 كيلومتراً من منطقة جبل الشيخ شمالاً، إلى ما يوصف بالمثلث الحدودي السوري الأردني الإسرائيلي جنوباً، وبعرض يتعرَّج بين نصف كيلو متر و 10 كيلومترات.
بقرارها الأحادي، انتهكت حكومة بنيامين نتنياهو اتفاق المنطقة العازلة، الذي بادرت إليه الولايات المتحدة، وأفضى إلى فض الاشتباك بين الجيشين السوري والإسرائيلي بعد حرب "يوم الغفران" عام 1973. بموجب الاتفاق الذي جرى توقيعه في 31 أيار/ مايو 1974، نشر مجلس الأمن الدولي طبقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 350 قوات متعددة الجنسيات في المنطقة العازلة، لتصبح القوة العسكرية الوحيدة المسموح ببقائها في المنطقة، والضامن الوحيد لالتزام الطرفين الاتفاق.
في المقابل، احتلت وحدة كوماندوز إسرائيلية منطقة جبل الشيخ من الجهة السورية في إطار عملية عسكرية اعتبرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" "بداية لإحكام قبضة إسرائيل على المنطقة، خاصة قمة الجبل".
دبابات إسرائيل على مقربة من العاصمة
لكن لم يتوقف التوغل عند جبل الشيخ والمنطقة العازلة، بل سيطر الجيش الإسرائيلي على تسع قرى مجاورة للمنطقة العازلة، ثم تقدمت دباباته نحو ريف دمشق واتخذت مواقع هناك. فيما تبعد نحو 20 كيلومتراً عن العاصمة السورية، و3 كيلومترات عن مدينة قطنا.
بعد خرق الاتفاق باحتلال المنطقة العازلة وجبل الشيخ، حاولت إسرائيل بممارستها تصدير فكرة التحسُّب من انفراط عقد الانضباط الأمني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبرَّرت بالفرضية ذاتها حتمية "التمدُّد الدفاعي العسكري المؤقت" في الجنوب السوري.
بعد خرق الاتفاق باحتلال المنطقة العازلة وجبل الشيخ، حاولت إسرائيل بممارستها تصدير فكرة التحسُّب من انفراط عقد الانضباط الأمني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبرَّرت بالفرضية ذاتها حتمية "التمدُّد الدفاعي العسكري المؤقت
لكن محدودية الانتشار التي سوَّق لها الجيش الإسرائيلي، لاقت تشكيكاً لدى مراقبين في تل أبيب، لا سيما الكاتبة ليلخا شوفال التي أشارت في صحيفة "يسرائيل هايوم" إلى أن "الجيش الإسرائيلي لا يزال يتحدث عن خطوة دفاعية ومؤقتة في الجنوب السوري (المنطقة العازلة)، لكن الخطوة المؤقتة يمكن أن تكون طويلة وتستمر لأشهر أو حتى سنوات، خاصة وأن إسرائيل حتى الآن، لم تضطر إلى مواجهة ضغوط سياسية من الدول الغربية نتيجة حراكها العسكري في سوريا".
فضلاً عن حديث الإعلام الإسرائيلي عن أن "لدى إسرائيل قراراً استراتيجياً بتدمير جميع القدرات العسكرية المتقدمة والاستراتيجية المتبقية في سوريا. وسيتعين على الحكومة السورية الجديدة أن تبدأ من الصفر ببنادق إم 16 وكلاشينكوف، لبناء قدراتها العسكرية كدولة جديدة"، بحسب إذاعة الجيش الإسرائيلي.
عند التعبير عن اجتياح إسرائيل للمنطقة العازلة حتى جبل الشيخ، استخدمت شوفال لفظة "احتلال"، وكتبت نصاً: "بعد 24 ساعة من احتلال الجيش الإسرائيلي المنطقة العازلة بين إسرائيل وسوريا بأوامر المجلس الوزاري المصغَّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، تموضعت قواته الخاصة في عدة قواعد عسكرية بطول وعرض المنطقة".
وأضافت: "لا تواجه إسرائيل حتى كتابة هذه السطور ضغوطاً سياسية من الدول الغربية على خلفية أنشطتها العسكرية (المفتوحة) في سوريا، بما في ذلك الهجمات والتقدم والاستيلاء على مناطق قريبة من الحدود، فضلاً عن دعم الولايات المتحدة وغطائها غير المحدود للنشاط الإسرائيلي".
طريق بلا أخ أو شبيه أو صاحب... أو حتى إله
وجاء تجاوز المنطقة العازلة والتوغل نحو نقاط استراتيجية في العمق السوري، بأوامر مباشرة من وزير الدفاع يسرائيل كاتس. وفي إطار توجيهات وصفتها صحيفة "معاريف" بـ"التطور الجديد"، عمل الجيش الإسرائيلي على توسيع المنطقة الأمنية العازلة، وانفتح على احتلال مناطق جديدة بعد تنسيق مع السكان الدروز المحليين.
عساها علامات دهشة جموح الغزو الإسرائيلي لم تقف عند ليلخا شوفال وغيرها من المراقبين داخل إسرائيل وخارجها، إذ لم يحرِّك الواقع المأزوم ساكناً لدى الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن وقراره 350، وهو ما فرض علامات استفهام كبيرة، وفتح احتلال المنطقة العازلة على أبعاد وسيناريوهات، قد يشي كشفها بما هو أعمق من مجرد احتلال شريط جغرافي سوري.
لا تنعزل المنطقة العازلة التي احتلتها إسرائيل في سوريا عن قصة "طريق فريد ومميز، ليس له أخ، أو شبيه، أو صاحب، أو حتى إله"، بحسب التعبير الإسرائيلي؛ وهو "طريق النفط" القديم، الذي يمر من المنطقة العازلة، قاطعاً هضبة الجولان من الشرق إلى الغرب والعكس بطول 45 كيلومتراً. طريق يُطلق عليه "طريق خاص"، لكن مالكه مجهول بالفعل، ولم تُقدم أي جهة على إعادة تأهيله.
لدى إسرائيل قرار استراتيجي بتدمير جميع القدرات العسكرية المتقدمة والاستراتيجية المتبقية في سوريا. وسيتعين على الحكومة السورية الجديدة أن تبدأ من الصفر ببنادق إم 16 وكلاشينكوف
منذ عام 1947، خدم الطريق خط أنابيب نفط بطول 1.214 كيلومتراً. حينها كان المشروع أكبر منظومة لأنابيب النفط في العالم بقطر 30 بوصة (760 مليمتراً). أما إنتاجه السنوي فبلغ 23 مليون طن برميلاً من النفط الخام. وبحسب معطيات عبرية، أدى خط الأنابيب إلى خفض عدد الناقلات المطلوبة لنقل النفط من شبه الجزيرة العربية عن طريق قناة السويس إلى البحر المتوسط، موفراً بذلك رحلة مدتها 20 يوماً و7 آلاف ميل لتحقيق الغرض نفسه.
دشَّنت خط الانابيب حينئذ 4 شركات نفط أمريكية، اتَّحدت جميعها تحت اسم مختصر هو Tap Line -Arabian Pipeline Company. بدأ الخط من قرية قاسيون في المملكة العربية السعودية، حيث تجمَّعت عدة أنابيب نفط من مختلف أنحاء المملكة، ومن هناك امتدّ الخط في طرق صحراوية وصولاً إلى الأردن، ثم سوريا، ومنها في نهاية المطاف لميناء صيدا في لبنان. لذلك أطلقوا على المشروع "خط الأنابيب العابر للعرب".
كان مقرراً من الأصل انتهاء مسار الخط في ميناء حيفا، إلا أنه نظراً للمشاحنات بين العرب واليهود قبل إعلان قيام إسرائيل رسمياً، تقررت نهايته في ميناء صيدا اللبناني. وبلغت تكلفة الخط في حينه 200 مليون دولار، وعمل في تدشينه 16 ألف عامل، بحسب فيلم تسجيلي عن المشروع.
وربما من المبكر أن تُفسر إدانة السعودية للتحركات الإسرائيلية في الأراضي السورية، على أنها موقف ضمني تجاه محاولة الوصول إلى "طريق النفط". لكن الإدانة جاءت حادة في بيان الخارجية السعودية، التي أكدت على أن "الاعتداءات التي قامت بها حكومة الاحتلال الإسرائيلي عبر الاستيلاء على المنطقة العازلة في هضبة الجولان، واستهداف الأراضي السورية، يؤكدان استمرار إسرائيل في انتهاك القانون الدولي وعزمها تخريب فرص استهادة سوريا لأمنها واستقرارها ووحدة أراضيها".
تبادل أراضٍ بين سوريا والأردن والسعودية
ربما لم يعد خافياً سر الغطاء الأمريكي الممنوح لإسرائيل عند احتلالها المنطقة السورية العازلة، ولا يحتاج المراقبون إلى دواعٍ لتفسير صمت معسكر الغرب إزاء خروقات إسرائيل في الجنوب السوري، وقد لا ينطلي على أحد ادعاء تل أبيب تمددها العسكري "المؤقت" في الجنوب السوري.
ويبدو ارتباط الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أكثر من غيره بتسهيل مهمَّة إحياء خط أنابيب النفط القديم، ونقل بنيته التحتية إلى إسرائيل بعد انتزاعها من سوريا بفعل قراره الأحادي فرض سيادة إسرائيل على هضبة الجولان في 25 آذار/ مارس 2019؛ وبالأحادية نفسها احتلت إسرائيل أيضاً المنطقة العازلة بما في ذلك جبل الشيخ قبل أيام.
إلا أن رؤساء حكومات إسرائيل المتعاقبة لم يعتزموا تنازلاً عن احتلال الجولان وما وراءها في العمق السوري حتى في إطار مشاريع تسوية سابقة لم تكتمل.
ربما من المبكر أن تُفسر إدانة السعودية للتحركات الإسرائيلية في الأراضي السورية، على أنها موقف ضمني تجاه محاولة الوصول إلى "طريق النفط". لكن الإدانة جاءت حادة في بيان الخارجية السعودية
على مدار ما يزيد عن 20 عاماً، انخرطت جميع حكومات تل أبيب تقريباً في مفاوضات سريَّة مع دمشق، كان هدفها المعلن التوصل إلى اتفاق سلام يتضمن تسوية إقليمية. الجولة الأخيرة والأقل شهرة، التي قادتها حكومة نتنياهو، توقفت في آذار مارس/ آذار 2011، مع اندلاع الحرب في سوريا. ووفقاً لما نقلته صحيفة "هآرتس" عن مسؤولين إسرائيليين، فقد بدأت الجولة الأخيرة بين بشار الأسد وبنيامين نتنياهو بوساطة أمريكية في أيلول/ سبتمبر 2010، وفيما كان وزير الدفاع حينها إيهود باراك شريكاً في السر، أيدت المفاوضات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان).
وفي لقاء مع الصحيفة العبرية، كشف مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق عوزي أراد أن "إسرائيل اقترحت خلال المفاوضات صفقة لتبادل أراضي بين سوريا والأردن والسعودية مقابل احتفاظ إسرائيل بجزء من الجولان". كان مقرراً وفقاً للطرح الإسرائيلي نقل أراضي أردنية إلى سوريا بنفس قدر الأراضي المقرر حصول إسرائيل عليها في الجولان، وفي المقابل تمنح السعودية المملكة الهاشمية قطاعاً ساحلياً جنوب العقبة، وتستعيض السعودية عنه بمساحة مضاهية لدى الأردن. وفي حين وافقت الأردن على المقترح، ضرب به السوريون عرض الحائط.
التجسس على غرفة نوم الأسد من جبل الشيخ
نظراً لخروج قرارات إسرائيل من رحم حكومة يهيمن عليها تيار "الصهيونية الدينية" اليميني المتطرف، انطوى احتلال جبل الشيخ تحديداً على أبعاد عقائدية، إذ تشير كتب التراث اليهودية، خاصة سفر "التثنية" التوراتي، إلى أن جبل الشيخ أو "حرمون"- وفقاً للتسمية العبرية- ورد في وصف الأرض التي احتلها النبي موسى وبنو إسرائيل خلال حكم "سيحون" ملك الأموريين و"عوغ" ملك باشان، بحسب الموسوعة العبرية.
إضافة إلى ذلك، تولي إسرائيل أهمية استراتيجية كبيرة لقمة جبل الشيخ، وحاولت غير مرة التفاوض مع حكومة الأسد للاحتفاظ بموطئ قدم عليه. تؤكد الكاتبة الإسرائيلية نوعا لانداو جانباً من المحاولات الإسرائيلية، التي أدارها نتنياهو عام 1998 عبر صديقه المقرب رجل الأعمال الإسرائيلي رون لاودر. وفي تقريرها بصحيفة "هآرتس"، أشارت الكاتبة إلى طلب إسرائيل في إحدى جولات التفاوض مع دمشق احتفاظاً بوجودها على قمة الجبل، فقال السوريون: "تقصدون بطلبكم تدشين وكر للجواسيس على الجبل؟!". رد لاودر على الأسد بقوله: "لماذا يزعجك متابعة ما تفعل في غرفة نومك؟ هذا لا يزعجني بشكل شخصي". المفاجأة هي رضوخ السوريين للطلب، لكنهم في المقابل "وضعوا حلاً إبداعياً، واقترحوا من خلاله تحويل جبل الشيخ إلى منطقة دولية"، تقول الكاتبة الإسرائيلية.
وفي كتاب تحت عنوان: "معاركي إلى جانب الأكراد في العراق... وقصص أخرى"، رأى العميد الإسرائيلي المتقاعد تسوري ساجي أن "تراخي وغرور قادة الجيش الإسرائيلي والتفريط في تأهيل قاعدة إسرائيل العسكرية أعلى جبل الشيخ كان سبباً مباشراً في انهيار إسرائيل أمام 5 ألوية سورية تأهبت لفتح نيرانها عشية حرب يوم الغفران عام 1973". وأضاف ساجي الذي كان يخدم حينها في هضبة الجولان: "حذرت من تأهب السوريين لاحتلال جبل الشيخ، لا سيما وأن الجيش الإسرائيلي كان منشغلاً بإعادة بناء قاعدته العسكرية أعلى الجبل. جاءت ساعة الصفر، وبقية الرواية معروفة للقاصي والداني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 46 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...