لم يهنأ العثمانيون خلال حكمهم (1299-1923م) كثيراً بالسيطرة على بلاد الشام، حيث واجهوا تمردات عنيفةً قامت بها عشائر حلب لأسباب اقتصادية واجتماعية، وأخرى تعود إلى عدم فهم السلطة العثمانية لطبيعة الوضع العشائري العربي، وذلك كله ترك تأثيراتٍ سلبيةً على مجريات الأمور في تلك الفترة.
كانت سوريا، وهي الإقليم الشمالي لبلاد الشام، أول قطر عربي دخله الأتراك العثمانيون ضمن حركة التوسع الكبير في العالم العربي، والتي بدأها السلطان سليم الأول. يروي الدكتور أحمد إيبش، في كتابه "تاريخ الشام في مطلع العهد العثماني"، أن الجيشين العثماني والمملوكي اصطدما في معركة مرج دابق في 23 آب/أغسطس 1516، بالقرب من حلب، فهُزم المماليك شرّ هزيمة، وقُتل السلطان المملوكي قانصوه الغوري.
ثم اتجه السلطان سليم الأول، نحو حلب، فدخلها برضا أهلها الذين قاسوا من جور المماليك، وخُطب للسلطان في جوامع حلب ولُقّب بخادم الحرمين الشريفين، وعيّن على حلب قرجة أحمد باشا. ثم سار العثمانيون باتجاه الجنوب دون أي عناء، فاحتلوا حماة وحمص، وقدّم زعماء دمشق الخضوع، وكان على رأسهم قضاة المذاهب الأربعة ونقيب الأشراف ونائب القلعة المملوكي، بحسب إيبش.
صبّ الزيت على النار
ويبدو أن حلب كانت بمثابة صداع في رأس السلطة العثمانية بسبب التمردات التي دأبت عليها العشائر العربية، خاصةً عشيرة أبو ريشة، وربما كان ذلك سبباً رئيساً في تحويل حلب من لواء تابع لإيالة الشام إلى إيالة مستقلة تحمل اسمها عام 1549، وتعيين عثمان بك بكلربكي (القائم على الإيالة)، عليها بغية التفرغ للحد من الاضطرابات التي يقوم بها البدو في المنطقة، حسب ما يذكر الدكتور فاضل بيات، في كتابه "الدولة العثمانية في المجال العربي".
لم يهنأ العثمانيون كثيراً بالسيطرة على بلاد الشام، حيث واجهوا تمردات عنيفةً قامت بها عشائر حلب لأسباب اقتصادية واجتماعية، وأخرى تعود إلى عدم فهم السلطة العثمانية لطبيعة الوضع العشائري العربي، وذلك كله ترك تأثيرات سلبيةً على مجريات الأمور في تلك الفترة
وبحسب بيات، ذكر الوزير الأعظم قوجه سنان باشا، في مذكرة له إلى السلطان العثماني، أن "أبو ريشة عشيرة عجيبة لا حد ولا حصر لمقاتليها. وكانوا يأتون إلى حلب مرةً واحدةً كل سنة للتسوق بالمؤن الغذائية، ثم يقفلون راجعين إلى البرية".
وفي عام 1549، أقام السلطان سليمان القانوني في حلب في فصل الشتاء، وكانت هذه العشيرة قد حلّت في أرجاء حلب، إلا أنها اعتدت على الرعايا في المنطقة، لذلك أرسل السلطان قوةً عسكريةً إليهم، برغم علمه بكثرة عددهم، ثم استقدم أميرهم مع خمسة وعشرين من أتباعه، بعد أن خدعهم بمنحهم إدارة سناجق (وحدة إدارية تلي الإيالة)، وعندما جاءوا إلى حلب أمر بقطع رؤوسهم.
ولم يبقَ من أتباع أبو ريشة، سوى واحد كان في الخارج يحافظ على فرسهم، وعندما علم بالأمر لاذ بالفرار، وأخبر عشيرته بما جرى. وكان لأميرهم ابنٌ صغير بايعوه فتولى قيادتهم، وسار بالقافلة إلى حيث أتوا، إلا أن بكلربكي حلب، جركس عثمان باشا، تتبّع آثارهم، وأوقع بهم في المعركة التي دارت بينهم، وتغلب عليهم، كما يروي بيات.
غير أن ما قام به السلطان سليمان والبكلربكي كان بمثابة صبّ الزيت على النار، فقد ثارت ثائرة عشيرة أبو ريشة وهاجمت القرى الواقعة في أرجاء حلب وقتلت رعاياها، كما قتلت أصحاب الإقطاعات من الأراضي وأصحاب الزعامات ممن وقع في أيديها، وقطعت طريق الحجاج، فأحدثت بذلك اضطرابات كبيرةً في المنطقة.
ويبدو أن الدولة العثمانية شعرت بخطئها وأدركت أن القوة لا تجدي نفعاً مع هذه العشيرة، واضطرت إلى مجاراتها وكسب ودها، فمنحت ابن أمير العشيرة سنجقاً، وبعد جهد جهيد تمكنت من إدخاله وعشيرته في دائرة الطاعة.
عودة "أبو ريشة" إلى التمرد
عشيرة أبو ريشة عادت إلى التمرد مرةً أخرى عام 1551، وهجمت على العديد من الأوقاف والخواص السلطانية، وقتلت عدداً من أصحاب الإقطاعات والزعامات، ونهبت أموال سكان القرى، حسب ما يذكر عماد كريم عباس وأسماء إسماعيل الراوي، في دراستهما "سياسة الدولة العثمانية تجاه التمردات العشائرية في إيالة حلب 1549-1595م".
من القرى الخربة انطلقت هجمات العشائر، ومنها قرية "صلدع" إحدى قرى الخواص السلطانية في ناحية جبل سمعان من لواحق حلب، حيث هاجمت العشائر خان طومان قرب طريق الحج عام 1564.
وإزاء هذا الوضع، سيّرت الدولة العثمانية حملةً عسكريةً تمكنت من إخماد تمرّد هذه العشيرة وقتل عدد من المتمردين، فعاد الأمن والاستقرار إلى النواحي والقرى المحيطة بحلب، فيما شرعت السلطات في ملاحقة شيخ عشيرة أبو ريشة وأتباعه وأجبرتهم على الهروب إلى منطقة صحراوية تقع ضمن الحدود الإدارية لإيالة بغداد تُدعى "مأر الثور".
ولجأ أبو ريشة إلى أحد زعماء البدو عثمان بن محمد زيادة، وأخذ يحثّه على مساعدته من أجل القيام بهجمات على نواحي وقرى حلب بهدف الانتقام لمقتل والده من قبل السلطان سليمان القانوني عام 1549، ما دفع الدولة العثمانية إلى محاولة كسب عثمان إلى جانبها طالبةً منه تسليم أبو ريشة لها، أو قتله وإرسال رأسه إلى والي بغداد علي باشا، لكن دون جدوى.
على كل حالٍ، ساد الأمن والاستقرار إيالة حلب إثر قمع تمردات عشائر أبو ريشة، وزُرعت الأراضي التي لم تُزرع من قبل نتيجة هجمات القبائل العربية البدوية، ما حقق إنتاجيةً عاليةً ترتبت عليها رُخص المواد الغذائية، حتى أن منتوج الخواص السلطانية في تلك الإيالة من الحبوب لم يجد من يشتريه.
حدود الأراضي الزراعية تثير تمرد العشائر
بيد أن نيران التمرد تجددت عام 1559، وامتدت هذه المرة إلى عشائر أخرى، وذلك بسبب عدم توخي الدقة من قبل الموظفين في وضع حدود بين المزارع التي منحتها الدولة العثمانية لبعض جنودها وفرسانها ومزارع العشائر العربية. وبحسب الباحثين، تسبب ذلك في تمردات عنيفة نتيجة تداخل حدود المزارع مع بعضها، ومن ثم هاجمت العشائر مزارع الجنود والفرسان ونهبت أموالهم، وقتلت عدداً من العاملين فيها.
وفي العام نفسه، أجرت عشيرة "أبو ريشة" تحالفات للتمرد ضد الدولة العثمانية، منها مع عشيرة "بردية" التي تسكن في نواحي حلب، وهاجمت عشيرة يحيى التي كانت مواليةً للعثمانيين، ونهبت أموالها وممتلكاتها.
وفي عام 1560، امتنع ملتزمو قرية جبول عن أداء ما عليهم من مبالغ مستحقة للدولة العثمانية، واستندوا إلى عشيرتهم "بعوة" في مواجهة القوات العثمانية، ما حال دون إلقاء القبض عليهم، وبذلك تحولت هذه العشيرة إلى التمرد ورفضت دفع ما عليها من الضرائب، بحسب عباس والراوي.
ومن العشائر التي ناصرت "أبو ريشة" ضد الدولة العثمانية، عشيرة آل فضل، التي هاجمت قرى يسكنها أبناء عشيرة آل موسى الموالية للدولة العثمانية، ما دفع الشيخ برقوق بن ثابت، زعيم آل موسى، إلى كتابة عريضة إلى السلطان العثماني سليمان القانوني، بيّن فيها أن "آل فضل" تناصر "أبو ريشة" وتبلغها بكل التحركات التي تقوم بها القوات العثمانية في إيالة حلب، مؤكداً استعداد عشيرته لمساندة العثمانيين لقمع تمرد أبو ريشة.
الانطلاق من القرى والبساتين الخربة
ومن القرى الخربة انطلقت هجمات العشائر، ومنها قرية "صلدع" إحدى قرى الخواص السلطانية في ناحية جبل سمعان من لواحق حلب، حيث هاجمت العشائر خان طومان قرب طريق الحج عام 1564، وقتلت عدداً من الأشخاص بعد أن نهبت أموالهم وممتلكاتهم، ما دفع الدولة العثمانية إلى إحياء تلك القرية بأن منحت أحد حنودها أراضي شاسعةً مقابل تعهده بإعمار تلك القرية عن طريق جلب الفلاحين إليها من مناطق أخرى لزراعتها، يروي الباحثان.
وبالقرب من محلة "بحسيتا" في حلب، كان هناك بستان اتخذته بعض العشائر العربية البدوية لشنّ هجماتها على سكان حلب عام 1568 بهدف السلب والنهب، ما دفع الدولة العثمانية إلى تقسيم ذلك البستان على شكل قطع أراض سكنية بنت عليها بيوتاً ووزعتها على الفقراء لتفويت الفرصة على المتمردين بمهاجمة حلب.
أياً كان الأمر، فإن الاضطرابات التي أحدثتها "أبو ريشة" برهنت للدولة العثمانية أنها ارتكبت خطاً كبيراً عندما اتّبعت أسلوب القوة تجاهها، خاصةً أنها عشيرة كبيرة تسكن على امتداد المنطقة من سنجق عانة غرب العراق حتى أعالي نهر الفرات، ومن ثم لجأ العثمانيون إلى محاولة كسب ولائها عن طريق منح ابن شيخ العشيرة إدارة أحد سناجق إيالة حلب مقابل خضوعها وإعلان ولائها للدولة العثمانية.
كانت حلب بمثابة صداع في رأس السلطة العثمانية بسبب التمردات التي دأبت عليها العشائر العربية، خاصةً عشيرة أبو ريشة، وربما كان ذلك سبباً رئيساً في تحويل حلب من لواء تابع لإيالة الشام إلى إيالة مستقلة
غير أنّ العشيرة سرعان ما عادت إلى التمرد عام 1565، مستغلةً انشغال والي حلب في مساعدة والي الشام في القضاء على تمرد الدروز في بيروت، فهجمت على العديد من القرى التي يسكنها أبناء عشيرة "غزية" الموالية للدولة العثمانية وقتلت عدداً منهم، ونهبت أموالهم وعشرة آلاف جمل من جمالهم، يروي الباحثان.
مجاعات وهجرة سكان القرى
وبالتوزاي مع "أبو ريشة"، حدثت تمردات أخرى قامت بها العشائر العربية في أطراف حلب، إذ أعلنت عشيرتا العشارنة وبني زياد، تمردَهما ضد الدولة العثمانية عام 1565، وهاجمتا القرى التابعة للخواص السلطانية، ونهبتا الكثير من ممتلكات وأموال المسافرين الذين مرّوا بتلك المناطق، فضلاً عن رفضهما دفع ضرائب فرضتها الدولة العثمانية على المواشي، ما دفع والي حلب إلى مساندة أمير سنجق حماة في قيادة حملة عسكرية، وتمكّن من تشتيت المتمردين وقتل عدد منهم، فيما فرّ الباقون إلى الصحاري.
كما تمردت بعض العشائر في نواحي حلب ومنعت أمين السنجق عام 1570 من جباية المال الميري الذي يُفرض على الإقطاعات الكبيرة، وذلك بتحريض من زعمائهم الذين مُنحت لهم تلك الإقطاعات بطريقة الالتزام، ما دفع الدولة العثمانية إلى منح هذه الإقطاعات التي بأيدي زعماء تلك العشائر إلى غيرهم ممن تعهد بحفظ المال الميري بعد أن أخضعت تلك العشائر لسلطتها.
ويذكر الباحثان، أن تمردات العشائر أثّرت سلباً على ميزانية الدولة العثمانية، ذلك أن العديد من تلك العشائر كانت تسكن على طريق قوافل الحج والتجارة، ما كلّف الخزينة أموالاً كبيرةً كانت تُدفع إما لبعض الشيوخ البدو لكسب ولاءاتهم وضمان عدم اعتدائهم على تلك القوافل، وإما للجنود الذين يعملون على حماية قوافل الحُجاج، لذا لجأت الدولة إلى إحداث تغييرات في النظام الإداري بين الحين والآخر من أجل فرض مركزيتها وتوفير الأمن والاستقرار.
وترتب على التمردات أيضاً انتشار المجاعات بسبب ندرة المواد الغذائية، نتيجة خراب العديد من القرى التي تركها سكانها دون زراعة بعد أن هجروها إلى مناطق أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه