قبل سنوات، كانت ريان تعتقد بأنها تمتلك حياةً عادية كأي شخص آخر، حتى جاءت اللحظة التي تغيّر فيها كل شيء، عندما اكتشفت الحقيقة القاسية عن حالتها الصحيّة. كانت تلك اللحظة الفاصلة، عندما أخبرها أحد أشهر الأطباء في بيروت، بأنها لا تستطيع أن تكون أمّاً، وأن حلمها بالحمل والإنجاب قد ضاع إلى الأبد.
هذا الخبر المروّع، لم يكن إلا نتيجة تشخيص طبي خطأ، ارتكبه الطبيب المعروف. وبعد 6 سنوات من العذاب، اكتشفت الشابة التي أصبحت الآن في الـ20 من عمرها، حقيقة مرضها. فكيف يمكن للثقة بالطبّ أن تتحوّل إلى خيبة أمل مريرة؟ وكيف أن هذا التشخيص غير الدقيق قد حرمها من الحق في أن تعيش تجربة الأمومة؟ هذا السؤال كان يطاردها باستمرار. لم يكن هذا مجرّد خطأ في تشخيصٍ، بل كان سرقةً لحلمٍ كان من المفترض أن يكون حقاً طبيعياً لها، حلم ضاع بسبب قلة الوعي أو الإهمال.
عواقب قرار طبي غير مدروس
عندما كانت في الـ14 من عمرها، عانت ريان من مشكلات صحيّة عدّة، وكانت البداية مع عدم انتظام الدورة الشهرية، بالإضافة إلى تساقط الشعر بشكلٍ ملحوظ، فقررت زيارة الطبيب المختص الذي اكتشف وجود أكياس متضخّمة على مبايضها.
وبعد مزيدٍ من الفحوصات، أشار التشخيص الطبي إلى أن حالتها قد تمنعها من الإنجاب، وأن الأمل في الحمل أصبح بعيد المنال.
"رحلتي كانت صعبةً جداً. لم يكن الأمر مجرّد معاناة صحية، بل كان عقاباً نفسيّاً يلاحقني كل يوم. 6 سنوات مضت وأنا أعيش في دوامة من الألم الجسدي والنفسي، وأصبحت أخشى حتى فكرة الارتباط أو التعارف"
كان ذلك وفق ما تقول لرصيف22، بمثابة صدمةٍ نفسيةٍ كبيرة لها، خاصةً أنها لطالما حلمت بأن تصبح أمّاً: "اعتمدت على العلاج الذي وصفه الطبيب الذي كان معروفاً بسمعته الواسعة في هذا المجال، لكن مع مرور الوقت، لم أجد تحسّناً فقررت الاستعانة بطبيبٍ آخر".
زارت أطباء آخرين، وجميعهم اعتمدوا على التشخيص نفسه الذي قدّمه الطبيب الأول. كان اسم الطبيب الأول يسبق سمعته في المجال الطبي، وكان الجميع يثق بحكمته، لذا لم يترددوا في التأكيد على التشخيص نفسه والعلاج الموصوف عينه: "رحلتي كانت صعبةً جداً. لم يكن الأمر مجرّد معاناة صحية، بل كان عقاباً نفسيّاً يلاحقني كل يوم. 6 سنوات مضت وأنا أعيش في دوامة من الألم الجسدي والنفسي، وأصبحت أخشى حتى فكرة الارتباط أو التعارف، لأنني كنت أعلم أنني لن أتمكن من تقديم أي شيء في المستقبل".
كان الخوف يملأ قلب ريان "المغرومة" بحبّ الأطفال، من أن يعرف أحدهم بحالتها وفق تعبيرها: "كنت أبتعد عن الحديث عن مشكلتي بأي شكل كان. كنت أخشى أن تزداد الشفقة عليّ بدلاً من أن أتلقى الدعم".
زارت ريان طبيباً آخر برغم اليأس، لأنها كانت تودّ أن تسمع شيئاً مختلفاً، لكنها لم تكن تتوقع أن تحمل هذه الزيارة بين طياتها مفاجأةً تغيّر مسار حياتها. بعد إجراء فحص جديد، اكتشف الطبيب أنها في وضعٍ يسمح لها بإنجاب الأطفال، ولكن عن طريق التلقيح الصناعي. كانت المفاجأة كبيرةً؛ لم يكن هناك عائق جسدي حقيقي أمام حلمها في الأمومة، بل كان الأمر يتطلب فقط الوسيلة الطبية المناسبة لتحقيقه.
حين "تُحرم" المرأة من حقها في الاختيار
بدورها، كانت ماري تعاني من متلازمة تكيّس المبايض، لكن لم تكن تتوقّع أبداً أن تعكّر هذه الظاهرة المرضية التي تصيب أغلب النساء، صفو حياتها.
فبعد إنجابها طفلتها الثانية، بدأت تعاني من آلامٍ متكرّرة في منطقة البطن، وبرغم أنها كانت تحاول تجاهل الأعراض، إلا أن الألم أصبح غير محتمل، وبعد الفحوصات اللازمة، اكتشف الطبيب وجود أكياس على مبيضها، وأكدّ لها أن العلاج الوحيد هو إزالة الكيس لتجنب المضاعفات المستقبلية.
ونظراً إلى كونها كانت تثق برأي الطبيب المعروف، وافقت على الإجراء الجراحي دون تردّد، معتقدةً أنه الحلّ الأفضل لمشكلتها. وبعدها، بدأت ماري تشعر بتحسنٍ ملموس من الناحية الجسدية، لكن شيئاً ما ظلّ يطاردها، وفق ما تقول لرصيف22: "كانت أشعر بشيء من القلق، حاولت تجاهله مراراً حتى بدأت أواجه مشكلات أخرى عندما حاولت إنجاب طفلي الثالث".
في زيارتها لطبيبٍ جديد، وبعد إجراء فحص دقيق وفحوصات إضافية، اكتشف أنها بمبيضٍ واحد، وقد أزيل أحدهما في العملية الجراحية السابقة، وحتى لم يكن المبيض نفسه متضرّراً بشكلٍ خطيرٍ، بل كانت هناك بدائل أخرى للعلاج يمكن أن تحافظ على خصوبتها.
كانت الصدمة كبيرةً بالنسبة لها وفق قولها، خاصةً بعد أن اكتشفت أن بإمكانها أن تكون قد اختارت خياراً آخر، ربما لا يتطلب إزالة المبيض، أو على الأقل كانت هناك طرائق أخرى لمعالجة الأكياس دون التأثير على قدرتها الإنجابية.
عندما يضرّ العلاج أكثر مما ينفع
في بعض الأحيان، قد يكون العلاج المقترح هو المشكلة نفسها، ويؤدي إلى تفاقم الحالة بدلاً من تحسّنها، ما يترك الشخص في دوامةٍ من المعاناة الجسدية والنفسية، تماماً كما حصل مع زينب عوض، صاحبة الـ45 عاماً. فتلك المرأة أصيبت بالزكام عندما كانت في الـ13 من عمرها، فلجأت إلى الطبيب المختص الذي وصف لها دواء قويّاً بهدف علاج حالتها، من دون أن يناقش مع عائلتها الآثار الجانبية المحتملة أو تأثيراته على صحتها العامة.
شعرت زينب حينها بألمٍ شديد في منطقة الكلى. لم تفهم عائلتها في ذلك الوقت سبب هذا الألم.
تروي ابنتها فاطمة ما عاشته والدتها وقتها، لرصيف22: "حالتها فجأةً تفاقمت ما دفعها إلى استشارة طبيب آخر. وبعد إجراء بعض الفحوصات، اكتشف الطبيب الجديد أن الدواء القوي الذي وصِف لها في البداية وفق ما أخبرتني، كان غير مناسب تماماً لسنّها وحالتها الصحية، خصوصاً كليتها".
"المرأة بشكلٍ خاص، قد تكون أكثر عرضةً للتأثيرات السلبية لهذه الأخطاء، حيث أن صحتها الإنجابية وحياتها اليومية قد تتأثرّان بشكلٍ عميق، ما قد يحرمها من أبسط حقوقها"
وتضيف فاطمة: "هنا أدرك الأطباء أن الأضرار التي لحقت بكليْتها كانت جسيمةً إلى درجة أنه لم يكن هناك خيار سوى إزالة الكليتين بسبب التدهور الكامل لوظيفتهما. كان الخبر صادماً للعائلة، وبدأت مشاعر الحزن والقلق تسيطر على الجميع. لكن خالتي الكبرى لم تتحمل فكرة أن تفقد والدتي حياتها بسبب هذا الضرر الصحي، فقرّرت التبرّع لها بإحدى كليتيها".
وبعد عمليةٍ مؤلمة ولكن ضرورية، نجحت عملية زرع الكلية، وأصبحت زينب الآن تعيش بكلية واحدة. لكن الحياة بعد عملية الزرع لم تكن كما كانت قبل، إذ تشعر بالضعف المستمرّ، فقد أصبح عليها أن تتابع حالتها الصحية بشكلٍ دائم، وتخضع لفحوصات دورية للاطمئنان على كليتها الوحيدة. الحذر أصبح جزءاً من حياتها اليومية، فهي مضطرّة إلى تجنّب العديد من الأطعمة والمشروبات التي قد تضع ضغطاً على كليتها، حتى الأنشطة البدنية أصبحت محكومةً بالقيود، خوفاً من أن يؤدي أي إجهاد إلى مشكلات صحيّة إضافية.
كما أن جهاز المناعة لديها أصبح أقلّ قدرةً على مقاومة العدوى بسبب الأدوية التي تحتاج إلى تناولها طوال حياتها للحفاظ على الكلية المزروعة.
عندما يصبح الطبيب سبباً للألم
تؤكدّ الممرضة المجازة جنان سويدان، لرصيف22، أن الأخطاء الطبيّة والتشخيصات الخطأ، حتى وإن كانت صغيرةً في البداية، يمكن أن تتحوّل إلى مشكلات أكبر وأكثر تعقيداً إذا لم يتم التعامل معها بحذر: "لا تقتصر تأثيراتها على اللحظة التي تحدث فيها، بل تمتد آثارها لتغيير حياة المريض/ ة بالكامل، سواء من الناحية الجسدية أو النفسية".
وتضيف: "المرأة بشكلٍ خاص، قد تكون أكثر عرضةً للتأثيرات السلبية لهذه الأخطاء، حيث أن صحتها الإنجابية وحياتها اليومية قد تتأثرّان بشكلٍ عميق، ما قد يحرمها من أبسط حقوقها. هذه الأخطاء قد تؤدي إلى فقدان القدرة على الإنجاب، أو المعاناة من أمراضٍ مزمنة تلازمها طوال حياتها. لا تقتصر الآثار على الجسد فقط، بل تشمل التأثير النفسي العميق الذي قد يؤدي إلى فقدان الثقة بالنظام الطبي، وتحديداً في حال كانت الثقة قد تم استغلالها بشكل خطأ".
وتضيف: "في بعض الحالات، قد يصبح الألم النفسي والجسدي أكثر إيلاماً من المرض نفسه، حيث تصبح المرأة غير قادرة على العيش بشكلٍ طبيعي وتُحرم من حقها في الشفاء، في وقتٍ كان يمكن فيه إنقاذها إذا تم التشخيص بشكل صحيح".
ما حدث مع مروة (اسم مستعار)، إحدى الحالات التي أسعفتها الممرضة جنان، مثالٌ حيّ على ذلك. فبعد سنتين من المحاولات المتواصلة، حملت مروة، لكن الأمور لم تسِر كما توقعت. في الشهر الأول من حملها، بدأ بطنها بالانتفاخ بشكلٍ غير طبيعي، وكأنها في شهرها السابع، وهو ما أثار قلقها.
"في بعض الحالات، قد يصبح الألم النفسي والجسدي أكثر إيلاماً من المرض نفسه، حيث تصبح المرأة غير قادرة على العيش بشكلٍ طبيعي وتُحرم من حقها في الشفاء، في وقتٍ كان يمكن فيه إنقاذها إذا تم التشخيص بشكل صحيح"
لم يتوقف الأمر عند ذلك، وفق الممرضة جنان، بل بدأت تعاني أيضاً من نزيفٍ مستمرّ. خوفاً مما يحدث، تواصلت مع طبيبها الذي طمأنها قائلاً إن هذا أمرٌ طبيعيٌ في بداية الحمل فلا داعي للقلق. استمرّت حالتها في التدهور، حيث أصبح النزيف أكثر حدّةً، وأصبحت تشعر بتوعكٍ شديد، ما دفعها للعودة إلى الطبيب من جديد.
بعد إجراء الفحوصات اللازمة، كان التشخيص صادماً: مستوى هرمون الحمل (B-HCG)، كان مرتفعاً بشكلٍ كبير. ومع المزيد من الفحوصات، تبيّن أن حملها كان خارج الرحم، تحديداً في منطقة عنق الرحم. كانت هذه الحالة نادرةً وخطيرةً، ما أدى إلى انفجار البويضة خارج الرحم. وهنا "اختفى" الطبيب الذي كان قد طمأنها سابقاً، وأغلق هاتفه تماماً بعدما علم بتطوّر حالتها من المستشفى.
في هذه اللحظة، اضطر الأطباء إلى إزالة الأنسجة المتضرّرة، بما في ذلك البيوضات التالفة، الأمر الذي جعل مروة غير قادرة على الحمل مرّةً أخرى، بحسب ما تقوله الممرضة: "عندما تلقّت مروة هذا الخبر، كان الألم النفسي لا يقلّ عن الألم الجسدي الذي مرّت به خلال تلك الفترة. تعرّضت لجلطةٍ في الرئة بسبب شدّة الصدمة العاطفية والجسدية، ما جعل حالتها الصحيّة أكثر تعقيداً. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة ضربة قاسية لها، حيث فقدت حلم الأمومة وأصبحت مضطرّةً إلى العيش مع تبعات هذا الحلم الذي تحطّم، حتى أنها وجدت نفسها تكافح للتعافي من الآثار الجسدية والنفسية التي خلّفتها هذه التجربة المؤلمة".
تُظهر هذه القصص المأساوية كيف يمكن لخطأٍ طبي واحد أن يخترق قلب امرأة ويحطّم حلمها. ما يحدث هنا ليس مجرّد خطأ طبي، بل هو اغتيال لفرحة الحياة، وسرقة لأبسط حقوق الإنسان. فمن واجبنا أن نرفع الصوت عالياً من أجل جميع النساء اللواتي يعانين في صمت، كي نطالب بعالمٍ صحي وعادل، يقدّر ويمنح كل امرأة الحق في اختيار مصيرها وفي بناء حياتها كما ترغب.
إن الحياة تستحق أن تُعاش بكرامة، ومن حق النساء أن يحققن أحلامهنّ دون أن يُسرق منهنّ أي حق، مهما كانت الظروف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ 22 ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ يومينلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه