شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"وباء التشخيص الخاطئ للنساء"... لماذا لا يبالون بأوجاع السيدات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 24 يونيو 202203:00 م

منذ أربع سنوات مررت بليلة لن أنساها، بدأ الألم في بطني وأخذ يتصاعد بالتدريج حتى وصل إلى حدّ لم أعد استطع احتماله، نار مشتعلة في أحشائي لا تنطفئ بأي دواء جربته. ذهبت لطبيب باطني، رفض إجراء أشعة للكشف على موضع الألم، وشخّصني مباشرة بآلام القولون، وأعطاني بضعة أدوية مشابهة لما كنت آخذه بالفعل منذ يومين، من دون جدوى.

أخذت الدواء عن مضض، لكن الألم استمر بالتصاعد، حتى أن حقن المسكنات لم تعد تجدي نفعاً، اضطررت للتوجه إلى الطوارئ بعد منتصف الليل، وهناك طلب الطبيب المتأفف مني لكوني أعكر صفو ورديته الليلية، إجراء أشعة على البطن ليعطيني بعدها المسكن. هنا ثارت ثائرتي، فأنا أتألم منذ تقريباً 9 ساعات بلا أي مساعدة من أي شخص، وطلبت أن أحصل على المسكن في البداية ثم الأشعة التي كشفت المفاجأة.

حصوات لا تُعد ولا تُحصى

بعدما قلّت حدّة الألم إلى درجة محتملة، توجهت إلى طبيب الأشعة، الذي نظر إليّ مستغرباً بعد ثانية من إلقاء نظرة على صورة أحشائي، وقال لي مستخدماً تعبيراً يبدو شاعرياً بالنسبة لطبيب: "لديكِ عدد لا يعد ولا يُحصى من حصوات المرارة"، وطلب مني التوجه سريعاً إلى جراح لإزالة المرارة قبل أن أدخل في إنسداد مراري.

اكتشفت حينها أن ألم البطن الذي ذهبت بسببه قبل ذلك إلى أكثر من طبيب كلهم أعادوه إلى العصبية أو مشاكل القولون دون كشف مدقق، كان خلفه مرارتي التي ضاقت بما تحتويه من حصوات، والحل هو إزالتها، لكن بسبب تأخر اكتشافها أٌرهق كبدي بمهمته المضاعفة لهضم الطعام، بالإضافة إلى اشتباهه في حدوث انسداد مراري، وبالتالي لا يمكن أن يخضعني للتخدير والجراحة إلا بعد استعادة كبدي لوظائفه الطبيعية، وظللت أتألم وأكرر التحاليل كل يومين حتى أصبح جسدي يسمح بإزالة سبب العلّة، لكن هل كانت المشكلة وحدها في المرارة؟

وباء التشخيص الخاطئ للنساء

تلك القصة الشخصية التي بكتابتها أتذكر ألمي الذي استمر لأسابيع، ليست فريدة ومختلفة عمّا تعانيه السيدات حول العالم، في سياق ما يُعرف "جائحة التشخيص الخاطئ للنساء" (Epidemic of Misdiagnosed Women).

طبقاً للدراسات، الفارق بين أخطاء التشخيص أو عدم التشخيص من الأساس بين الرجال والنساء ذو نسب مخيفة للغاية.

على سبيل المثال، النساء أكثر عرضة بنسبة 50% للتشخيص الخاطئ بالنوبات القلبية، وبنسبة 30% بالنسبة للسكتات الدماغية، ويأخذ تشخيص أمراض المناعة الذاتية لدى النساء ما يقرب إلى 5 سنوات، وغالباً ما تستغرق الحالات الخاصة بالنساء، مثل بطانة الرحم المهاجرة والأورام الليفية الرحمية وما إلى ذلك، 10 سنوات أو أكثر لتحديد التشخيص بدقة .

وجدت دراسة من جامعة كوبنهاغن أن النساء يتم تشخيصهنّ بعد أربع سنوات في المتوسط عن الرجال عندما يتعلق الأمر بأكثر من 700 مرض، وبعد عامين ونصف في حالة السرطان، وبالنسبة للنساء ذوات البشرة الملونة، فإن التفاوتات في الرعاية أكبر .

ما يعني أن النساء يمتن بنسبة 50% أكثر من الرجال بسبب النوبات القلبية، ويتعيّن عليهنّ أن يعانين لسنوات أكثر من الآلام الخاصة بأمراضهنّ، قبل أن "يتعطف" عليهنّ طبيب ويقوم بتشخيص المرض وإعطاء العلاج الملائم.

النساء أكثر عرضة بنسبة 50% للتشخيص الخاطئ بالنوبات القلبية، وبنسبة 30% بالنسبة للسكتات الدماغية، وغالباً ما تستغرق الحالات الخاصة بالنساء، مثل بطانة الرحم المهاجرة والأورام الليفية الرحمية وما إلى ذلك، 10 سنوات أو أكثر لتحديد التشخيص بدقة 

في هذا الصدد، تحدثت إلى رصيف22، الكاتبة آيات جودت، عن تجربتها مع الآلام التي رافتها لعدة سنوات.

منذ العام 2013 بدأت لديها آلام جسدية متعددة في الرقبة والعضلات مع نقص في النشاط وتعب متزايد من أقل مجهود، ظلت تتردد على أطباء من مختلف التخصصات لمدة 6 سنوات، لم يعطها أي منهم تشخيصاً محدداً، بل بعضهم هاجمها وقلل من ضخامة ألمها، وحاول إلقاء اللوم عليها، وإعطائها نصائح غير مجدية ومسيئة مثل التخلص من الوزن الزائد، وذلك حتى شخصتها طبيبة بمرض "الفيبروميالجيا" (Fibromyalgia)، وهي حالة تسبب الألم في جميع أنحاء الجسم، وتحدث مشاكل النوم والتعب والإرهاق العاطفي والعقلي مع حساسية زائدة للألم، ويصيب حوالي 2% من البشر، من كلا الجنسين لكن بنسب غير متساوية، فمن 80-90% من المشخصين بهذا المرض هنّ من النساء .

بكت "آيات" عند تشخيصها أخيراً، ليس حزناً، لكن بكاء راحة، وقد مرّ في ذاكرتها بشكل سينمائي شريط من الأطباء الذين أخبروها من قبل أنها "تتدلع" أو اتهموها بأن ألمها نابع من خطأ شخصي. شعرت بالهدوء لأنها علمت إنها ليست موهومة، هي تتألم من مرض قد لا يكون له علاج مباشر، لكن من خلال تغيير طبيعة الحياة تحسّنت جودة صحتها، والأهم أنها لم تعد تشك في نفسها بعد الآن.

ولكن للأسف لا زالت تعاني من نزيف رحمي منذ العام 2017، راجعت بسببه 4 أطباء نساء ولم يتم تشخيصها بعد، أحدهم قال لها: "لا أعلم سبب ما تعانين، مع السلامة"، وآخر أخبرها أن السبب نفسي، ولم يطلب أي منهم تحاليل واكتفوا بالأشعة.

لماذا لا يبالون بأوجاع النساء؟

تخرج علينا مواقع التواصل الاجتماعي كل بضعة شهور بحادثة امرأة توفيت بسبب خطأ في التشخيص بعد شكوى مستمرة من أحد الأعراض التي أهملها الأطباء، أو شُخصت بشكل متأخر، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة العلاج، أو حتى نساء عانين من الإهمال في التشخيص أو اللجوء لأجوبة جاهزة مثل: "تخلصي من الوزن الزائد"، أو الزعم بأن السبب نفسي، فما هو السبب وراء هذه اللامبالاة بأوجاع النساء؟

بكت "آيات" عند تشخيصها أخيراً، ليس حزناً، لكن بكاء راحة، وقد مرّ في ذاكرتها بشكل سينمائي شريط من الأطباء الذين أخبروها من قبل أنها "تتدلع" أو اتهموها بأن ألمها نابع من خطأ شخصي. شعرت بالهدوء لأنها علمت إنها ليست موهومة

هناك عدة أسباب لهذا الإهمال، أولها الوصف الذي التصق بالمرأة منذ سنوات وهي أنها "عاطفية للغاية"، واستخدام مصطلح "الهستيريا" كسبب فضفاض وراء أعراضهنّ، وعلى الرغم من تطور المجتمع بشكل عام والطب بشكل خاص، لا نزال واقعين في ذات الفخ من التنميط الذي يؤدي إلى استبعاد الكثير من الاضطرابات الجسدية وإرجاعها لأسباب "نفسية"، مثل صعوبة التنفس أو التعرق أو الغثيان أو آلام البطن، وبالتالي عدم النظر إليها بشكل سليم، الأمر الذي يعطل الوصول إلى تشخيص سليم.

سبب آخر، إنه حتى وقت قريب للغاية كانت الأبحاث الطبية تُجرى بشكل حصري على الرجال، وتحديداً أصحاب البشرة البيضاء، مع تطبيق النتائج على كل من الرجال والنساء من كل الأعراق، وتجاهل أن نتائج هذه الأبحاث بهذه الطريقة ليست دقيقة بما يكفي، فعلى سبيل المثال هناك بعض الأدوية التي يتم استقلابها في الجسم بشكل أسرع لدى الرجال عن النساء، وبالتالي يجب أن يُعطى لكلا الجنسين جرعة دوائية مختلفة، ناهيك عن الأسباب التي ترجع لميراث طويل من الفهم الخاطئ والتنميط للنساء، والذي يعرض حياتهنّ للخطر بشكل يومي حتى في العالم الغربي، فما بالكم/نّ بالشرق الأوسط الذي يرفض الكثير من آبائه وأمهاته عرض بناتهنّ على الأطباء الذكور باعتبارها "قلة حياء". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard