شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عن ليلى مراد التي لم تدخل لوحات أندي وارهول بل حياتي

عن ليلى مراد التي لم تدخل لوحات أندي وارهول بل حياتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والتنوّع

الخميس 21 نوفمبر 202411:08 ص

"ماليش أمل" وأندي وارهول

بفستان سهرة باهر ورقيق، أطلّت المطربة المصرية ليلى مراد، وهي تغني "ماليش أمل" في مشهد من فيلم "غزل البنات". كانت ليلى "طازجةً وشهيةً"، كما وصفها أحد أصدقائنا الرسامين، وهو يستطلع آراءنا حول صورة يريد صنعها كهدية لحبيبته من ذلك المشهد لليلى بعد أن يحوّلها على طريقة الفنان الأمريكي أندي وارهول، إلى أربع صور متلاصقة مصبوغة بأربع درجات لون مختلفة.

انقسمت الآراء بين مَن عدّ هذا نوعاً من الاحتيال ولا تجديد فيه، لأن "البوب آرت" هنا سيظل منسوباً إلى مبتكره الأصلي، وارهول، وبين مَن رحَّب بالفكرة لأن تقنية تحرير الصور بالتأكيد ستختلف من فنان إلى آخر.

الجدلية تلك دائماً ما تُثار على طاولات الفنانين: هل استخدام تقنية ابتكرها فنان في تنفيذ صور/أفكار جديدة أمر مشروع؟

والسؤال الصادم في حالة وارهول: هل تقنيات الطباعة وتحرير صورة موجودة بالفعل يُعدّان فناً أصلاً؟

وجه ليلى مراد، التي تحلّ ذكرى وفاتها في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، بورتريه مميز يشبه قرص شمس منير تلسعك حرارته، وإنْ كانت صورها بالأبيض والأسود 

هذا السؤال/الاتهام غالباً ما لاحق اسم أندي وارهول، برغم الاعتراف الجمعي بحلاوة صورته الشهيرة لمارلين مونرو، وصور أخرى كثيرة ملأت متحفاً يحمل اسمه في بنسلفانيا.

عرفتُ بعد وقت، أن صديقنا الرسام أهدى حبيبته أغنية "ماليش أمل" لليلى فقط، وأعرض عن فكرة الصورة، ليس لأنها لا تُعدّ فناً أصيلاً فحسب، ولكن لأنّ ملامح ليلى تستحق أن تُرسم وتُرى بوضوح دون تعديلات.

وجه ليلى مراد، التي تحلّ ذكرى وفاتها في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، بورتريه مميز يشبه قرص شمس منير تلسعك حرارته، وإنْ كانت صورها بالأبيض والأسود. شفتان منتفختان فطرياً، وشعر قصير منفوش من نهاياته بغير تكلّف، وحاجبان يلفّان الوجه بشكل دائري كأنهما إطار طبيعي للبورتريه مع فاصل عريض بينهما، وصفّان من الأسنان اللامعة المرصوصة بدقة لم تكن تعرف في زمنها "هوليوود سمايل".

تبتسم لنا صور ليلى مراد كالموناليزا، تجعلنا نهمس لها دون وعي بأغنيتها "حبيت جمالك": "تعطف عليّا وأعطف عليك، وأقضّي عمري ما بين إيديك".

درّسوا الفن وأغلقوا السجون!

يرشدنا أفلاطون في أحد تعاليمه: "درّسوا الفن ثم أغلقوا السجون!"، متصوّراً أن مَن يتذوق حلاوة الفن لن يستطيع بعدها أن يرتكب جرائم.

لم يعاصر فيلسوف اليونان القديم بالطبع عازف الإيقاع المصري، أحد أعضاء فرقة الأندرغراوند، "طِيبة"، لمؤسسها حسين ومودي الإمام في ثمانينيات القرن الماضي. شباب يجرّبون في الموسيقى ولا ينشغلون بالربح... لم يرَه وهو يتحوّل من عازف موسيقى مستقلة إلى رجل صناعة ومال، ثم إلى محتكر، ثم إلى أخطبوط سياسة فاسد سجنته ثورة كانون الثاني/يناير 2011، ثم يدفع ملايين الدولارات ليعود إلى المشهد الاقتصادي والفني.

ليلى مراد

هل لا يزال رجل الأعمال هذا يعيش صراعاً نفسياً بين حُلم الفن وحُلم السلطة، ويحاول بعد سنوات "التهليب"، شراء الفن، أي فنّ، كرعاية برامج المواهب واقتناء اللوحات، أي لوحات، كما اشترى التصالح في جرائمه لعلّ أمواله تغتسل وتتطهر؟

أتخيّل أنه سهر ذات ليلة لمراجعة حالة أرصِدته في البنوك وأسهمه في البورصة، بينما يلعب صوت ليلى مراد في خلفية المشهد برأسه، محدثاً شغفه القديم:

"أنا أحبّك وأفضل أحبّك وأنت عذابي ودمع العين... تخاصمني وتنكر حُبّك... طيّب حبي أودّيه فين... مش بس حكاية قلبك حكايتنا إحنا الاتنين".

ربما زارته ليلى في الليلة نفسها مناجيةً إياه من حلم رأى نفسه فيه محبوساً في بدلة زرقاء: "اسأل عليّا وارحم عينيا... بستنى منك جواب يجيني... يقول فاكرني ومش ناسيني"، فقفز من نومه يبحث عن آخر/أغلى صورة رُسمت لها ليقتنيها.

علّمتنا ليلى دروساً في الغناء السهل الممتنَع بمنتهى الرشاقة والخفة، كما تعلّمنا قصة ابنها أن الفنان الحقيقي متواضع، لا يرى الناس بفوقية ولا يعطي لنفسه الاستحقاق المطلق لمجرد أنه يعمل في الفن

هل من الممكن تصوّر أن مَن ضحّت بالشهرة في "عزّ" تألقها متفرغةً لتربية ولدَيها، ومَن تنازلت دون تردد عن أغنيتها "تخونوه" لعبد الحليم حافظ لأنها أعجبته، تطلب يوماً من أحد أن يقدّر جمالها/فنها بالمال؟

أعود وأسمع الردّ على حيرتي بصوتها العذب:

"أنا روح حواليك شاردة وهايمة... أنا طيف باناديك والناس نايمة... أنا زيّ ما أنا وأنت بتتغير... عُمر الهنا قصير".

تعاليم الأم ليلى

لستُ متأكدةً متى ولماذا أحببت "فطين" الصغير؟ ربما لحضوره الهادئ اللطيف، وربما لأنه ابن ليلى مراد وكفى.

قبل وفاته، حكى زكي فطين عبد الوهاب أنّ أمّه لاحظت تجاهله الخَدَم في بيتهم، فظلت تشرح له لعبة الحظ، التي جعلته يولد غنياً لأب وأم فنانين، وأن هذا ليس ذنباً لمن هم أقلّ/أفقر، فما كان منه إلا أن اتفق مع أخيه على اصطحاب أبناء السفرجي والطباخ والسائق كل خميس إلى النادي.

ليلى مراد

علّمتنا ليلى دروساً في الغناء السهل الممتنَع بمنتهى الرشاقة والخفة، كما تعلّمنا قصة ابنها أن الفنان الحقيقي متواضع، لا يرى الناس بفوقية ولا يعطي لنفسه الاستحقاق المطلق لمجرد أنه يعمل في الفن. الفنان الحقيقي ناقد أول لنفسه قبل أن يتقبل نقد الجماهير، والفنان الحقيقي يرى الفن في كل التفاصيل المحيطة... ربما يعتبر "تقوير" الباذنجان أيضاً فنّاً، بل مهارة شديدة الدقة تشبه التطريز.

هل كان سيثور زكي إذا قابل بورتريه سيئ الصنع منسوباً إلى طريقة وارهول في فن "البوب آرت"، رسمه مُدّعٍ لأمّه، أم سيتجاهل بهدوئه المعتاد، متذكراً دروسها في تقبّل الآخر. أيّ آخر؟

أعدّ نفسي واحدةً من ورثة فن ليلى مراد، بالمحبة الخالصة وبمصاحبة صوتها ذكرياتي الحلوة. أضع نفسي في الموقف نفسه، وأردّ برقّتها الممزوجة بالشجن: "لا تلومني ولا اعاتبك... فين تهرب من ذنبك... روح منك لله"! 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image