كل شيء في الغرفة مرتبط بليلى مراد. محتوياتها من وسادات وأكواب وصور ورسومات تزيّن الجدران وأفلام وأسطوانات، إلخ، كلها مرتبطة بالفنانة الراحلة بطريقة أو بأخرى. صورها المسحوبة عن شبكة الإنترنت لا تزاحمها على الحضور في المشهد سوى رسومات "بدائية" لها.
هو أكثر من حب. هو عشق. وبسبب عشق عمر عدنان (49 عاماً) لليلى مراد، قرر أن يصنع لها غرفة في شقته القديمة في "روكسي" عام 2012. كانت غرفة أكبر من الغرفة الحالية في شقته الجديدة التي انتقل إليها بعد فترة ونقل معه إليها طيف الفنانة الراحلة.
كان أصدقاؤه حين يأتون إلى شقته يعترفون بأن "غرفة ليلى مراد"، كما يسمونها، هي أكثر غرف المنزل راحةً. لكن هذا لم يحل دون تعليقات ساخرة طالت عمر، ومنها اللقب الذي أطلقوه عليه: "مجنون ليلى".
عمر عدنان يحمل الجنسية التركية. ضاق ذرعاً من الطرق على كل الأبواب للحصول على إقامة في مصر كل فترة، حتى أنه لا يمانع في التنازل عن جنسيته التركية مقابل ذلك. "مصر هي بلدي وكل حياتي"، يقول لرصيف22.
قصة عشق
يحكي عمر: "كانت بداية حبي لليلى مراد حين حكت لي والدتي أنها، وبعد زواجها من أبي بعام كامل، حضرت تصوير أحد أفلامها. كان فيلم ‘خاتم سليمان’ عام 1947. قابلتها والدتي وأخبرتني أنها كانت لطيفة ورقيقة جداً. علقت هذه القصة في ذهني، وتطورت داخلي، بل وتطور حبي لليلى مراد، خاصةً وأن الكل يجمع على أنها ‘شخصية كويسة في حياتها الحقيقية’، كما أنها، في ما بعد، كانت أماً وزوجة جيدة، وهذا شيء مهم لي".
"أنا أحب ليلى مراد منذ كنت في التاسعة من عمري. أحب مشاهدة أفلامها والاستماع إلى أغانيها، فهي بالنسبة إلي امرأة رقيقة للغاية حتى في أفلامها"، يقول ويضيف: "منذ كنت طفلاً كنت أحرص على متابعة أخبارها في العديد من الصحف، وأتذكر أنني حين وصلت إلى سن المراهقة في الثمانينيات أخذت أبحث عن رقم هاتفها حتى عثرت عليه. اتصلت بها بالفعل عدة مرات. ردت علي. كنت أتحدث إليها كأني أعرفها منذ فترة بعيدة، بل وكأنها أحد أفراد عائلتي. كانت لطيفة جداً معي، وفي الوقت نفسه مندهشة من هذا المراهق الذي يحبها كل هذا الحب، فهي كانت وقتها في الـ70 من عمرها وأنا في الـ17. كان صوتها الرقيق على الهاتف ذات الصوت في أفلامها".
بعد فترة قرر عمر أن يذهب بنفسه إلى شقة ليلى مراد في غاردن سيتي ليعطيها صورة كان قد رسمها لها. لم يُسمح له بالصعود، ولكن القدر كان كريماً معه. فجأة رآها أمامه واقفة وهي في كامل أناقتها. سمّرته المفاجأة مكانه، وقبل أن يستوعب الأمر استقلت سيارة أجرة لترحل بعيداً عنه.
اكتفى عمر لاحقاً بالتواصل معها عبر الهاتف. لكن بعد مدة، لم تعد ترد على مكالماته، وإن ردت تنكر شخصيتها الحقيقية. راح يتصل بها ليسمعها وهي تقول: "آلو" فقط، ثم تغلق الهاتف.
تحضر ليلى مراد في ذكريات عمر الخاصة. يوم وفاة والده عام 1983 كان يستمع إلى أغنيتها الشهيرة "عيني بترف".
عندما توفيت الفنانة في 21 نوفمبر 1995، كان عمر في الـ25 من عمره. شعر بالحزن والاكتئاب. فكر أن يذهب إلى العزاء ثم تراجع. ورغم رحيلها، لم ينطفئ حبها في قلبه، بل زاد، ولاحظ أصدقاؤه ذلك في أحاديثه عنها.
الفنانة المحبوبة
يقول عمر: "أكثر الأشياء التي شدتني إلى ليلى مراد ولاءها لمصر، فهي تركت الديانة اليهودية واعتنقت الإسلام، ورفضت مغادرة مصر رغم الكثير من العروض التي قدمت لها، واستمرت في الدفاع عن بلدها، بل غنّت أغاني عن فلسطين والجيش وسيناء وثورة 1952، وهي لم تكن مطالبة بأن تقدم هذا كله، بل قدمته من تلقاء نفسها".
شاهد عمر جميع أفلام الفنانة، مرات كثيرة، عدا فيلمين لم يجدهما: الأول، فيلم "شادية الوادي"، وفيه غنّت لفلسطين قبل النكبة، وهذا برأيه يثبت ولاءها القديم للعروبة، متذكراً في هذا السياق فيلماً آخر لها كانت قد أنتجته بنفسها عام 1954 بعنوان "الحياة الحب"، وقامت فيه بدور ممرضة تعالج الجنود المصريين. أما الفيلم الثاني الذي لم يعثر عمر عليه فهو "الهوى والشباب".
يتحدث عمر عن آخر أفلامها مع أنور وجدي وهو فيلم "بنت الأكابر" (1953) والذي يقول إن عصر الباشاوات انتهى، ولا فروق بين الطبقات، وهذا برأيه "دليل على أنها كانت ناصرية، وتؤيد الثورة والجيش المصري، ثم أيدت السادات ومبارك بعدها".
يعتقد عمر أن الإشاعات التي شككت بولاء مراد لمصر مصدرها أنور وجدي نفسه. يقول: "أعتقد أن هذا كان لأسباب شخصية، فلا ننسى أنها كانت تحقق في تعاونها مع أنور وجدي وقتها أعلى الإيرادات، وهو كان لا يريد لها أن تنسحب من هذا التعاون، وهي كانت قبل زواجهما نجمة كبيرة، وهو كان يتدرج في أدواره من ممثل صغير حتى وصل إلى قمة النجومية مثلها".
وبرأيه، فإن مراد "كانت من النوع الطيب وبنت ناس، ولم تكن لترد بأسلوب ثقيل الظل على مَن يهاجمها، ولهذا ظُلمت كثيراً، وهي للأسف استسلمت للحزن ولكلام الناس، وكان من المقرر أن تقوم ببطولة فيلم ‘المتمردة’ مع أحمد زكي في الثمانينيات لتلعب دور والدته، لكن خوفها من العودة جعل الفيلم لا يرى النور".
تشابه بين العاشق والفنانة
يرى عمر تشابهاً كبيراً بينه وبين ليلى مراد، خاصةً في مسألة "أزمة الهوية". فهو من مواليد فيينا-النمسا عام 1970، وعاش فيها 10 سنوات، ولم يحصل على جنسيتها. ووالدته، سيدة المجتمع، تركية الجنسية، أما والده فعراقي وكان دبلوماسياً في الأمم المتحدة، ولهذا كان يحمل جواز السفر العراقي، لكنه لم يجدده منذ عام 1982 واكتفى فقط بجواز السفر التركي من الأم.
ومن النمسا، انتقلت الأسرة إلى مصر، فوالدته كانت تعيش في مصر قبل زواجها عام 1948، وكل عائلتها كانت هناك، كما أن أولادها من زوجها الأول برجل فلسطيني مقيمون في مصر، كما أن والده الذي تقاعد عن العمل كان يحب مصر وعاش فيها في الستينيات.
كل شيء في الغرفة الصغيرة مرتبط بليلى مراد. محتوياتها من وسادات وأكواب وأفلام وأسطوانات، إلخ، كلها مرتبطة بها. ولا تنافس صورها المسحوبة عن شبكة الإنترنت والتي تملأ الجدران سوى رسومات لها
في مراهقته، في الثمانينيات، بحث عن رقم هاتف ليلى مراد واتصل بها بالفعل عدة مرات. لكن بعد مدة، لم تعد ترد على مكالماته. راح يتصل بها ليسمعها وهي تقول: "آلو" فقط، ثم تغلق الهاتف
علاقة عمر بمصر لم تبدأ مع انتقاله للعيش فيها. كان من ضمن أصدقاء والديه السفيران المصريان وقتها صلاح جوهر وعمر سري، وكذلك وزير الشباب وقتها عبد الأحد جمال الدين. وكان عمر يزور المركز الثقافي المصري في فيينا كل أسبوع، فارتبط بالثقافة المصرية منذ كان صغيراً.
ويروي لرصيف22 أنه عرف عن الدين والصلاة الكثير من خلال الدبلوماسي المصري حسين الضو الذي كان يعمل في الأمم المتحدة. يقول: "كنا نعيش في جو مصري في النمسا، وأتذكر أول فيلم مصري شاهدته وكنت مسروراً جداً به وهو فيلم ‘أجازة نصف السنة’، ولكني لم أكن أعرف شيئاً عن ليلى مراد قبل أن آتي إلى مصر".
عاد عمر مع والديه إلى مصر عام 1980 ليعيش ويكبر فيها حتى اليوم، وقبلها كانوا يزورونها كل عام، ولديه العديد من الذكريات فيها.
في مصر، عمل عمر مدرساً، وقام بإعطاء دروس في الرسم واللغة الإنكليزية، ولكنه كان يعيش بشكل أساسي من إيراد يأتيه هو وباقي الورثة من إحدى البنايات التي يملكونها في "مصر الجديدة"، وتم تشييدها عام 1966.
يشعر عمر بالغربة كما ليلى مراد. الجميع يعامله بسبب جواز سفره التركي على أنه أجنبي رغم أنه لا يعرف إلا القليل جداً من اللغة التركية، ولم يزر تركيا سوى مرات معدودة على أصابع اليد الواحدة، وكان آخرها عام 2005.
يقول: "تعاملوا معي في تركيا كسائح وليس كتركي مثلهم لأنني لم أكن أتحدث اللغة التركية بطلاقة، ووالدتي لم تكن تحاول تعليمي اللغة التركية، بل كنا نتحدث في المنزل باللغة العربية، ولم أفكر أبداً في العيش في تركيا، ولا أعرف رؤساءها أو حتى تاريخها، ولا أمتلك شقة هناك".
ويضيف: "كثيرون من أصدقائي المصريين كانوا ينتقدونني لأنني لا أحب العيش في تركيا، بل أتذكر واقعة: حين ذهبت إلى مجمع التحرير لتجديد إقامتي، بعد يناير 2011، فوجئت بإحدى الموظفات هناك تنتقدني لأنني أحب مصر أكثر من تركيا".
يقول عمر إنه مصري قلباً وقالباً. يحسد خالته التركية التي حصلت على الجنسية المصرية لأنها تزوجت من مصري في الستينيات. وخالته لم تكن الوحيدة في أسرته التي حصلت على الجنسية المصرية، بل حصل عليها أيضاً ابن خاله وابنة عمته.
عام 2011، اتصلت به السفارة التركية وحذرته من مغبة الإقامة في مصر وقت ثورة 25 يناير، وعرضت عليه نقله إلى تركيا، لكنه رفض وأصر على البقاء.
يعلّق: "كلنا نحب مصر. لدينا مدافن هنا، وكل عائلتي وأجدادي عاشوا ودفنوا في أرض هذا البلد".
ويضيف: "أشعر بالاستفزاز جداً حين يقول لي أحدهم مثلاً: لو مش عاجباك امشي. وأرد بأن هذه هي أرضي، وسأظل فيها لأنها بلدي".
تعقيدات السياسة
بدأت مشكلة عمر مع الحصول على الإقامة في مصر بعد عام 2011. قبلها كان يحصل على إقامة لمدة عام كامل، لكن بعد عام 2014 أصبح الحصول على الإقامة، بحكم جنسيته التركية، أمراً صعباً، فمرة يأخذها لمدة 3 أشهر ومرة لمدة 6 أشهر.
في البداية، كان يحصل عليها كـ"إقامة مؤقتة"، ثم أصبح يحصل على "إقامة سياحية". الآن ليس لديه "تصريح إقامة" منذ تسعة أشهر تقريباً. يقول ساخراً: "لدي بطاقة انضمام إلى نادي هليوبوليس منذ 39 عاماً، وأجددها كل عام، ولا أستطيع تجديد إقامتي في بلدي!".
حاول عمر طرق جميع الأبواب لحل مشكلته بلا جدوى، خاصةً مع توتر العلاقات المصرية-التركية". يقول: "ليس لي ذنب في وصول الأوضاع بين تركيا ومصر إلى هذا السوء، ففي النهاية أنا مجرد فرد، وليس لي أي انتماءات سياسية، وكل انتمائي هو لمصر أولاً وأخيراً... ما ذنبي إن تم ترحيلي إلى تركيا التي لم أعش فيها أبداً؟".
يتمنى الحصول على الجنسية المصرية. يؤكد أنه ليس لديه أي مانع في أن يتنازل عن الجنسية التركية مقابل أن يصبح مصرياً ويحصل على جواز السفر المصري، "فأنا أشعر بأنني مصري، وهذا هو إحساسي، وأعلم أن حديثي هذا قد يثير سخرية البعض أو قد يتهمني البعض بالجنون".
*الصور الواردة في هذا الموضوع من تصوير منى عادل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...