شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سرّ ارتباط الإنسان بالفخّار منذ آلاف السنين… قصة مدهشة أخرى من تاريخ سوريا

سرّ ارتباط الإنسان بالفخّار منذ آلاف السنين… قصة مدهشة أخرى من تاريخ سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الثلاثاء 19 نوفمبر 202412:33 م

وجدنا في المرويّات الأثرية والبحوث العلمية معلومات نادرةً تفيدُ بأنّ وجود الفخار في سوريا يعود إلى ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد، حيث عثر المنقّبون على دمى بهيئة تماثيل بشرية أنثوية من الصلصال المُقسّى بالنار، من العصر النيوليتي، في تل المريبط، وعثروا على تمثالين صغيرين (5000 خمسة آلاف سنة قبل الميلاد)، ضُخّمت فيهما الأجزاءُ الأنثوية التي تدلّ على الخصوبة في رمزيةٍ إلى العصر الأمومي والآلهة الإناث في المجتمعات الزراعية كمبدأ للاستمرار وقدسية الأم المُرضِعة، وفق ما ذكر في تل كشكشوك في متحف حلب.

محل لصناعة الفخار في سوريا

كما تمّ اكتشاف الأواني الفخارية القابلة للاستخدام (القصعات والقدور والجرار والأباريق والطاسات ذات الألوان البراقة نتيجة شيّها بالحرارة العالية)، وجميعها تعود إلى 5،500 سنة قبل الميلاد، في تل حلف الواقع على نهر الخابور بالقرب من رأس العين السورية.

إلى يومنا هذا

ولا تزال نساءُ قرية الشاتورية في اللاذقية حتى اليوم -كما لو أنهنّ امتدادٌ لنسغ أجدادهنّ- يصنعنَ يدويّاً "مقلي الفخار" أسود اللون، وهو من تربة جبل ملح الدبّ، الموجودة حصراً في ريف اللاذقية، والمليئة أصلاً بنثرات الزجاج الطبيعي، وهنّ يحتجنَ إلى أكثر من سنة تقريباً لصنع "فخارية" واحدة قابلة للاستخدام في الطبخ.

تمّ اكتشاف الأواني الفخارية القابلة للاستخدام (القصعات والقدور والجرار والأباريق والطاسات ذات الألوان البراقة نتيجة شيّها بالحرارة العالية)، وجميعها تعود إلى 5،500 سنة قبل الميلاد، في تل حلف الواقع على نهر الخابور بالقرب من رأس العين السورية

تلك السرديات جمعتُها بعد مشاهداتي اليومية لبسطات بيع الأواني الفخارية التي عادت للظهور في بعض أحياء دمشق مثل الدويلعة والفحامة، ومساكن برزة، وطرق وادي بردى، ومشاهدتي لإقبال الناس على شراء الفخاريات كما لو أنَّ بشرَ هذه الأزمنة يعيشون طباقاً حياتيّاً أو طباقاً حضارياً لا يدركونه بالعقل، بل يشعرونه بالجينات، وللمصادفات القدرية الجميلة حصلَ أنْ قدّمتْ لنا مؤخّراً إحدى الصديقات طبق طعام سوري تقليدي (برغل بالبندورة)، مطبوخاً بمقلي الفخار الأسود، فزادت دهشتي وسعادتي بهذه الأعجوبة البشرية المسمّاة "الفخار".

كما أن هذه المشاهداتُ جعلتنا في رصيف22، نلتقي بعضاً من صانعي الفخار في سوريا لنستمع إلى حكاياتهم.

الفخار السوري

صانعُ الفخار بكري كركوش، أبو علي، يحدثنا فيقول: "أصلي من حلب، ورثتُ مهنة أجدادي مِن خمسمئة سنة، وبعضهم صارت كنيته ‘الفاخرجي’، وقد حكى لي جدّي وأنا طفل أنّ سيدنا نوح هو أول صانع فخار في البشرية، وأن في القرآن الكريم آيةً تقول: ‘خَلَقَ الإنسانَ مِن صَلْصَالٍ كَالفَخَّار’... أجدادي كانوا يستخدمون الفخار في كل شيء في حياتهم، في جرار المونة وزيت الزيتون والمخللات وحفظ ماء الشرب والخمر والزيتون والحليب، والشمعدانات والثقّالات التي توضع فوق طبخة المحاشي واليبرق... وكما ترى فإنني أطبخ غدائي بطنجرة فخار في قلب الفرن الآن"، ثم يضحك ويدعونا لمشاركته.

مفاعيل الحرب

كان الحِرفيُّ "كركوش" يعجن في معمله الخاص في حلب، الذي دُمِّر مع أكثرَ من عشرة معامل فخّار أخرى، نحو عشرة أطنان من التربة يومياً، في عجّانة حلزونية طولها خمسة أمتار وقطرها ستون سم. أمّا اليوم و"بسبب عدم توفر الكهرباء الأساسية لشغلنا، فلا أعجن أكثر من مئة كيلو... تخيّل! كنّا أنا وأولاد عمومتي ثلاثة عشر شخصاً، ولكل واحد فينا مشغل فخار مميز، لكن الحرب فرّقتنا، بعضهم ترك المهنة نهائياً، والبعض سافر إلى ألمانيا، أما أنا فبقيت. لا أقدرُ أن أتركها، أو أن أبدّلها بأي مهنة في العالم! توقفتُ خمس سنوات، لكني عدتُ من حرقة قلبي لكيلا تنقرض مهنة أبي وجدّي، برغم سوء الكهرباء التي تنقطع لساعات طويلة، ففرن شواء الطين يحتاج إلى درجات حرارة بين 900 وألف ومئتي درجة، وهذا يحتاج إلى كهرباء متواصلة أو مازوت غير متوافر أو وقود ‘البيرين’ المصنوع من حبّ الزيتون المعصور والمهروس وهذا يذوب فوراً وغير فعّال"!

الفخّار كائن حيّ

"أتحبّ مهنتك إلى هذه الدرجة يا عمّ أبو علي"؟ نسألُه، فيجيبنا: "حينَ أبدأُ بعجن القطعة وتحريكها على الدولاب من أجل أن أصنع جرّةً أو طنجرةً، أكتشِفُ نفسي أحياناً أحوِّلُ القطعةَ إلى شيء آخر تماماً مثل النحّات الذي ينحتُ تمثالاً... أشعرُ بأنّي أعيشُ مع الفخاريات التي أشتغلها كأنّ فيها أرواحاً تحدّثني! وقد شاركتُ في دورات لتعليم مهنة صنع الفخار للشباب والصبايا والصغار".

صانع فخار في سوريا

ويضيف: "لا تتخيل كم أن اللعب بالصلصال يُدخل الفرح إلى قلوب الأطفال أكثر من أي لعبة إلكترونية على الموبايلات... وكرمى لتحبيب الأطفال بهذه الصّنعة كنتُ أقدّمُ لهم، بسعر رمزي جداً، تلك المصنوعات التي شاركوا في عجنها وقولبتها وتلوينها، وكانوا يبتهجون بها كأنهم هم من خلقوا شيئاً بأيديهم"!

فخارٌ بجودة عالمية

"الفخار السوري موثوق جداً عالمياً"، يقول أبو علي مفاخراً بمهنته، ويضيف: "كنتُ قبل الحرب أصدِّرُ أكثرَ من عشر حاويات (كونتينرات)، إمّا عن طريق بيروت، أو عن طريق البحر إلى ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والسويد وهولندا وغيرها... أسعار قطع الفخار تتراوح بين عشرة آلاف ومليوني ليرة سورية، حسب القياس وحسب الجودة وحسب نوعية الطلب الخاص الذي يطلبه منا بعض الزبائن، مثل أصحاب الفيلات والفنادق والمزارع الفخمة وبعض رجال الأعمال، فقد اشتغلتُ مرةً شلال ماء كديكور بطول خمسة أمتار، وكان من أندر وأصعب ما اشتغلته في حياتي لصعوبة تصنيعه وتكريب قطعه، كما اشتغلت، ولمرة واحدة فقط، قطعةً نادرةً هي جرّة فخارية تزِنُ نصف طنّ، عمّرتُ لأجلها فرناً خاصاً، واحتجتُ إلى رافعةٍ مع آلةٍ تسمّى ‘الستّافة’ لأتمكن من تحريكها... وبِعتُها لزبون خاصٍ من السعودية"!

حيٌّ كاملٌ يُدعى "دوّار الفاخورة"

محمد سالم فاخوري من مدينة حمص (يعملُ في ورشة الدويلعة)، اختصرَ سنوات خبرته في شغل الفخار بقوله: "كنا أكثر من سبعين شخصاً نشتغل بالفخار، إلى درجة أن مكاناً من أحياء حِمص صار يسمّى ‘دوّار الفاخورة’ نسبةً إلينا، أمّا الآن وبعد النزوح والهجرة فلم يبقَ في حمص أكثر من شخصين، أنا أحدهما، فالمردود لا يناسب الشقاء والتعب والتكلفة العالية جداً، كما أننا لا نستطيع رفعَ سعر قطعة الفخار للزبائن. أحبُّ هذه المهنة، وكل قطعة أصنعُها تشبه الرسم بفرشاة الرسّام، ولكل صانعٍ منّا بصمته وشكل فخارياته الخاص، إلى درجة أنك تستطيع تمييز كل فاخوريّ من شكل منتجاته".

الفخّار يحيي الماء

الحِرفيّ نبيل علي، الحاصل على شهادة "شيخ كار صناعة الفخار" في دمشق، يحكي لرصيف22، كيفَ أنّ منظمة الصحة العالمية أصدرت قراراً شبه إلزامي لمطاعم العالم للعودة إلى استخدام الفخاريات في حفظ وطهي الطعام بسبب خطورة باقي المنتجات البلاستيكية المسببة للسرطان، "كما أن الفخار يُحيي الماء فقد ثبت علمياً أن الفخّار يُصفّي الماء من الشوائب والكلس، ويُحرر الشوارد الموجودة فيه، ونحن ننصحُ مرضى الكِلى أو الكولون بأن يشربوا مِن ماء جرار الفخار، فهو لا يتفاعل كيميائياً مثل باقي المعادن، وهو مادة مثالية لطبخ الطعام أكثر من الستانليستيل أو التيفال أو النحاس".

"إنها حرفة مهددة بالانقراض"؛ يقول نبيل علي، بحرقة واضحة، ولا يزال لديهم أمل في أن تقدّم لهم الحكومة السورية الدعم الكافي للاستمرار، فلم يبقَ في سوريا كلها إلا نحو عشرين ورشةً، بعضها ستغلق قريباً 

تعودُ أصول الحرفي نبيل علي، إلى لواء إسكندرون، لكنه من سكان أرمناز في إدلب، التي كانت فيها قرابة مئتي ورشة لصنع فخار -حسب قوله- لكنهم هجروا المهنة لصعوبتها الشديدة، وبسبب ضربات الحرب، وقلّة أجرة العمل مقارنةً مع شقاء العمل فيها!

أصعب مهنة تقليدية

ويخبرنا نبيل علي بأنّ "الصعوبات تبدأ من تكاليف شحن التُرَب الخاصة من جديدة يابوس ومن الزبداني ومن حلب ومن منطقة قرب تدمر في محافظة حمص مروراً بطحنها في مطاحن خاصة، ثم تنخيلها على مراحل عدة، ثم تصويلها بعد النقع بالماء، وبعدها تأتي مرحلة العجن في ‘العجّانة’، ثم ‘عركها’ يدوياً حتى تصبح مُفرّغةً من الهواء، وبعدها مرحلة التشكيل على الدولاب حسب نوع وعدد القطع المطلوبة، وأيضاً تركها لتجفّ تماماً من أي قطرة ماء، ثم تأتي مرحلة شيّ الصلصال في فرن مصنوع خصيصاً لتحمّل درجات حرارة عالية، تكلفة تشغيله في اليوم الواحد مليون ليرة سورية! ولا يُسمح بأي خطأ في هذه المرحلة لأن ذلك سيجعلنا نخسر كلّ التعب الطويل وكل المال الذي دفعناه على أنواع غالية جداً نستخدمها لـ’التزجيج’ (طلاءٌ زجاجي مخصص للفخار)، نستوردها من ألمانيا أو إيطاليا، وبعضها نشتريه من معامل ‘سيراميك’ محلية أُغلِقت بسبب العقوبات والوضع الاقتصادي الصعب، وأخيراً هناك مرحلة التلوين، وقد طوّرتُ نوعاً من الألوان له درجة ثبوتية عالية وشبه دائمة".

على أملٍ دائم

"إنها حرفة مهددة بالانقراض"؛ يقول نبيل علي، بحرقة واضحة، ولا يزال لديهم أمل في أن تقدّم لهم الحكومة السورية الدعم الكافي للاستمرار، فلم يبقَ في سوريا كلها إلا نحو عشرين ورشةً، بعضها ستغلق قريباً للأسف لأن أصحابها قرروا الهجرة أو التوقف نهائياً.

الفخار السوري

ويختم نبيل علي كلامه: "أمّا أنا، فقررت البقاء وعمل كل ما يمكن أن يجعل هذه المهنة تستمر؛ أشارك في تعليم طلاب بعض المدارس الخاصة، وفي معهد الفنون التطبيقية ضمن قلعة دمشق، وفي قسم التاريخ في كلية الآداب أشرحُ لطلاب الجامعة كل مراحل تصنيع الفخار بشكل مفصّل ودقيق بحسب خبرتي الطويلة، حتى أنني قدمت بعض الاستشارات للمديرية العامة للآثار والمتاحف لترميم تماثيل فخارية أثرية... وكل ذلك لأن مهنة الفخار تجري في دمي. كما أنني أستخدم في بيتي الفخار في طبخ الأكل وحفظ الماء وأحواض الورود، وحتى في تماثيل زينة صنعتها للتسلية وتجميل البيت".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image