*جميع الصور في التقرير من تصوير: أزهر الربيعي.
"مافي أخبار عن خيّك؟"، هذا هو السؤال الذي كانت تردّده والدة عامر مطر، على ابنها يومياً، بعدما اعتقله تنظيم "داعش" على خلفية نشاطه الصحافي المناهض لممارسات أفراده وجرائمهم. لم يكن يتوقع أن تتحوّل رحلة بحثه اليومي عن أخيه إلى فكرة مشروع بعنوان "متحف سجون داعش"، وهو متحف يوثّق جرائم التنظيم في البلدين المتجاورين، سوريا والعراق، مستفيداً من خدمة الواقع الافتراضي والتقنيات الحديثة في توثيق الجرائم.
يقف عامر مطر، وهو صحافي سوري وصاحب فكرة ومؤسّس "متحف سجون داعش" وسط قاعة المعرض.
ضمن مشروع المتحف المعرض الرقمي الذي يحمل اسم "ثلاثة جدران… حكاية المكان في الموصل القديمة"، حيث زار المعرض الذي أقيم في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، خلال أيام الأولى آلاف الزائرين، دفعهم فضولهم لمعرفة ما ارتكبه التنظيم. فمن خلال تقنية الواقع الافتراضي وجولات ثلاثية الأبعاد ونظّارات الواقع الافتراضي، تمكّن الزائرون من مشاهدة الدمار في مدينة الموصل، إبان احتلال التنظيم لها في حزيران/ يونيو 2014. كما قدّم المعرض عبر شاشات خاصة، عروضاً مصوّرة لشهادات سجناء، وهم يروون قصصهم بالصوت والصورة، من المكان الذي كان يوماً ما سجناً لهم.
من رحلة البحث عن شقيق غيّبه التنظيم المتطرّف إلى مشروع توثيقي ضخم لجرائمه وضحاياه… ماذا نعرف عن مشروع "متحف سجون داعش" الذي احتضنت باريس معرضه الأول هذا الشهر؟ وكيف يقدّم لزائريه تجربة فريدة للإطلاع عن كثب على ممارسات داعش وجرائمه بحق سجنائه؟
"من هنا بلّشت القصة"
يروي عامر مطر، وهو صحافي سوري وصاحب فكرة ومؤسس "متحف سجون داعش" لرصيف22، اثناء زيارتنا المعرض بباريس: "كان أخي مصوراً صحافياً، اعتقله تنظيم داعش عندما كان يوثّق تظاهرة لنساء يطالبنّ التنظيم بتحرير أولادهن وأزواجهن من داخل السجن المركزي لداعش في منطقة الرقة السورية. كان ذلك في عام 2013. والمرة الثانية التي اعتُقِل فيها ولم يعد إلينا عندما كان يصوّر التحرّكات العسكرية بين قوات الجيش الحر وداعش، إذ اعتُقِل آنذاك وبدأنا نبحث عنه في سجون مختلفة فور تحرير المنطقة من سطوة التنظيم، فصارت لديّ فرصة الدخول إلى سجون داعش والمناطق التي كان يسيطر عليها، على أمل أن أجد ما يدلّ على مكان أخي أو أي دليل على مصيره".
في كل مكان كان يدخله عامر مطر وأفراد عائلته أو أصدقاؤه، كان يرى الأسماء على الجدران ومعلومات، إضافة إلى أعداد هائلة من الأوراق المتروكة في المقرات الأمنية والسجون، يحمل بعضها، كما يقول مطر، الآلاف من أسماء السجناء، الأمر الذي قاده إلى الشعور بالمسؤولية للبحث عن آخرين ومساعدة أهاليهم لمعرفة مصير أولادهم وأزواجهم المفقودين.
من داخل المعرض في مقر اليونسكو بباريس، يشرح عامر مطر للزائرين عن التقنيات المستخدمة. هنا، شاشة ذكية تمنح الزائرين فرصة التجول افتراضياً داخل المباني التي كان "داعش" يتخذّها مقراً لها.
يضيف مطر: "شعرت حينها أنني يجب أن أتعامل مع تلك الوثائق والدلائل التي أعثر عليها يومياً، بحساسية ومسؤولية عالية، صحيح أن تلك الوثائق لم تكن تحمل اسم أخي، لكنها تُخبّر عن آلاف المفقودين غيره، ومن هنا بلّشت القصّة - أن نجمع تلك البيانات ونصمّمها في قواعد معلومات لمساعدة الأهالي في الوصول إلى أحبتهم المفقودين".
ويعمل مطر هو وفريقه على إطلاق منصة "جواب"، بداخل موقع "متحف سجون داعش"، تُمكّن أي شخص من البحث عن أي مختفٍ/ية، لمساعدة عائلات المختطفين في الوصول إلى معلومات عن ذويهم بناء على الأسماء التي تم تجميعها طوال فترة التوثيق من سجون داعش وأماكن احتجازه . وقد وثّق الفريق المعلومات من أكثر من 100 سجن لـ"داعش" في سوريا والعراق، بمساعدة فريق من الصحافيين الاستقصائيين والمصوّرين والقانونيّين والمعماريّين والفنانين وصنّاع الأفلام وخبراء التصميم الثلاثي الأبعاد والمترجمين والباحثين الميدانيّين، تجاوز عددهم 100، ناهيك بشهادات الناس المحليّين، في محاولة للكشف عن مصير المُغيّبين، ودعم ملفات تحقيق العدالة.
من الوثائق التي عثر عليها الفريق خلال مسيرة بحثه عن الأدلة، مستندات مكتوبة وتسجيلات صوتيّة وفيديوهات، ومقتنيات شخصيّة لمعتقلين سابقين وعناصر من التنظيم، إضافة إلى حواسيب وأقراص تخزين الذاكرة، تعامل معها الفريق بكل حذر ودقة، ليقوم في ما بعد بتسجيلها إلكترونياً، وحفظ نسخها بعد تبويبها وإدخال المعلومات التي حصلوا عليها في قواعد البيانات، واستثمارها في سلسلة من عمليّات التحليل المُعمّق.
أحد زائري المعرض وهو يشاهد المباني التي وثّقها فريق "متحف سجون داعش"، وعرضها هنا في باريس، مقر اليونسكو.
ليست السجون وحدها وثّقها فريق متحف سجون داعش، بل وثّق أيضاً المقابر الجماعية التي هي بشكل أو بآخر مرتبطة بالسجون أو تدلّ على خريطتها. كما تم توثيق عدد من القرى والمباني التي استغلها "داعش" في تنفيذ جرائمه وجعلها مسرحاً لعملياته ضد المدنيين.
"متحف سجون داعش" ومعرضه الأول
وقد سلّط المعرض الأول للمتحف في باريس، والذي ينتهي يوم الخميس 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، من خلال شهادات الناس والوثائق التي تم جمعها من بداية رحلته التوثيقية عام 2017، الضوء على ثلاثة أبنية في مدينة الموصل، وهي كنيسة السريان، وجامع النوري الكبير، ومنزل لعائلة يقع في منطقة الميدان في الجانب الأيمن من المدينة، قام التنظيم بتحويله إلى سجن للاعتقال والتعذيب. ومن هنا جاء عنوان المعرض "ثلاثة جدران… حكاية المكان في الموصل القديمة"، فكل جدار يرمز إلى مكان من تلك الأماكن الثلاثة. أما عن أبرز أهداف المتحف الرقمي التفاعلي، فهو محاولة الكشف عن مصير المغيّبين على يد التنظيم، وتكريم الضحايا ودعم جهود تحقيق العدالة، وذلك من خلال توثيق جرائم داعش، وبلورتها على شكل معارض تفاعلية وجولات افتراضية متاحة "أونلاين" للجميع بداخل الموقع الإلكتروني للمعرض.
"كل السجون في زمن داعش، كانت عبارة عن بيوت الأهالي، أو مستشفيات، أو مدارس أو مقرّات حكومية. لذا، بدأنا رحلة التوثيق لتلك السجون، من خلال استخدام تقنيات مختلفة. وعندما انطلقنا في مرحلة التوثيق الميداني، رأينا أن عدداً من هذه السجون بدأت ملامحه تختفي، وأن كل مبنى يعتبر وثيقة لأن فيه جدراناً وأسماء وحكايات، ومن هنا بدأنا نفكر في أفضل طريقة، واستقررنا على طريقة المسح الكامل للجدران والمباني والتصوير بتقنية ثلاثية الأبعاد. هذا كان الجزء الأول من المشروع"، يضيف مطر.
مؤسس ومدير المتحف لرصيف22: بدأنا نفهم ديكور المنازل وشكل البيت وكيف تم فرشه، فبيوت العائلة الموصليّة تختلف عمّا في سوريا بتفاصيلها، وكان يعرّفنا الشهود أو السجناء الذين نجوا من داعش، على المكان ومكان النوم للسجناء، ومكتب التحقيق، وغرف التعذيب، وهل كانت هناك خزانة، ما لونها… كنّا نحاول معرفة كل تفصيل بسيط لكنه يساعدنا بشكل كبير على إعادة بناء المنزل افتراضياً من جديد
ويواصل: "الجزء الثاني هو عملية تحليل المباني معمارياً، حتّى نستطيع معرفة كيف كان يُستخدم كل سجن، وكل غرفة منه، وما إلى ذلك. ومن هنا، ذهبنا إلى مرحلة إعادة بناء المباني بالواقع الافتراضي وإرجاعها كما كانت قبل الدمار، فهنا بدأنا نفهم ديكور المنازل وشكل البيت وكيف تم فرشه بالفراش، فبيوت العائلة الموصليّة تختلف عمّا في سوريا بتفاصيلها، وكان يعرّفنا الشهود أو السجناء الذين نجوا من داعش، على المكان ومكان النوم للسجناء، ومكتب التحقيق، وغرف التعذيب، وهل كانت هناك خزانة، ما لونها، كنّا نحاول معرفة وتصور كل تفصيلة بسيطة لكنها تساعدنا بشكل كبير على إعادة بناء المنزل افتراضياً من جديد".
استخدام تقنيات ثلاثية الأبعاد لخلق أجواء قريبة من الواقع من قبل زائري المعرض.
من مئات القصص والأدلة والرويات على لسان شهود العيان، وما وجده مطر وفريقه خلال رحلتهم التوثيقيّة، يذكر لرصيف22 عن أقسى ما وجده، وبقي أثره حاضراً حتّى اللحظة التي يتحدث فيها وهو يقف وسط قاعة العرض في مقر اليونسكو: "دخلنا إلى أحد المباني في منطقة الرقة بسوريا، نتفحّص جيداً ملامح السجن، الأبواب والشبابيك، والأدوات الموجودة، وجدنا كتابات لأسماء نساء على الجدران، قد يكون هذا مألوفاً في كثير من المباني التي دخلناها، لكن في هذا المكان تحديداً، كانت الصدمة الكبرى لنا هي مشاهدة رسومات لأطفال كانوا قيد الاعتقال داخل السجن، حيث تشير الأسماء على الجدران إلى أن السجن كان للنساء الأيزيديات، أما الرسومات وبعد تحليلها ودراستها مع الفريق الذي قضى أياماً في المكان، فهي لأطفال حاولوا عبرها تصوير رحلة قدومهم من العراق إلى سوريا… لقد رسموا سيارات عدة، وأطفالاً، ورجالاً عراة، هذا ما شاهده الأطفال ورسموه على الجدران".
أرشفة للذاكرة الإنسانية
أحد مؤسّسي مشروع "متحف سجون داعش"، عمرو خيطو، يقول لرصيف22: "الاختلاف بين مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية، اللتين كانتا تحت سيطرة داعش، قاد فريقنا للانتقال في عملية التوثيق من الرقة إلى سوريا، فلكل مدينة خاصية مختلفة، كما أن طريقة إدارة التنظيم لتلك السجون في الموصل كانت تختلف بشكل أو بآخر ع طريقته في الرقة".
ويضيف: "الدافع الأكبر والحافز الأهم لنا في هذا المشروع هو أننا نقوم بتوثيق فترة مظلمة مرّت على حياة الشعبين (في العراق وسوريا)، وأعتقد أن هذا مهم جداً لليونسكو في حفظ أرشيف الذاكرة الإنسانية والتاريخ الأسود الذي هو جزء من تلك الذاكرة".
"عندما كانت تمتلئ السجون بالناس، كان داعش يقوم بعمل سقف للسجن أو البالكونة في المنزل الذي اتخذه سجناً، لذلك، فإن بناء السجون في عالمنا كان من أسهل الأشياء التي تقوم بها تلك التنظيمات، وإدارة التنظيمات المتطرفة للسجون هي إدارة لحياتنا ولقمعنا"
سلسلة الأحداث التي يقوم بتصويرها فريق المتحف، هي أحداث وأفعال تنظيم داعش في المناطق التي تمركز بها، كما يشدّد خيطو، موضحاً أن "داعش لم يكن وحشاً جاء من السماء وابتلع المنطقة وسكانها، بل هو تشكيل فيه كثير من التفصيلات والتعقيدات والتركيبات التي أدت إلى أن يحتل تلك المناطق. تسليط الضوء على السجن في منطقة الميدان، وكان بالأساس منزلاً لعائلة موصلية، لما يحمله الفعل من رمزية حيث تعمّد التنظيم تحويل 'المنزل' إلى تهديد لحياتنا لأن أي منزل بات ممكناً أن يصبح سجناً، سواء من داعش أو جهات أخرى. عندما كانت تمتلئ السجون بالناس، كان داعش يبني سقفاً للسجن أو البالكونة في المنزل الذي اتخذه سجناً، لذلك، فإن بناء السجون في عالمنا كان من أسهل الأشياء التي تقوم بها تلك التنظيمات، وإدارة التنظيمات المتطرفة للسجون هي إدارة لحياتنا ولقمعنا".
عمرو خيطو، أحد مؤسّسي مشروع "متحف سجون داعش"، تظهر من خلفه جدارية معلومات عن المنزل الذي حوّله "داعش" إلى سجن.
"واحد من أهم التحديات التي واجهناها هو أن هناك خوفاً من طرح كلمة داعش. بمجرد قولها، يحاول الناس الهروب من الفكرة، لذلك، كان تحدياً كبيراً أن نقدم هذا المعرض في مكان يمثل الثقافة والعلوم والذاكرة الإنسانية، لكن شعرنا أن مقر اليونسكو يلبي فكرة المشروع، وهو تعريف الناس بأفعال داعش، من خلال المعرض الافتراضي الذي حضره زائرون من بلدان عدة، لا سيّما من العراق وسوريا، حيث كان سكان البلدين الأكثر تضرراً من ممارسات داعش الوحشية"، يختم خيطو.
ويستعد فريق "متحف سجون داعش" إلى إقامة المعرض في عدة مدن، ضمن جولة تهدف إلى تعريف أكبر عدد من الناس بما حلّ في الموصل والرقّة عندما كانتا تحت قبضة التنظيم. وقد أُعلن حتّى الآن عن إقامة معرضين مقبلين في برلين ولندن، إضافة إلى مدن أخرى لم يعلن عنها بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي