شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أنا وابني والوحش تحت السرير

أنا وابني والوحش تحت السرير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 10 نوفمبر 202409:18 ص

مش ع الهامش

على هامش الوقت، بين رضعةٍ وأخرى، أتربَّع على حافة السرير. أنظر إلى المرايا على الطرف الآخر من الغرفة، أتكوّر على نفسي وأشاهد المرأة الغريبة فيها: تتحرّك مثلي، تحمل صفاتي البشعة، لكنها ليست أنا.

كل شيء يبدو موجعاً، مريباً، مُخيفاً إلى درجة تدفعني لتأملها. يبدأ السرير بابتلاعها، ثم خطوة خطوة تختفي، حتى تصبح تحت السرير، حيث الوحش هناك في انتظارها. أشعر بها كيف تتآكل، تختنق، يعميها الضباب. يبدأ طفلي بالعودة إلى البكاء مجدداً. أسمع صراخها، لكنني أتجاهلها. أقرّر تركها علّها تنجو بنفسها.

"تأجيل انفجاري"

منذ ولادتي لطفلي، بدأت الوحوش التي ضغطت عليها بداخلي مسبقاً في العودة. في الماضي كانت تأتي تباعاً، أما الآن، فهي تهجم معاً. أعدت استعمال حيلة قديمة قرأتها في كتاب ما، ساعدتني على العيش حتى الآن، دون أن أمسك شراييني وأستبيح دمها. تلك الرغبة التي ما تركتني يوماً وحدي، استطعت السيطرة عليها بحيلة الوقت المناسب؛ أقوم بتأجيل انفجاري إلى وقتٍ أكون فيه وحدي. على قارعة الألم أتكئ، لا أحد يحاكمني أو يتلو عليه آيات خوفاً من الشرور. أبكي، أنحب حتى تخرج الوحوش مني بأقل الأضرار التي يخلّفها تقريع عقلي لجلدي.

"منذ ولادتي لطفلي، بدأت الوحوش التي ضغطت عليها بداخلي مسبقاً في العودة. في الماضي كانت تأتي تباعاً، أما الآن، فهي تهجم معاً"

لكن الأمر مختلف الآن. لا وقت للنحيب. لا وقت للمياه لتغمر جسدي، أو سوائل تغذي أملاح دموعي. لا وقت لي لأغمض عيني. لا رفاهية لي في مواجهة الكآبة ولا سلاح أملكه لخوض معركتي ضدها. كل ما أملكه هو طفل يبلغ من العمر شهرين وأيام ملامحها ليست واضحة، حيث تتداخل الأوقات، تغيب الخطوط الزمنية ويختفي الحدّ الفاصل بين الليل والنهار، ويزداد الأمر صعوبة عندما لا تكون بجانبكِ امرأة تساعدك على فهم الوقت، كما في حالتي؛ إذ أسكن بعيداً عن أهلي، وهربت منهم بعد أيام من ولادتي لطفلي؛ لأنني خفت أن يشعروا بثقل كآبتي.

"أعترف بالوحش تحت السرير"

قال لي طبيبي النفسي إن الحديث عن مشاعري مهم، وأن الكتابة سلاح جيّد لمحاربة الحزن، لكن الاكتئاب بعد ولادة طفلي كان من القوة بحيث جعلني أنسى كيف تكون الكتابة. لم أعد أجيد التعبير عن شيء واحد من مخاوفي ودواعي اضطرابي. كل ما يمكنني قوله يتوقف في حلقي ليشكل غصة لا تصدر صوتاً ولا تقول شيئاً. كل ما أفعله هو البكاء، حين تتاح لي دقائق من الوقت لوحدي أو مع شريكي. قال لي طبيبي إن الروتين مهم لأشعر بعادية الواقع، لكن أي واقع ذلك الذي لا تنام فيه ساعتين؟ قال لي الكثير، حاول مساعدتي على بعض الأدوية، لكن لا شيء يساعد نفسياً إذ لم يكن الواقع ملائماً.

استخدم هاتفي للترفيه عن عقلي، تظهر على الشاشة في بعض الأحيان الكثير من الميزات التي تظهر فيها الأمهات سعيدات، يقلن إنه رغم صعوبة الأمور، بعد فترة نكتشف جمال هذه المرحلة، ولكن أي جمال يمكن أن يتصوره العقل والمرء لا يلملم شتاته، ولا يستطيع حتى التفكير؟

لم يتحدث أحد عن أوجاع البطن بسبب الجلوس المستمر بجانب الطفل. لم يتحدث أحد عن أوجاع الظهر من كثرة الانحناء. عن الأحلام التي تختفي بسبب قلّة النوم. عن مخاوف أن تكون هذه حياتنا إلى الأبد، عن الخوف على كائن يقع على عاتقنا مسؤولية حياته، عن العذاب من كل نصيحة تشعرنا بنقصان قدرتنا على مراعاة طفلنا. ومع كل تصرف لا يلائم توقعات من حولنا، يزداد التوبيخ أكثر يوماً بعد يوم... كيف لنا أن نسكت على كل لوم؛ لأننا لا نفرح بحملنا لطفلنا كل ساعات اليوم؟ كيف، بعد كل ذلك العذاب والشقاء، لا يراعي أحد آلامنا؟

كيف لنا الصمت امتثالاً لما اتفق الجميع حول ما يجب أن تكون عليه الأمومة؟

"لم يتحدث أحد عن أوجاع البطن بسبب الجلوس المستمر بجانب الطفل. لم يتحدث أحد عن أوجاع الظهر من كثرة الانحناء. عن الأحلام التي تختفي بسبب قلّة النوم. عن مخاوف أن تكون هذه حياتنا إلى الأبد، عن الخوف على كائن يقع على عاتقنا مسؤولية حياته، عن العذاب من كل نصيحة تشعرنا بنقصان قدرتنا على مراعاة طفلنا"

ربما يكمن الجواب في خوفنا من أن نوصم بأننا أمهات غير جيدات، وغير ملائمات لحمل طفل، أو ربما كي لا يكبر طفلنا ويسمع هذه الجملة باستمرار: يبدو أن أمك لم تعتن بك جيداً.

أما أنا، فكلما نظرت إلى عيني طفلي، وجدت أنه يستحق الكثير. أولاً: أن أعترف بالوحش تحت السرير. أواجهه عندما أستطيع، وأبكي عندما لا أستطيع، وأتمتم لابني بأغانيٍ باسمِه حين أريد طمأنته.

أدرك حتى الساعة كيف أنه رغم أن الأمل في جعبتي قارب على الانتهاء إلا أنني أرفض الاستسلام لليأس الذي صار من أكبر المغريات، وذلك من أجل طفلي فقط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image