مدينة صغيرة بحجم كف اليد، كبيرة في تاريخها الذي يجمع كلاً من الطائفة اليهودية والطائفة المسلمة، عرباً وأمازيغ، لذا حملت تقاليدهم وعاداتهم وجمال عمرانهم. وهي بعيدة جداً عن الضوضاء، قريبة من الجمال والسكينة، مختبئة في سفح جبال الأطلس المتوسط والسهول المنوّعة وأشجار غابات الأرز الشامخة والمياه العذبة. سرعان ما يكتشف زوارها أنها ليست مجرد مدينة، بل روضة من رياض المغرب الجميلة وحوض من أحواضه الفاتنة. إنها صفرو، إحدى أقدم المدن المغربية.
موقعها
تقع مدينة صفرو على بعد 28 كلم، جنوب شرق مدينة فاس (وسط المغرب)، عند سفح الأطلس المتوسط على ارتفاع 850 متراً عن سطح البحر. تحدّها شمالاً جبال الريف، وجنوباً جبال الأطلس، وشرقاً مضيق تازة، وغرباً هضبة سايس، ويتوسطها "وادي أجاي" الذي يقسمها إلى نصفين.
يعود اسم صفرو إلى اللغة الأمازيغية، وهناك اختلاف في تفسيره، فهناك من يرجعها إلى كلمة "أصفراو"، وتعني المنطقة المقعرة، والبعض الآخر قسّم التسمية إلى كلمتين، الأولى "أص" وتعني المكان، والأخيرة "أفراو" وتعني الهاربين أو المختبئين
ما أن تطأ أقدامكم أرض هذه المدينة الساحرة، حتى تستقبلكم الطبيعة الخلابة والجمال والذوق الرفيع للصفرويين. أينما ولّيتم وجوهكم، هناك جبال أطلسية شامخة، وأشجار الأرز والكرز والزيتون الباسقة المترامية من هنا وهناك، وحدائق ظليلة ومياه وشلالات عذبة وافرة، ما جعلها تُلقّب بـ"حديقة المغرب" عند الفرنسين إبان الاستعمار الفرنسي، و"أورشيلم الصغيرة" عند اليهود الذين كانوا يشكّلون أغلبية سكان المدينة قبل الهجرة إلى الأراضي الفلسطينية، و"حبة حب الملوك" عند المغاربة.
شارل دوفوكو في صفرو
جمال مدينة صفرو ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لماضٍ عريق، حيث يصفها الراهب والرحالة المستكشف الفرنسي شارل دو فوكو، في كتابه "التعرف على المغرب 1883-1884"(Reconnaissance au Maroc)، قائلاً: "لا نكتشف المدينة إلا عند الوصول إلى أبوابها نظراً لكونها مخبأةً وسط الأشجار... إنها حدائق شاسعة وعجيبة ما رأيت مثلها إلا في المغرب. أشجار كبيرة متلبدة تنشر أوراقها الكثيفة فوق الأرض ظلّاً سميكاً وطراوةً عذبةً. في هذه الحدائق تحمل جميع الأغصان الفواكه، والسطح دائم الاخضرار، وتسيل فيها وتهمس بها ينابيع عديدة... تحيط بالمدينة أسوار كبيرة بيضاء. المدينة ذات مظهر نظيف وبشوش يستدعي مظهر النظافة السائدة في المدينة انتباه المرء عندما يتجول داخلها: لا نجد هذا المظهر في أي مدينة أخرى في المغرب. في صفرو كل شيء مزدهر ويشير إلى التقدم. لا وجود لأطلال ولا لخرائب ولا لبنايات مهجورة بل الكل مستغلّ ".
أصل التسمية
يعود اسم صفرو إلى اللغة الأمازيغية، وهناك اختلاف في تفسيره، فهناك من يرجعها إلى كلمة "أصفراو" وتعني المنطقة المقعرة، والبعض الآخر قسّم التسمية إلى كلمتين، الأولى "أص"، وتعني المكان، والأخيرة "أفراو" وتعني الهاربين أو المختبئين.
من جهته، يقول محمد كمال المريني، الناشط الثقافي والمدني والباحث في تاريخ صفرو، لرصيف22، إن اسم صفرو مأخوذ من "أصفرو" بضمّ الألف والتي تعني نبات القندول الأصفر. فيما ينسب البعض أصل الاسم إلى قبيلة "أهل صفرو"، وهي إحدى القبائل الأمازيغية اليهودية التي اعتنقت الإسلام، وكانت أول من استوطن في المنطقة.
تاريخ تأسيس مدينة صفرو "من مدينة صفرو إلى قرية فاس"
وكما اختلف المؤرخون والباحثون حول تفسير ومعنى ودلالة اسمها، فقد اختلفوا أيضاً حول تاريخ تأسيسها لعدم وجود نصوص تاريخية صريحة تؤكد أي فرضية، حيث يشير العديد من المؤرخين والباحثين إلى أن تاريخ تأسيس المدينة يعود إلى القرن السابع الميلادي، أي قبل مدينة فاس المغربية التي تأسست في القرن الثامن الميلادي، مستشهدين بالمقولة الشائعة عند الصفرويين للسلطان المولى إدريس الثاني (مؤسس مدينة فاس): "سأرحل من مدينة صفرو إلى قرية فاس"، كدليل وشهادة على عراقة وقدم مدينة صفرو أمام فاس.
وفي هذا الصدد يقول محمد كمال المريني، الناشط الثقافي والباحث في تاريخ صفرو، وصاحب كتاب "صفرو التي في خاطري": "لا يمكننا أن نتحدث عن تاريخ تأسيس مدينة صفرو اعتماداً فقط على الرواية الشفوية، لأننا بشكل عام لا نتوفر على مصادر موثوقة لأننا عندما نتحدث عن التاريخ فإننا نتحدث عن العلم، علم الوثائق وعلم المواقع والدراسات الأركيولوجية".
عموماً، يمكننا أن نقول إن مدينة صفرو موجودة منذ القدم، أي منذ ما قبل دخول الإسلام والاستعمار الى المغرب، واعتماداً على بعض الدراسات الأركيولوجية التي أُجريت حول كهوف صفرو، ومنها "كهف المومن" و"كهف البكرة"، التي اتخذها سكان صفرو مسكناً لهم قبل أن تظهر أي نواة عمرانية على شكل قلعة. كما كشفت الدراسات أن الاستيطان في صفرو كان منذ القدم، أي قبل ظهور الديانات التوحيدية، بدليل وجود عدد من الأدوات داخل الكهوف التي كانت تُستخدم في العبادات الوثنية قبل دخول اليهودية والمسيحية والإسلام.
وحول الأسباب الرئيسية لقيام المدينة والاستقرار فيها، يضيف المريني: "حسب ما أورده الباشا البكاي في محاضرة ألقاها سنة 1950، لفائدة جمعية "أصدقاء فاس"، فإنه يتحدث عن وجود ساكنة المدينة، أي أهل صفرو، على امتداد وادي أجاي، من منابعه إلى حدود التقائه بواد سبو، وهذا يعني أن ناس صفرو كانوا متواجدين في مجموعات سكنية على ضفاف الوادي. فوفرة الثروة المائية وشكل المدينة المقعر الذي هو بداية السهول الموجودة على الدير الأطلسي الغني بالثروات الطبيعية، من العوامل الأساسية التي دفعت الإنسان إلى الاستقرار فيها".
موطن وعاصمة حبّ الملوك "الكرز"
ينعت الصفرويون مدينتهم بأنها جنّة "حبّ الملوك" المنزلة على الأرض، حيث تكتسب هذه الفاكهة أهميةً خاصةً لدى معظم الصفرويين، وتُعدّ رمزاً من رموز المدينة ما جعلها تحرز لقب عاصمة "حبّ الملوك"، إذ تشهد مع بداية كل فصل صيف تنظيم مهرجان "حبّ الملوك"، أو "الفيشطة دي حب الملوك"، كما ينعته الصفرويون بلهجتهم المحلية، احتفاءً بانطلاق موسم جني هذه الفاكهة وهو أقدم المهرجانات المغربية، تأسس سنة 1919، في فترة الحكم الفرنسي للمغرب، وأول من اقترح تنظيمه هو الحاكم الفرنسي بيير سوغان، الذي أخذ الفكرة عن مهرجان الكرز الذي يقام في فرنسا في بلدة أولفي من مقاطعة تولوز الفرنسية. وقد صنّفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، سنة 2012، مهرجان "حب الملوك" تراثاً ثقافياً لا مادياً للإنسانية في المغرب.
تقول السيدة زهور (64 عاماً)، الصفروية، لرصيف22، حول تسمية فاكهة الكرز بـ"حبّ الملوك"، حسب رواية شفهية، إنه منذ ظهور هذه الفاكهة على سفح جبال الأطلس اشتهرت بكونها تعالج مرض النقرس، الذي كان يطلَق عليه بين السكان المحليين "الملوك"، حيث عُرف عنها أن لها فوائد صحيةً كثيرةً في علاج هذا الداء فسُمّيت "حبّات الكرز" بـ"حبّ الملوك".
عاصمة الأزرار الحريرية (العقاد)
لا تقتصر شهرة مدينة صفرو على كونها عاصمة فاكهة الكرز التي منحتها شهرةً عالميةً، إذ تشتهر أيضاً بكونها عاصمة حرفة الأزرار الحريرية المعروفة بـ"العقاد"، حتى ارتبط ذكرها بذكر المدينة التي تُعدّ موطناً لهذه الصناعة التقليدية النسائية المستخدمة في الملابس التقليدية المغربية (الجلباب، التكشيطة، القفطان). فبمجرد التجول في أزقة هذه المدينة سيشدّ انتباهنا حتماً تجمّع النساء الصفرويات أمام أبواب بيوتهنّ، حيث يشتغلن ويتنافسن في ما بينهنّ كخلية نحل، لإنتاج الأزرار الحريرية.
وحول تاريخ وجود هذه الحرفة التراثية، تصرّح أمينة يابس، رئيسة تعاونية "حب الملوك للأزرار الحريرية بصفرو"، لرصيف22، بأن حضور حرفة الأزرار الحريرية في صفرو قديم جداً، وارتبط ارتباطاً وثيقاً باليهود المغاربة فيها. ومع الاستعمار الفرنسي انتشرت هذه الحرفة في الأوساط السكنية المسلمة بشكل تضامني تعايشي بين المسلمين واليهود، الشيء الذي فتح المجال لفئات عريضة من النساء الصفرويات المسلمات للإقبال على تعلم فنون هذه الحرفة حتى أصبحت أهمّ ما يميز هذه المدينة عن غيرها من المدن. وإلى جانب الأزرار الحريرية، تحظى صفرو بشهرة وطنية في إنتاج وتصدير مادة الجير لغالبية المدن المغربية.
المعالم التاريخية
تزخر صفرو بالمعالم الأثرية التاريخية للحضارات المتنوعة التي تعاقبت عليها، والشاهدة على عمق تاريخها الضارب في جذور المملكة المغربية والتي تظهر ملامحه للزائر بمجرد الوصول إليها. وعن هذه المعالم، يقول محمد كمال المريني في حديثه إلينا: "تزخر المدينة بمجموعة من المعالم التاريخية، من بينها أسوار وأبواب المدينة التاريخية الأربع، أولها وأشهرها 'ساحة باب المقام' وباب ستي 'مسعودة'، و'باب بني مدرك'، و'باب المربع' بالإضافة إلى أبواب حديثة تتمثل في 'باب المجلس' و'باب غديوة' و'باب درب عمر' وهو أحدث الأبواب، إذ استُحدث سنة 1930 بقرار من جماعة صفرو".
ينعت الصفرويون مدينتهم بأنها جنّة "حبّ الملوك" (الكرز) المنزلة على الأرض، حيث تكتسب هذه الفاكهة أهميةً خاصةً لدى معظم الصفرويين وتُعدّ رمزاً من رموز المدينة ما جعلها تحرز لقب عاصمة "حبّ الملوك"
بالإضافة إلى أسوار وأبواب المدينة نجد "القلعة"، وهي من أقدم الأماكن التاريخية في المدينة، والتي شكلت أول نواة عمرانية فيها.
ومن بين مآثر صفرو أيضاً حسب المريني، نجد كهف المومن أو كهف اليهودي كما كان يُعرف قديماً، والذي يُعدّ من أقدم الأماكن التعبدية المقدسة لدى المنتسبين إلى الطوائف الدينية التي عاشت في صفرو، بالإضافة إلى المساجد القديمة والتي تعود إلى عصر الدولة المرينية وأهمها المسجد الكبير الذي أشار إليه الحسن الوزان الفاسي (ليون الإفريقي)، في كتابه "وصف إفريقيا"، وقد تم توسيعه في عهد السلطان مولاي سليمان العلوي.
ومما قد يلفت انتباه الزوار أيضاً، ويشاهَد في صفرو، هو جزؤها العتيق المعروف بتنوع أشكاله المعمارية، فهناك منازل ذات طابع ريفي مستوحاة من سكان الجنوب والأطلس المتوسط، وتتميز هذه المنازل بكونها مبنيةً بالتراب أو الحجارة، وهناك منازل ذات طابع مغربي أندلسي تعود إلى بعض الموريسكيين الذين طُردوا من الأندلس بعد سقوطها واستقرّوا في صفرو، ومن بين المنازل الكبيرة المنتمية إلى هذا المعمار نجد رياض القايد عمر، الذي كان في صفرو أواخر القرن 19 وقُتل سنة 1904، حسب محمد كمال المريني. وتتخذ جماعة صفرو رياض القايد عمر كمقرّ لها. ونجد أيضاً منازل ذات طابع معماري يهودي موجودة في حي الملاح الذي كان يؤوي عدداً كبيراً من اليهود.
الطبيعة الساحرة والهدوء التام
ولـ"صفرو" سحر خاص في جمالها الطبيعي الخلاب الذي يمتزج فيه عبق التاريخ ببهاء الجغرافيا، والتي تخطف الأبصار من الوهلة الأولى وتجعل الزائر ينعم بمتعة البيئة النقية، فهي ملاذ لكل الباحثين عن الصفاء والسكينة، نظراً إلى ما تزخر به من مناظر طبيعية رائعة وتنوع بيولوجي فريد.
يقول عبد الحق غاندي، رئيس الائتلاف المحلي من أجل البيئة والتنمية المستدامة في صفرو، في تصريحه لرصيف22، حول ما تزخر به صفرو من مؤهلات طبيعية: "تتميز صفرو بتنوع طبيعتها حيث يقع فيها جزء مهم من سلسلة جبال بويبلان المكسوة بالثلج على مدار أغلب فصول السنة، ناهيك عن ثروة مائية جوفية وسطحية ترجع إلى وادي أجاي ذي الصبيب الدائم".
ومن أهم المتنفسات الطبيعية لصفرو، نجد شلال صفرو الصافي، والمتدفق من وادي أجاي، والمنحدر من أعلى قمة الجبل والمحيط بالجبال والأشجار الباسقة والمغارات والكهوف، فهو قبلة الباحثين عن برودة الأجواء خلال فصل الصيف.
ولا يمكننا أن نفصل مدينة صفرو عن القرى والأرياف المجاورة لها، والتي تدخل ضمن مجالها الإقليمي، وتمثّل رئةً ثانيةً للمدينة كصنهاجة وعزابة والبهاليل وموجو وبني يازغة، فهي امتداد لجمال المدينة الطبيعي والتاريخي، إذ تشتهر هذه الأرياف بزراعة الفواكه كالكرز والتفاح والإجاص والحبوب والخضروات وإنتاج زيت الزيتون والخروب ناهيك عن الغابات المحيطة بها والتي تضم أشجار الأرز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 11 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 14 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ يومحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.