التاريخ يعيد نفسه. الواقع المؤلم يعيد نفسه. أين العدل في ذلك؟ اليوم، وبعد أربعين عاماً من اجتياح إسرائيل للبنان، تجمعنا أنا وأمي الآلام نفسها.
دفعتني واحدة من أمسيات الحرب القاسية إلى استجرار أمي لحديث طال جداً عن الحرب. "أمي، كيف كان الاجتياح؟"، سألتها بصوت مليء بالفضول والغضب، فأنا لم أكن موجودة حينها، لكنني أعيش الأمر نفسه الآن. كنت أعلم أن الجواب سيكون مزيجاً من الذكريات الأليمة والصلابة التي شكّلت روحها على مر السنين، ومع ذلك، أردت الغوص أكثر في التفاصيل. نبش الذاكرة في بلداننا ليس أمراً مستغرباً، بل إنه جزء من يومياتنا.
نظرت إليّ بنظرة حملت في طياتها كل معاني الألم والحسرة، كما لو أن ذاكرة تلك السنوات قد قفزت أمام عينيها للحظة. "الاجتياح؟"، أجابت بنبرة هادئة رغم ثقل الحديث. "كان الوقت صعباً، طائرات تقصف وصواريخ تسقط، والسماء دائماً مضطربة"، تابعت. حماسها الشديد في كل مرة أسألها عن الحرب، لافت. أراها تحب الحديث عما جرى خلال الحرب، علّها بذلك ترتّب أحداثها في ذهنها كمحاولة لمعالجتها وطيّها.
دفعتني واحدة من أمسيات الحرب القاسية إلى استجرار أمي لحديث طال جداً عن الحرب. "أمي، كيف كان الاجتياح؟"، سألتها بصوت مليء بالفضول والغضب، فأنا لم أكن موجودة حينها، لكنني أعيش الأمر نفسه الآن. كنت أعلم أن الجواب سيكون مزيجاً من الذكريات الأليمة والصلابة
مع بث القصف المباشر على منازلنا، جلست بجانبها، أبحث في ملامحها عن أثر تلك الأيام، عن القوة التي مكنتها من تخطي ما لا يُنسى. "كيف تحملتم؟ كيف كنتم تعيشون؟"، سألتها وكأنني أحاول فهم كيف يمكن لإنسان أن يصمد أمام آلة الحرب الإسرائيلية التي لا تعرف الرحمة. سألتها علّني أجد الطريق إلى السكينة التي تلهمنا خلال القصف.
"كنا نعيش يوماً بيوم. الخوف كان حاضراً دائماً، لكنك تتعودين، تخلقين طرقاً للاستمرار. كان هناك إيمان بأن هذه الأرض لنا، وأننا لن نتركها مهما حدث"، تذكّرت أمي تفاصيل كثيرة، تحدثت عن الناس الذين لجأوا إلى الملاجئ وعن أصوات الصواريخ التي لم تتوقف، وعن اللحظات التي كانت فيها بين الحياة والموت.
أمي، التي عايشت كل حروب إسرائيل على لبنان، كانت تتحدث وكأنها تشاهد شريطاً لا نهاية له من العنف. وبين الاجتياح، وعناقيد الغضب، وحرب تموز، والآن حرب أيلول 2024، حيث كانت لي حصة وفيرة. جيل بعد جيل، نرى ونشهد آلة الحرب نفسها، الوحشية نفسها، وكأن الزمن يعيد نفسه، وكأن التاريخ يأبى أن ينتهي.
بين عامي 1982 و2024... ذاكرة جماعية مشوهة
حين سألت أمي عن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، لم تروِ لي مجرد أحداث معروفة، بل غاصت في تفاصيل صغيرة حملتها معها كل تلك السنين، وكأنها تعيشها الآن. تحدثت عن أحد الأيام في صيف ذلك العام، حين كانت تتجوّل في شارع الحمرا في بيروت، المدينة التي أصبحت مهجورة كأنها مدينة أشباح. "كنا نسمع الطائرات تحلق فوقنا، وكأنها تراقب كل حركة. كنا نخشى أن نكون أهدافاً، مجرد أجساد تنتظر قذيفة أو رصاصة خاطئة".
تذكرت حادثة روتها لي عن يوم كانت تسير فيه مع جارتها، وفي اللحظة التي مروا فيها بجانب مبنى، سقطت قذيفة على الشارع المجاور. "رأينا الدخان والنار في الهواء، وكنا لا نزال في حالة صدمة. تفرقنا، أنا ذهبت يميناً وهي يساراً، وكأن القدر اختار من سيبقى ومن سيرحل".
ثم تحدثت عن ملجأ في بيروت، في منطقة قريبة من مستشفى، حيث كان الناس يتجمعون ليهربوا من القصف. "كانت تلك الملاجئ ممتلئة بالناس، وبالغبار والرطوبة، ولكنها كانت مكاناً نشعر فيه بنوع من الأمان النسبي. كنا نستمع للأخبار عبر الراديو، وكل خبر كان يحمل معه رعباً جديداً، مجزرة أو قصفاً جديداً".
أمي، التي عايشت كل حروب إسرائيل على لبنان، كانت تتحدث وكأنها تشاهد شريطاً لا نهاية له من العنف. وبين الاجتياح، وعناقيد الغضب، وحرب تموز، والآن حرب أيلول 2024، إذ كانت لي حصة وفيرة. جيلاً بعد جيل، نرى ونشهد آلة الحرب نفسها، الوحشية نفسها، وكأن الزمن يعيد نفسه، وكأن التاريخ يأبى أن ينتهي
أما اليوم، خلال عدوان أيلول/ سبتمبر 2024، فالأحداث لا تقل سوداوية، رغم أن الزمن قد تغيّر. جلست معها ونحن نسمع أصوات القصف التي عادت تملأ الأجواء. السماء ذاتها تلبدت من جديد، ولكن هذه المرة، الشاشات والتكنولوجيا حملت لنا الحرب بشكل مختلف. أذكر يوماً قبل أيام قليلة، حين كنا نشاهد الأخبار على التلفاز، ورأينا حياً كاملاً في الجنوب يتحول إلى حطام في ثوانٍ. حي في قريتي، ميس الجبل. أمي نظرت إلى الشاشة بحزن وألم، وقالت: "كان هذا حالنا. لكن اليوم، ترين الحرب وكأنها مشهد لا ينتهي".
ثم أخبرتني عن قصة جارتنا التي كانت تعيش في الجنوب، والتي فقدت بيتها بالكامل في الاجتياح الأخير. "كنا قد ذهبنا لزيارتها قبل شهرين، والآن، كل شيء تبخر. البيت، الذكريات، كل ما كانت قد بنته طوال حياتها، ذهب في لحظة".
كما أنني، في هذه الحرب، عشت لحظاتٍ مشابهة لتلك التي عاشتها أمي. أتذكر عندما كنت أقود سيارتي في بيروت في اليوم الثاني من القصف، أصوات الانفجارات في الأفق جعلتني أتوقف للحظة، أفكر في احتمال أن يحدث لي ما حدث لأمي قبل عقود. "هل يمكن أن يتكرر التاريخ؟" سألت نفسي وأنا أسمع دوي صاروخ قريب.
الفرق بيننا اليوم وأيام أمي هو أن الحرب باتت تُبث على الشاشات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مستمر. رأينا مشاهد الدمار على هواتفنا، صور البيوت المدمرة والفزع في عيون الأطفال. لا يمر يوم دون أن نتلقى رسالة أو صورة تذكرنا بحجم المأساة.
السوشال ميديا والحرب... أين كنا وأين أصبحنا؟
خلال هذه الأمسية الغريبة التي استرجعنا خلالها تفاصيل عالقة في الذهن، استعرضنا عوالم مختلفة من الحروب، اليوم، وآنذاك، حيث لم تكن السوشال ميديا موجودة، وكان للمعلومات والقصص طريقٌ آخر للوصول إلينا.
كان لدي فضول كبير تجاه أخبار ذلك الزمن. كيف كان المرء يرسم خريطة الأحداث ويتتبع مسارات مستقبله حينها؟ "الأخبار في زمن الحرب كانت تأتي من الناس أنفسهم، من الراديو، وربما من بضع ساعات تلفزيونية متاحة. الناجون والمهجَّرون هم من كانوا يروون لنا ما يحدث"، تقول والدتي، مقارنةً مع عصر السوشال ميديا الحالي الذي ينقل الأخبار بشكل فوري يجعل القلق أكبر والخوف أسرع. "في ذلك الوقت، إذا كان حدثٌ ما بعيداً عنا، لم نكن نعرف عنه. كنا نسمع الخبر فقط حين ينتهي. أما الآن، فنحن نعيشه لحظة بلحظة".
نبش الذاكرة في بلداننا ليس أمراً مستغرباً، بل إنه جزء من يومياتنا.
"لم يكن هناك دمار شامل كما يحدث اليوم"، تقول. "الملجأ كان بالنسبة لنا ملاذاً آمناً، على عكس اليوم، إذ لا أمان حقيقي". في الماضي، كان المذيع شريف الأخوي عبر إذاعة لبنان هو من يحدد الطرقات السالكة والمسكرة، وكانت الناس تستمع بقلق. كنا نتابع الاجتياح من الملجأ، نضع الراديو بين أيدينا، ونسترق الأخبار، نعيش أشهراً طويلة من الترقب والتوتر.
تشابه الأحداث و"الرعب"
عادت والدتي لتستذكر كيف كانت الأحداث تكرر نفسها: "أُجبِر النواب على انتخاب رئيس للجمهورية رغماً عنهم. لم يتمكنوا من مواجهة أوامر الدبابات الإسرائيلية." يذكر أن المساعي الدولية الآن لا تنفك عن الضغط باتجاه انتخاب رئيس "مناسب" للجمهورية اللبنانية.
ومن أصعب ما تحمله الذاكرة، كانت مجزرة صبرا وشاتيلا. "روايات مرعبة قصها على مسمعنا الناجون"، تتذكر أمي ما حدث بانفعال: "الإسرائيليون كانوا في شوارع بيروت، بين الناس، كنا نشعر برعبٍ حقيقي لا يوصف، والمدمرة الأمريكية نيوجيرسي كانت في البحر تقصف، وكنا نسمع صدى قذائفها في البيوت". تخيّل أنك عالق في المنزل، تنتظر دورك من البطش، ولا وصول كافٍ للمعلومات يطمئن القلب.
أحد الأيام العالقة في ذهنها يوم انتفاضة 6 شباط، حين اندلعت احتجاجات ضد اتفاق السلام مع إسرائيل. تروي والدتي: "كنت في العمل حينها، عالقة بسبب القصف، ولم أتمكن من العودة إلى المنزل. كان الراديو وسيلتي الوحيدة لأطمئن أهلي. أتذكر مكالمة قمت بها حينها، قلت فيها: مرحبا، أنا فلانة، أطمئن أهلي أنني بخير، لكن لا أستطيع مغادرة العمل بسبب القصف".
في حين كانت يومياتنا تعتمد على الراديو والأخبار المتداولة بين الناس، أصبحت اليوم مواقع التواصل الاجتماعي ساحة الأخبار المباشرة، مصطحبة معها توتر وهلع فوري. ربما كان غياب المعلومة في زمنٍ ما مؤلماً، لكن حضورها الحي اليوم يزيده ألماً مستمراً. هل كان غياب المعلومة مؤلماً؟ أم أن توفرها بهذه السرعة الآن يجعلنا نعيش وجعها في كل لحظة؟ هل نفضل أن نموت مباغتةً أم أن نستشعر الخطر مسبقاً؟
في هذه الحرب، عشت لحظاتٍ مشابهة لتلك التي عاشتها أمي. أتذكر عندما كنت أقود سيارتي في بيروت في اليوم الثاني من القصف، أصوات الانفجارات في الأفق جعلتني أتوقف للحظة، أفكر في احتمال أن يحدث لي ما حدث لأمي قبل عقود
الحرب تُعَلِم الصبر، لكنها تسرق منك الكثير
ملأ قلبي القيح من فرط ما سمعت ومن هول ما رأيت. حتى أنني سألتها هل ندمت على الإنجاب في بلد كبلدنا. "بتقولي يا ريتني ما خلفت وورثت ولادي نفس المصير؟". أسأل، فترتبك. أعتقد أنها حارت بين خيار الاستمرار، وحتمية الأقدار في المقابل.
ثمة معلومات لا بد أنها تغيب عن أذهان الآباء بشكل عام، وإلا لاختلفت القرارات وتحولت المسارات. تشير الدراسات إلى أن الصدمات النفسية يمكن أن تُحدث تغييرات في التعبير الجيني تُعرف بـ"الوراثة اللاجينية" (epigenetics)، وتنتقل هذه التغييرات عبر الأجيال. هذه التعديلات لا تغير من تركيبة الحمض النووي نفسه، لكنها تؤثر على كيفية تفعيل الجينات أو تعطيلها، مما ينعكس على استجابات الجسم والنفسية للأحفاد.
على سبيل المثال، أظهرت دراسات على الناجين من الحروب ومن عاشوا مجاعات كبرى أن جينات الأبناء قد تحمل آثار الصدمة، مثل زيادة القلق أو القابلية للإصابة بأمراض نفسية، مما يُعد دليلاً على أن الصدمات يمكنها أن تترك بصمتها الجينية عبر الأجيال، رغم عدم تغيير التركيب الجيني الأساسي.
بدوري، أخاف أن أمرر كرة النار لأبنائي إن أنجبت. ولكني أيضاً محبة لتلك البلاد، ومؤمنة بها. أعلم أن هذا كله يبدو سريالياً، لكنه حالنا جيلاً بعد جيل. ثمة رابطٍ غريب يجمع بيني وبين أمي، وبين كل الأجيال التي شهدت الألم نفسه والحرب نفسها. الحرب ليست فقط دماراً، هي أيضاً قصة عن البقاء، عن الحب العميق للأرض، وعن أمل لا يموت.
سنظل هنا، نقولها بحزم. أجيالاً بعد أجيال، شاهدون، ولن نسمح لهم أن يمحوا ذاكرتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاتربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي