شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"الحرب لم تقتلنا، لكنها قتلت فينا الحياة"... كيف تترك الحروب آثارها النفسية على الناجين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 15 أكتوبر 202410:51 ص

في عالم معاصر مفعم بالصراعات، أصبحت الحروب الممتدة والنزاعات المسلحة واقعاً مأسوياً يؤثر على حياة الملايين، خاصة في المنطقة العربية. في ظل هذا الخراب، تتجلى مشاهد مؤلمة؛ أسر محطمة، أطفال يركضون في شوارع مليئة بالدمار، ونساء يحملن أعباء نفسية ثقيلة، بينما تظل وسائل الإعلام تركز على الدمار المادي والخسائر البشرية. ولكن ما هي التكاليف الخفية وراء هذه الصور؟

قصة ابتهال، المرأة اليمنية التي عانت من ويلات الحرب والنزوح، يبرز الأبعاد النفسية لهذه الأزمات، كما يكشف عن واقع الصحافيين الذين يسعون لتوثيق هذه المعاناة المروعة ونقلها للعالم.

رحلة ابتهال من رصاص الحرب إلى غموض المنفى

"الحرب لم تقتلنا، لكنها قتلت فينا الحياة"، هكذا تروي ابتهال (35 عاماً) حديثها، وهي تروي قصتها المؤلمة كأم لثلاثة أطفال وزوجة كانت تعيش في مدينة عدن اليمنية. كانت حياتها بسيطة، مليئة بالأمل بمستقبل أفضل لأطفالها. لكن الحرب جاءت لتدمر كل شيء، حسبما تقول، متابعةً "أصبحنا نعيش في خوف دائم. كنا نخاف أن نموت في أي لحظة، أو أن يفقد أحد منّا حياته بسبب القذائف أو الرصاص".

ابتهال كانت تعمل كصحافية تغطي النزاعات في اليمن، حيث كانت حياتها مهددة بشكل دائم. في إحدى المرات، تعرّضت لحادث خطير عندما تم استهدافها من قبل إحدى الجهات المتنازعة آنذاك بواسطة جرافة للأشجار أثناء تغطيتها لأحد الأحداث. تقول: "تخيل أنك في عملك المعتاد، ثم فجأة تجد نفسك مغطّى بالتراب والكدمات، وكأنك في قبر مفتوح، لا تعرف إن كنت ستعيش أم تموت. شعرت أن الموت قريب". على الرغم من إنقاذها، لم ينتهِ "الكابوس" بالنسبة لها، حيث تضيف: "حتّى بعد نجاتي، تركوني بين الحياة والموت".

"الحرب لم تقتلنا، لكنها قتلت فينا الحياة… أصبحنا نعيش في خوف دائم. كنا نخاف أن نموت في أي لحظة، أو أن يفقد أحد منّا حياته بسبب القذائف أو الرصاص"، هكذا تروي اليمنية ابتهال (35 عاماً) قصتها المؤلمة كصحافية وأم لثلاثة أطفال وزوجة في ظل الحرب الدائرة في بلدها

بعد هذا الحادث، نُقلت ابتهال إلى الهند للعلاج، إذ كانت إصابتها خطيرة لدرجة أنها لم تستطع العودة إلى اليمن. أمضت سنوات في رحلة طويلة من العلاج الجسدي والنفسي في الهند. "كنت جسدياً في الهند، لكن روحي ظلّت معلّقة بين خوف من الماضي وقلق من المستقبل. كل لحظة أعيشها كنت أخشى أن يأتي أحد لينهي حياتي أو حياة أطفالي".

مع انتهاء فترة العلاج الجسدي، ظهرت تحديات نفسية أعمق. تشرح: "لم تكن المشكلة في الشفاء الجسدي فقط، بل في الآثار النفسية التي تركتها الحرب في داخلي وداخل أطفالي. لم يعد بإمكاننا النوم بسلام. كنا نستيقظ على كوابيس الحرب والدمار". حتّى بعد أن نزحت إلى مصر، بعد سنوات في الهند، لم تجد ابتهال الاستقرار الذي كانت تأمل فيه.

"النزوح لم يكن حلاً، بل كان بداية جديدة لمعاناة نفسية أخرى. التحديات بدأت من أول يوم وصلنا فيه. كيف سنعيش؟ أين سنسكن؟ كيف سنؤمّن مستقبل أطفالنا؟ كل هذه الأسئلة كانت تؤرقني". العيش في بلد غريب دون أمان مالي أو اجتماعي زاد من شعور ابتهال بالضياع. كانت تكاليف تجديد الإقامة في مصر عبئاً لا يُحتمل. "كل مرة نجدد الإقامة، ندفع مبالغ طائلة. القوانين تتغير باستمرار، والعيش في ظل هذه التغييرات يولد توتراً دائماً".

أما أطفالها، فلم يكونوا بمنأى عن هذه التأثيرات النفسية. "أطفالي عاشوا في قلق دائم. كانوا يخافون أن يُقتل أحد والديهم. حتى بعد أن نزحنا، لم يتخلّصوا من هذا الخوف. كل صوت عالٍ يجعلهم يقفزون من مكانهم، كما لو أن الحرب لم تنتهِ أبداً"، تحكي.

لم يكن التعليم بمنأى عن هذه المأساة. ابتهال تروي بحزن: "ابني الأكبر، أنهى الثانوية بمعدل ممتاز، لكنه لم يستطع دخول الجامعة بسبب التكاليف الباهظة. كنا بحاجة إلى ما بين 3000 إلى 7000 دولار سنوياً، وهو مبلغ لا يمكننا تحمله". أما ابنها الأصغر، الذي وُلد خارج اليمن ولم يعرفه كما كان من قبل، فكان يواجه صعوبة في التكيّف في المدارس العربية. "لم يتعلم اللغة العربية جيداً، وكأنه ينتمي إلى عالمين مختلفين لا يستطيع الانتماء إلى أي منهما".

ورغم كل هذا، لم يكن هناك دعم نفسي متاح. "لا توجد أي رعاية نفسية. نحن نحاول أن ندعم بعضنا البعض، لكن هذا ليس كافياً. نشعر بأننا تُركنا لوحدنا نواجه هذه الندوب التي خلفتها الحرب".

ابتهال، رغم كل شيء، ظلت متمسكة ببصيص من الأمل في أن تتغير الأحوال. "نتمنى أن يعود البلد كما كان، أو على الأقل أن يزول الخطر. لكني أعرف أن الأمل ضئيل. لا شيء يعود كما كان بعد الحروب. قد يتحسّن الوضع، لكن الجروح النفسية لن تلتئم بسهولة".

تختم ابتهال قصتها بسؤال يعكس قلقها العميق: "هل سيكون هناك يوم نستطيع فيه أن نعيش حياة 'طبيعية' مجدداً؟ في ظل الحروب والصراعات، لا يمكننا معرفة ما يخبئه الغد".

أثر الحروب على الصحة النفسية... صراع طويل بعد انتهاء المعارك

تترك الحروب أثراً عميقاً على الصحة النفسية للناجين/ات، ما يعوق عودتهم/ن إلى الحياة العادية. النساء والأطفال والشيوخ غالباً ما يعانون من مشاكل نفسية طويلة الأمد.

يشير أستاذ الطب النفسي بجامعة إدنبرة، ستيفن لوري، إلى أن "الطب النفسي بعد الحرب العالمية الثانية ركّز على فهم الإنسان والحفاظ على الصحة العقلية". ويضيف له الدكتور خالد سعيد، المستشار الإقليمي بمنظمة الصحة العالمية، أن "واحداً من كل ثمانية أشخاص يعاني اضطراباً عقلياً"، مع ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية في مناطق النزاعات.

ومن أبرز هذه المشاكل النفسية "اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)"، أو "صدمة القذيفة" أو "التعب القتالي" الذي يتجلّى في الاسترجاع المستمر للأحداث المؤلمة، والكوابيس المتكررة، والصعوبة في التكيف مع الحياة اليومية. البروفيسور نيل غرينبيرج، رئيس قسم الصحة العقلية للعسكريّين والمحاربين القدامى، يقول إن "أفراد القوات المسلحة معرضون لخطر مشاكل الصحة العقلية نتيجة خدمتهم العسكرية".

ووفقاً للكلية الملكية للأطباء النفسيين، تبدأ أعراض اضطراب ما بعد الصدمة عادةً بعد الحدث الصادم أو في غضون أشهر، وترافقها مشكلات نفسية مثل نوبات الهلع والاكتئاب، وقد تتطور في بعض الحالات إلى أفكار انتحارية.

أعباء نفسية... الأطفال والنساء كأكثر الفئات تضرراً

"إن عبء الاضطرابات النفسية في أوساط السكان المتضرّرين من النزاعات مرتفع للغاية"، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وقد أظهر استعراض للمنظمة، نُشر بتاريخ 16 آذار/ مارس 2022 على موقعها الرسمي لمجموع 129 دراسة في 39 بلداً، ووجدت أن واحداً من كل خمسة أشخاص (22%) ممن شهدوا حروباً أو نزاعات خلال العقد الماضي سيُصاب بالاكتئاب، أو القلق، أو اضطرابات أخرى.

تشير الظروف المعيشية الصعبة وفقدان الأمان إلى تفشّي الاكتئاب والقلق، خصوصاً بين الأطفال والشباب، حيث ذكرت الدكتورة إلين لوكهارت، رئيسة هيئة تدريس الأطفال والمراهقين في الكلية الملكية للأطباء النفسيين، "لقد شهدنا ارتفاعاً في عدد الأطفال والشباب الذين يعانون من القلق والأمراض العقلية الأخرى في السنوات الأخيرة".

وفقاً لاستعراض منظمة الصحة العالمية، يُقدّر معدل انتشار الاضطرابات النفسية بين المتضررين من النزاعات بنحو 13% للأشكال المعتدلة من الاكتئاب والقلق، ونحو 5% للأشكال الشديدة مثل الفُصام. وتزداد معدلات الاكتئاب والقلق مع تقدم العمر، ويشيع الاكتئاب لدى النساء أكثر من الرجال.

تشير الباحثة الاجتماعية سازان مصطفى إلى أن آثار الحرب لا تقتصر على الدمار المادي، بل تمتد لتشمل "تفكّك العلاقات بين الأفراد والجماعات، مما يزيد من الاستقطاب والتوترات الاجتماعية"متجلّياً في "ضعف التضامن المجتمعي، انتشار العنف، وتزايد الانقسامات الطائفية أو القبلية"

من جهة أخرى، أظهر مسح أجرته مجموعة البنك الدولي بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/ مايو 2021، عبر فيسبوك، أن 70% من سكان غزة و57% من سكان الضفة الغربية المحتلة يعانون من أعراض تتفق مع اضطراب ما بعد الصدمة، مع ارتفاع المعدلات بين النساء والنازحين. وأكد العديد من المستجيبين أن الصدمة أثّرت بشكل خاص على الأطفال الفلسطينيين، حيث اشتكى العديد منهم من مشاكل في النوم.

الحروب وتأثيرها النفسي على النسيج الاجتماعي

الحروب تُحدث تمزّقاً عميقاً في النسيج الاجتماعي، حيث تؤدي إلى تآكل العلاقات الأسرية وزيادة العنف في المجتمعات المتضررة. تشير الباحثة الاجتماعية سازان مصطفى إلى أن آثار الحرب لا تقتصر على الدمار المادي، بل تمتد لتشمل "تفكّك العلاقات بين الأفراد والجماعات، مما يزيد من الاستقطاب والتوترات الاجتماعية". وتؤكد أن هذا التفكّك يتجلّى في "ضعف التضامن المجتمعي، انتشار العنف، وتزايد الانقسامات الطائفية أو القبلية"، مما يؤثر سلباً على استقرار المجتمع.

بالنسبة للأسر النازحة، تعاني من "الفقر، انعدام الاستقرار السكني، وضعف الوصول إلى الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم". وتواجه تحدّيات نفسية تتعلق بـ"فقدان الأمان والهوية"، مما يعمق أزماتها الاجتماعية.

وتوضح مصطفى أن هناك زيادة ملحوظة في معدّلات العنف بعد انتهاء النزاعات، مشيرةً إلى أن "الاضطراب الاقتصادي، تراجع دور القانون، وانتشار الأسلحة بين المدنيين" كلها عوامل تُساهم في تفاقم هذه الظاهرة. وتعاني المجتمعات من "الإحباط والصدمات النفسية"، خاصة أولئك الذين فقدوا وظائفهم.

على الرغم من الجهود التي تبذلها السلطات المحلية والمنظمات لإعادة بناء النسيج الاجتماعي، تبرز أهمية "البرامج الحوارية التي تهدف إلى تعزيز التفاهم والتعايش". كما تشمل هذه الجهود "مشاريع إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي"، إلى جانب تقديم المساعدات المادية.

في ما يخص الأطفال، الذين نشأوا خلال أو بعد الحرب، فإنهم يواجهون تحدّيات كبيرة، مثل الحرمان من التعليم و/أو التعرض للعنف. تقول مصطفى: "الأطفال يعانون من فقدان فرص التعليم، والتعرض للعنف أو الصدمات النفسية". فيما غياب الدعم الأسري يمكن أن يدفعهم إلى "الانخراط في سلوكيات غير سويّة نتيجة للحرمان". تؤكد الباحثة ضرورة دعم هذه البرامج محلياً ودولياً لتكون أكثر فعالية واستدامة.

آثار النزاعات والحروب على التعليم وسوق العمل

تشهد دول عدة في المنطقة، مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، آثاراً مدمرة نتيجة النزاعات المستمرة، مما يؤثر بشكل مباشر على التعليم والفرص الوظيفية. الأطفال المتضرّرون من انقطاع التعليم سيواجهون تحديات كبيرة، مما ينعكس سلبًا على جهود إعادة الإعمار والتنمية.

في أوكرانيا، يبرز تقرير مركز ويلسون الدولي قلقاً بشأن نقص الموارد البشرية، حيث أفاد "66% من الرجال و55% من النساء بوجود عجز في المهنيين المؤهلين وغير المؤهلين في جميع الاختصاصات". كما ذكر "30% من المشاركين في المسح" وجود نقص كبير في المهنيين في مختلف المجالات، مما يعرقل اكتساب الجيل القادم المهارات اللازمة لإعادة إعمار البلاد.

أما في منطقة الشرق الأوسط، فقد أدت الحروب إلى تفشّي البطالة بشكل ملحوظ. في اليمن، أفادت التقارير الصادرة من الأمم المتحدة بأن "معدل البطالة بلغ 35%"، بينما في سوريا وصل المعدل إلى "23.7% وفقاً للمكتب الإحصاء المركزي السوري". وأشارت وزارة التخطيط العراقية إلى أن "معدل البطالة في العراق كان 16% في عام 2023"، بينما سجّل لبنان معدل بطالة يصل إلى "47.8% نتيجة الأزمة الاقتصادية والنزاع المستمر"، وفقاً لمنظمة العمل الدولية. وفي فلسطين، بلغ معدل البطالة قرابة "26%، مع تباين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث قد تصل النسبة في غزة إلى 45% نتيجة الحرب"، وفقاً للإحصاء الفلسطيني.

إلى جانب هذه التحديات الاقتصادية، يواجه التعليم أزمة خطيرة بسبب النزوح. حيث قدّر عدد الأطفال النازحين في اليمن بنحو "2 مليون طفل يمني نزحوا داخلياً"، وفقاً لليونيسف، بينما في سوريا يصل العدد إلى "2.4 مليون طفل نازح". وفي العراق، يقدر عدد النازحين بنحو "45 ألف طفل" وفقاً ليونامي، بينما في فلسطين، يتجاوز العدد "850 ألف طفل نازح" وفقاً لليونيسف.

كما أشار رئيس الكلية الملكية للطب النفسي، الدكتور لاد سميث، إلى أن "الصحة العقلية تؤثر على جميع جوانب الحياة - من التعليم إلى العمل، والصحة إلى السكن، والمالية إلى العلاقات"، مما يعكس أهمية الدعم النفسي في ظل هذه الأزمات.

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل أربعة عراقيين من هشاشة نفسية، بينما لا يوجد في البلاد سوى ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص.

أثر المجاعة للحروب الممتدة

المجاعات الناتجة عن الحروب تشكل كارثة إنسانية هائلة، حيث تؤثر على الأمن الغذائي لملايين الأشخاص وتؤدي إلى آثار صحية ونفسية واجتماعية طويلة الأمد. تقرير شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) لعام 2024 أكد أن المجاعة قد بدأت بالفعل في شمال غزة منذ نيسان/ أبريل 2024، مع استمرار الأزمة حتى تموز/ يوليو 2024 دون تحسّن ملحوظ. وتشير الأرقام إلى أن أكثر من 1.1 مليون طفل في غزة يواجهون ظروفاً معيشية كارثية في ظل نقص المساعدات الغذائية، مما يترك أثراً مدمراً على الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد.

تقدّر الأمم المتحدة أن المساعدات الغذائية إلى غزة انخفضت بمقدار الثلثين، مع إغلاق العديد من مرافق الإغاثة بسبب نقص الإمدادات والمخاوف الأمنية. في أيار/ مايو 2024، طالبت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهمة "تجويع المدنيين كأسلوب حرب". ويُعد سوء التغذية الحاد الشديد (SAM) في غزة أحد أخطر الأزمات، حيث يسبب الهزال الشديد وتقييد النمو وضعف الجهاز المناعي. عالمياً، يُعاني 19 مليون طفل دون الخامسة من سوء التغذية، ويسبب 400 ألف وفاة سنوياً بحسب منظمة الصحة العالمية. وفي غزة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية والذين نجوا من الحرب، فإن عواقب الصراع لن تنتهي عندما يتوقف القتال وفق ما ذكره مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية.

دور المنظمات الدولية في توفير الدعم النفسي والاجتماعي

تلعب المنظمات الدولية، مثل منظمة الدولية للهجرة، دوراً حيوياً في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمجتمعات المتضررة من النزاعات. ومع ذلك، تواجه جهودها تحديات كبيرة، أبرزها نقص الوعي حول الصحة النفسية ووجود وصمة عار مرتبطة بالحديث عن المشكلات النفسية. كما قال موظف يعمل في المنظمة نفسها فضل عدم الكشف عن اسمه، "هناك وصمة عار مرتبطة بالتحدث عن مشكلات الصحة النفسية، مما يحد من استعداد الأفراد لطلب المساعدة المتخصصة".

على الصعيد الحكومي، تعاني العديد من الدول من نقص الكوادر المؤهلة والمراكز المتخصصة، حيث أفاد المصدر نفسه بأن "ضغوط تقديم الخدمات الصحية النفسية تظهر في نقص الكوادر المؤهلة... وندرة الأطباء النفسيين المختصين".

تتبع المنظمة إستراتيجيات متنوعة تستهدف الفئات الأكثر تضرراً، مثل النساء والأطفال، حيث تركّز على التوعية المجتمعية والتدخلات المتخصصة. وأوضح الموظف، "نحن نعتمد على إستراتيجيات متعدّدة تشمل توعية مجتمعية واسعة حول الصحة النفسية، إلى جانب تدخلات متخصصة تستهدف الأفراد الذين يعانون من آثار نفسية شديدة".

لضمان استمرارية الدعم، تعمل المنظمة على تدريب الكوادر المحلية، خاصة في وزارتي الصحة والتربية، حيث أكد الموظف، "نحن ملتزمون بتوفير التدريبات والدعم للكوادر المحلية... نوفر تدريبات متخصصة للكادر التعليمي والعاملين في وزارة الصحة حول الإرشاد النفسي".

تشير المنظمة أيضاً إلى أهمية تكثيف الجهود مع الحكومات المحلية لتدريب الكوادر الصحية وتطوير مراكز متخصصة، حيث شدد الموظف على ضرورة ذلك بقوله، "يجب تكثيف الجهود مع الحكومات المحلية لتدريب الكوادر الصحية... لإنشاء مراكز متخصصة للصحة النفسية وضمان استمرارية هذه الخدمات".

"النزاعات والصراعات التي عشتها كمواطن وكصحافي ألقت بظلالها الكبيرة على صحتي النفسية، لا سيما بعد عملي كصحافي ومشاركتي في تغطية الصراعات والأزمات… بدأت الانطباعات الناتجة عن العمل تنعكس على شخصيتي التي مالت للانطوائية وقلة الاجتماعية، عكس ما كنت عليه قبل العمل الصحافي، إضافة إلى العصبية المفرطة والتوتر والقلق والاكتئاب"

أثر النزاعات والحروب على الصحافيين في مناطق الصراع

تحت تأثير النزاعات والحروب، يواجه الصحافيون في الخطوط الأمامية تحديات تؤثر بعمق على صحتهم النفسية والاجتماعية. فبينما تُدمر الحروب البنية التحتية وتزهق الأرواح، تُترك آثار نفسية مستدامة على هؤلاء المهنيين، مما يستدعي تسليط الضوء على تأثيرات العمل في أجواء الصراع.

أسعد الزلزلي، صحافي استقصائي عراقي، يروي تجربته الشخصية في تغطية النزاعات، موضحاً تأثيرها الكبير على حالته النفسية. يقول الزلزلي: "النزاعات والصراعات التي عشتها كمواطن وكصحافي ألقت بظلالها الكبيرة على صحتي النفسية، لا سيما بعد عملي كصحافي ومشاركتي في تغطية الصراعات والأزمات". ويضيف: "بدأت الانطباعات الناتجة عن العمل تنعكس على شخصيتي التي مالت للانطوائية وقلة الاجتماعية، عكس ما كنت عليه قبل العمل الصحافي، إضافة إلى العصبية المفرطة والتوتر والقلق والاكتئاب".

يتذكر الزلزلي تأثير تحقيقه الصحافي الشهير حول أطفال داعش، قائلاً "بعد إنجازي لتحقيق يتحدث عن مصير أطفال إرهابيي داعش، دخلت في دوامة نفسية استمرت لأشهر". يتابع: "قصص الأطفال والنساء والعنف التي وثقتها نخرت جزءاً من استقراري النفسي، لدرجة أنني حالياً أحضر جلسات علاج نفسي وفرتها لي المنظمات الدولية".

الزلزلي يؤكد أن المؤسسات الإعلامية العراقية لا تهتم بالحالة النفسية للصحافيين: "المؤسسات الإعلامية العراقية لا تهتم بشكل تام للحالة النفسية، أو للأثر النفسي الذي يتركه العمل على الصحافيين". وهو يضيف: "خلال عملي مع عشرات المؤسسات، لم أجد أي منها يركز على الأثر النفسي للصحافيين. بل إن هذه المؤسسات تتماشى مع المجتمع الذي يرى في الآثار النفسية وصمة عار، ويجب ألا يعترف الرجل بذلك مهما حصل".

أشار الزلزلي أيضاً إلى أنه حتى خلال تغطية حرب التحرير العراق من عصابات داعش، "المشاهد كانت مؤلمة وفقدنا زملاء، لكن التركيز كان دائماً على التغطية الإعلامية وليس على صحة الصحافيين أو سلامتهم النفسية".

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل أربعة عراقيين من هشاشة نفسية، بينما لا يوجد في البلاد سوى ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص، مقارنة بـ 209 أطباء لكل مليون شخص في فرنسا مثلًا. وتذكر المنظمة أن العراق لا ينفق سوى 2% من ميزانيته الصحية على الصحة النفسية، رغم أن الاستثمار في تعزيز علاج الاضطرابات النفسية الشائعة مثل الاكتئاب والقلق يعد مردوداً اقتصادياً يصل إلى خمسة أضعاف المبلغ المستثمر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image