باتت السيدة الفلسطينية ريهام حمد (32 عاماً) من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، قلقةً جداً على صحة أطفالها الثلاثة مؤمن وحسن وسيلا، بعدما زاد ظهور الحبوب والتقرحات في مناطق مختلفة من أجسادهم خلال الأشهر الماضية.
بدأت ريهام تلاحظ هذه الأعراض منذ آذار/ مارس الماضي على جسد ابنتها سيلا (4 سنوات). "فقد اختبرنا فترة المجاعة الأولى القاسية جداً في شمال القطاع، ما بين كانون الأول/ ديسمبر 2023 وآذار/ مارس 2024. آنذاك، تجاوز سعر كيلوغرام الدقيق 20 دولاراً"، تقول ريهام لرصيف22.
ربّما سمحت إسرائيل بعدها، ولمدة شهر واحد فقط، بإدخال اللحوم المجمدة وبعض أصناف الخضار والفواكه. لكنها سرعان ما انقطعت وعاد الناس ليستهلكوا المعلبات فقط.
توجهت ريهام بسيلا إلى مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة. فأخبرها الأطباء أن سبب مرضها هو سوء التغذية وتناول الأغذية المعلبة بكثرة، إضافة إلى تعرض طفلتها لمحيط صحيّ سيىء داخل مركز الإيواء الذي نزحت إليه، بعد تدمير منزلهم في بداية حرب الإبادة على قطاع غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
الطفل يرفض الطعام المعلب أياً كان شكله ونوعه، وسرعان ما يستفرغه إذا ما أُجبر على تناوله.
ويعتمد أهالي شمال قطاع غزة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية التي تنتهج أسلوب التجويع كأداة عقاب جماعية، على الأغذية المعلبة وبعض أصناف البقوليات التي تسمح السلطات الإسرائيلية بإدخالها بكميات محدودة، ضمن قوافل المساعدات التي تعرضت في كثير من الأحيان لضربات عسكرية قاسية.
يُضاف هذا الاستهداف إلى الاستهدافات المستمرّة لمخازن المواد الغذائية والأراضي الزراعية ومطاحن القمح، التي تجعل من موضوع الغذاء حرباً قد تكون أكثر ضراوةً من النار.
أجساد الأطفال غير القادرة على مواجهة السموم
وفي تفاصيل تجربتها الشخصية، تروي ريهام أنها وزوجها بدأا بالشعور بالتعب والضعف العام بالجسد بعد أسابيع من تناول المعلبات. لكن الكارثة بالنسبة لها بدأت مع مرض أبنائها والتقرحات التي ظهرت على أجسامهم، مبينةً أنها تشعر بحسرة كبيرة وعجز أمامهم، لعدم تمكنها من توفير غذاء صحي لهم.
يعيش رجاء مشتهى (42 عاماً) من حي الشجاعية في مدينة غزة، آثار المعلبات السلبية على عائلته أيضاً، والمكونة من 9 أفراد. فهذا ما يجده متوفراً في الأسواق، حسب قوله. لا سيما إذا كان المرء، كطفله إبراهيم (6 سنوات) يعاني من مشاكل في المعدة منذ ولادته.
ويقول رجاء إنه يعاني كثيراً في توفير الطعام لطفله، ويتألم لعدم قدرته على إشباعه منذ أشهر، موضحاً أن الطفل يرفض الطعام المعلب أياً كان شكله ونوعه، وسرعان ما يستفرغه إذا ما أُجبر على تناوله.
يوضح أخصائي التغذية محمود الشيخ لرصيف22: "أن المعلبات لا يمكن أن تعتبر من الخيارات الغذائية المقدّمة للطفل لعدة أسباب، أهمها احتواؤها على كميات كبيرة من الأملاح والسكريات التي تسبب السمنة"
ويُنصح باستبدال المأكولات المُعلبة، بالخضراوات، والفواكه الطازجة، أو المجمدة، بحسب ما يقول الشيخ، لينمو الطفل بشكل طبيعي. مشيراً إلى أن الجهاز المناعي عند الأطفال هو الأكثر تأثراً بالمواد المعلبة كونه في مرحلة التكوين والنمو، ولا يمتلك القدرة الكافية للدفاع أمام كل السموم التي تحويها المواد الحافظة، فيترك تأثيراً سلبياً على صحة الأطفال.
"كما تتسبب لهم بالعديد من المشاكل في الأمعاء والمعدة لأن المواد الحمضية التي تستخدم لحفظ الطعام من الفساد، تعتبر أحد مسببات الالتهابات المزمنة والحادة في المعدة"، يقول الشيخ.
يُغمى عليهم في الشوارع
أصبح بالإمكان ملاحظة التحوّل في أجساد الغزيين، التي صارت هزيلة ومرهقة. كثيرون لم يعودوا قادرين على المشي لمسافات طويلة، بسبب سوء التغذية والاعتماد على المعلبات لأشهر طويلة.
لأول مرة في حياته، يعاني الشاب أدهم فرج (26 عاماً) من منطقة الجلاء شمال مدينة غزة، من حالة الدوار الشديد، الذي يتبعه إغماء فوري.
الجهاز المناعي عند الأطفال هو الأكثر تأثراً بالمواد المعلبة كونه في مرحلة التكوين والنمو، ولا يمتلك القدرة الكافية للدفاع أمام كل السموم التي تحويها
"لم أختبر في حياتي أي مشاكل صحيّة من قبل. لكن قبل ثلاثة أشهر تقريباً، صرت أسقط خلال مشيي في الشارع. توجهت إلى المستشفى أكثر من مرة، على إثر هذه الإغماءات المتكررة"، يقول أدهم.
أخبر الأطباء فرج أن سبب إغماءاته هو سوء التغذية والطعام المعلب الذي يتناوله منذ فترة طويلة، ونصحوه بعدم التعرض لأشعة الشمس طويلاً وعدم المشي إلا لمسافات قصيرة، والامتناع عن حمل الأوزان الثقيلة، ووصفوا له بعض المكملات الغذائية العلاجية.
لكن أدهم زار معظم الصيدليات في مدينة غزة ولم يجد المكملات المطلوبة.
ويتابع بقهر: "قبل الحرب كان والدي يحضر إلى البيت أشهى المأكولات من لحوم وفواكه وخضار وحليب وبيض طازج. لكن إسرائيل حرمتنا هذا كله منذ شهور، وتسمح بإدخال المعلبات فقط، هذه المعلبات قضت على أجسادنا".
ويردف: "كنت سابقاً أحمل في نادي الحديد أوزاناً تفوق الخمسين كيلوغراماً. أما اليوم فلا أقوى على حمل 20 كيلوغراماً بسبب ضعف جسدي".
لم أختبر في حياتي أي مشاكل صحيّة من قبل. لكن قبل ثلاثة أشهر تقريباً، صرت أسقط خلال مشيي في الشارع
عاش محمد مهنا (42 عاماً) من منطقة "الفالوجا" شمال قطاع غزة تجربة مشابهة، يصفها لرصيف22 قائلاً إنه تعرض للإغماء في الشارع أكثر من مرة بسبب سوء التغذية في منطقة شمال القطاع منذ بداية الحرب الإسرائيلية.
ويتابع أن جسده يحتاج إلى أغذية صحية على الدوام، وفقدانها على مدى هذه الفترة الطويلة يضر به كثيراً.
يؤكد محمد أنه قلل في الأسابيع الماضية من حركته وابتعد عن الخروج للشارع خوفاً من التعرض لحالات إغماء جديدة، خاصة مع عدم توفر الأغذية والعلاجات المناسبة التي يمكن أن تساعده على تحسين حالته الصحية.
أمراض مزمنة ووفيّات
يقول الشيخ: "إن المشكلة الأساسية في المواد المعلبة تكمن باحتوائها على الكثير من المواد الحافظة والألوان الصناعية والمثبتات والمحليات. كما تٌستعمل في إنتاجها الكثير من المواد الكيميائية للحفاظ على مدة صلاحيتها".
ويشير إلى أنه كلما زاد الاستهلاك من المعلبات ازداد تراكم تلك المركبات في جسم الإنسان عن المستوى الطبيعي. لافتاً إلى أن ذلك يؤدي لظهور بعض الأمراض المسرطنة مثل سرطان البروستات لدى الرجال وسرطان الثدي لدى النساء.
وأشار تقرير للأمم المتحدة، نُشر بتاريخ 24 آب/ أغسطس 2024، إلى أن "آلاف الأطفال في غزة يعانون من سوء التغذية الحاد. وتم الكشف عن إصابة حوالي 15 ألف طفل بسوء التغذية، منهم 3288 طفلاً مصاباً بسوء التغذية الحاد. وذلك بعد فحص نحو 240 ألف طفل في القطاع منذ بداية العام الحالي".
وفي شمال القطاع، أقامت منظمة الصحة العالمية مركز علاج لسوء التغذية في مستشفى كمال عدون، وهو واحد من أربعة مرافق تعمل في هذا المجال.
يقول حسام أبو صفية مدير المستشفى: "حتى هذه اللحظة، أحصينا ما يقارب 5 آلاف طفل. تنطبق على ثلث الحالات أعراض سوء التغذية. 25٪ من هذه الحالات لم تخضع لعلاج مكثف إذ صنفت على أنها سوء تغذية مع مضاعفات".
وأضاف أن توافد هذه الحالات مع مضاعفاتها الحادة يعني أن هذه "محطة ما قبل الموت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين