شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لستِ حرة يا حشاشة

لستِ حرة يا حشاشة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 25 أغسطس 202412:52 م

_ حرة؟ ها.

صوت محمد عبد القدوس اللطيف يكسو ذاكرتي كلما سمعت أو قرأت كلمة حرية أو مشتقاتها: حرة، حر، أحرار، تحرر، تحرير. كنت مراهقة ترنو للتحرر من سلطة الآباء حين شاهدت فيلم أنا حرة، ربما للمرة الأولى، وربما لا. لكن تلك المرة شاهدته بوعي يفتح الطريق أمام سيل من الأسئلة الوجودية. هل البشر أحرار؟ هل الفتيات، خاصة في الشرق، حرّات؟

علاقتي بأدب إحسان عبدالقدوس مرتبكة. لا أحب كتابته الفيكتورية، لكن تعجبني الأفكار التي يطرحها وتأثيرها على وعيي. تجعلني العذراء والشعر الأبيض أفطن لعدم نجاعة فكرة وقوعي، أنا العشرينية، في حب الأربعينيين والخمسينيين، فيحرمني من حريتي في الوقوع في خطأ مثل ذلك الحب المستحيل. أنا حرة تطلق أفكاري حول ماهية الحرية، وتتضافر هذه الأفكار مع منهج الفلسفة في الثانوية العامة، فتتبلور أكثر وأكثر. وتلهمني علاقة أبي أمينة بـ"حشاشة" قلبه في فيلم أنا حرة التي تفكك صورة الأب المتسلط قامع الحريات. 

الحرية التي انتظرتني في الجامعة! 

أدخل الجامعة. الآن لدي الحرية في حضور المحاضرات أو الغياب عنها، في تكوين صداقات من الجنسين، في قراءة الأدب بنهم، في ارتداء البنطلونات التي كانت محرمة في السابق، وفي اختيار الإيطالية كلغة ثانية. هل كنت حرة تمامًا؟ لم يكن باستطاعتك أن تتغيبي عن بعض المحاضرات التي كان مُلقوها يحتسبون عليكِ نسبة الغياب. لم يكن بمقدورك أن تلبسي ما شئت من طرز البنطلونات لأنك كنتِ سمينة. ولم تسعدي بدراسة الإيطالية لأن معلمها كان يهوى تقريعك. حسنًا، كنتِ أكثر حرية من ذي قبل.

في إغماضة عين لا أكثر، تنتهي سنوات الدراسة الأربع العذاب. أحب الأدب، وأنوي استكمال الدراسة، يا حبذا لو خارج البلاد. أبحث عن منحة للدراسة بالخارج. لا يوافق الأهل على ذلك خوفًا من كلام الناس. أنصرف للبحث عن عمل. أجري العشرات من مقابلات العمل ولا شيء يأتي. أبحث عن الحب لأكتمل.

أدخل الجامعة. الآن لدي الحرية في حضور المحاضرات أو الغياب عنها، في تكوين صداقات من الجنسين، في قراءة الأدب بنهم، في ارتداء البنطلونات التي كانت محرمة في السابق، وفي اختيار الإيطالية كلغة ثانية. هل كنت حرة تمامًا؟

كل هذه السنوات ولا يطرق الحب بابي. لا يحب الرجال الفتيات البدينات، قويات الشخصية. اعتدتُ اختياري لدور الصديقة المستمعة للمشكلات العاطفية لأصدقائي الذكور، وفقط. بداخلك أنثى بدينة لا تؤمن بأهليتها لتبادل الحب. بداخلك تلك الطفلة الحزينة مازالت، التي اعتادت أن تُنتهك، ويزفها أحباب الله الملعونون بشتائم مغناة. بداخلك حزن مقيم، يزدهر كلما لمح قسوة الآدميين. 

والتي انتظرتني في العمل 

أين السبيل يا "حشاشة"؟ أنتِ ونفسكِ والفراغ ثالثكما: لا عمل، لا دراسة، لا حب.

لا مجال لندب الحظ، لا أزال في العشرين، يحدوك أمل على تحقيق الذات. تأتيكِ فرصة العمل الأسوأ، فلا ترفضينها. نعم، تقبلين بالعمل في الشركة الرأسمالية القذرة التي تستنزف صحتكِ وتمص دمكِ ودم الشعب. تصبحين أمينة أخرى يطالبونها بتعويض أية دقيقة تقضيها في الوقوف في طابور الدخول للحمام أو في ازدراد الطعام وشرب العصائر التي تقيكِ شر الإغماء وهبوط الدورة الدموية أو انخفاض ضغط الدم. تقبلين بهذه السخرة في مقابل الحصول على الدعم المادي الذي يهبكِ حرية التصرف في نقودكِ. تحصلين على حريتكِ الثمينة التي تؤهلكِ لأعمال جسيمة وتافهة في آنٍ واحد، كقص شعركِ الذي يريده المجتمع تاجًا طويلًا فوق رأسكِ المغطى بالحجاب الاختياري. 

تقبلين بالعمل في الشركة الرأسمالية القذرة التي تستنزف صحتكِ وتمص دمكِ ودم الشعب. تقبلين بهذه السخرة في مقابل الحصول على الدعم المادي الذي يهبكِ حرية التصرف في نقودكِ. 

كانت مقايضة ظالمة. تكتفين من السخرة، ومن توبيخ السادة العملاء وسفالاتهم وتحرشاتهم اللفظية، ومن أمراض الصدر، والعظام، وانخفاض ضغط الدم المزمن. تكتفين من إضاعة نفسكِ في عمل لا يرقى لطموحكِ، فتعلنين الرحيل. لستِ حرة يا صغيرة. الشركة تستبقيكِ حتى انتهاء الصيف، ذروة موسم العمل. الأهل يتهمونكِ بالتبطر. تثبتين على موقفكِ وتفعلينها.

تنصرفين للكتابة والترجمة، ترين ويلات البحث عن ناشرين. لستِ كبيرة ليهرول الناشرون لنشر عملكِ الأول، المترجم ومن بعده الأصيل. وها أنتِ تراكمين الأعمال غير المنشورة. 

وبالطبع... الحرية في الحب 

يأتي الحب أخيرًا، عنيفًا، جميلًا، ومثاليًا. نعم، مثاليًا لأنه تطور سريعًا لزواج يرضي الله ورسوله والمؤمنين، ويدفع إحساسكِ بأنكِ ترتكبين فعلًا محرمًا كلما قابلتِ الحبيب ولمس يدكِ. بداخلكِ أنثى متدينة، لكن لو لم تكوني كذلك، ألا كنتِ ترفضين مؤسسة الزواج في شكلها المصري _الكومبو؟ (إذا كنتِ تجرئين على ممارسة حرية الرفض).

طيب. ماذا عن الإنجاب؟ يخضع لنفس الآلية بالطبع. الخلف الأول، ومن ثم يجر الثاني لمؤانسته.

جسدكِ ليس ملككِ. تتنازلين عن خصوصية جسدكِ في مقابل الحصول على جسد الحبيب. نشأتكِ المحافظة تنكر عليكِ مثل هذه الحميمية. وماذا عن إخراج ثديكِ للصغار ليطعموا؟ أحيانًا أصحو من نومي لا أقوى على الحميمية: أفض يد الصغيرة إذا ما أحاطتني بقوة، وأكشر في وجه الحبيب كي لا يبدأ في الغزل. التجهم سيد هذه اللحظات. لا أدري لتلك الحالات سببًا. هل هي الجينات اللعينة، أم الهرمونات التي طالما هاجمها الرجال، أم مزيج الاكتئاب والتوتر الذي يعصف بأعصابي مؤخرًا؟ فقط أرغب في كوب من الشاي وأن أترك لصحبة نفسي، أنتقل بها على جناحي غيمة لساحل مهجور وسرير من شبك يقبع أسفل شجيرة. ينبغي أن يكون في المشهد طيور كثيرة جميلة الصوت وكتاب لطيف لم أدفع ثمنه. 

الحرية بلا مكان 

جزيرة مهجورة؟ أتهزئين؟ أنتِ لا تملكين أي حيز مكاني خاص لكِ لا يدخله الصغار. لقد تنازلتِ عن حق الاختلاء بنفسكِ يا حشاشة وعن أية مساحة شخصية لكِ. الحمام؟ لا يجوز أن يكون ملككِ وحدكِ لبعض الوقت الذي تشغلينه فيه. أكتب هازلة على فيسبوك مقترحة "إضافات واجبة على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان: 1) لكل أم الحق في دخول الحمام بمفردها، والبقاء فيه للوقت الذي تريده. 2) لكل أم الحق في المرض. وعلى الدولة توفير الرعاية اللازمة للأطفال حتى تشفى الأم بدل ما تولع في البيت باللي فيه.".

جسدكِ ليس ملككِ. تتنازلين عن خصوصية جسدكِ في مقابل الحصول على جسد الحبيب. نشأتكِ المحافظة تنكر عليكِ مثل هذه الحميمية. لكن، ماذا عن إخراج ثديكِ للصغار ليطعموا؟ 

تحدثتِ عن النشأة المحافظة التي تحرمكِ متعة الإحساس بالأريحية في علاقاتكِ الحميمة. توقفي هنا برهة يا حشاشة. تأملي موطن الداء. هل كانت هناك يومًا حرية استكشاف جسدكِ، لمسه، إطالة النظر إليه في المرآة؟ كنتِ بالنسبة للأهل ابنة مثيرة للمتاعب. أنتِ نزعتِ إلى تحرير عقلكِ من موروثات الطبقة، ونجحتِ إلى حد بعيد. لكنكِ تركتِ لهم الجسد مكفنًا على الطريقة الشرعية (أو التي يُظن أنها شرعية)، حرصًا على عدم مناطحة التابو. متى بدأتِ النظر إلى جسدكِ وملامسته (طبعًا بعد تلاوة دعاء التعري)؟  

يناير... فقط يناير 

بذكر التحرير، نعرج على السياسة: هل كنتِ يومًا حرة في الخروج في مظاهرة؟ لا قاطعة. كانت تعليمات الأهل أن ابتعدي عن المظاهرات في الجامعة، ابتعادكِ عن الأجرب. كان غضبكِ يتصاعد مع الإحساس المتنامي بالفساد الذي أخذ يسد مسام البلد. لكن ما الحيلة؟ "يا أيها الناس، زيكوا زي الناس". وأنتِ بنت، مالكِ والسياسة؟ رفضتِ العمل كمدرسة لدورات الحزب الوطني. يكفيكِ هذا. لم يكن لديكِ الحرية للخروج في المظاهرات لأنه ليس لديكِ سند من الأهل إذا ما اعتقلتِ، أو تعرضتِ لتحرشات الأمن، أو قتلتِ. أما وقد جاءت الثورة بعد الزواج، وانتقلت الولاية عليكِ لزوج مجنون مثلكِ شكل لكِ هذا السند، فلتحرقوا سويًا.

يناير العظيمة كانت أول عهدي بالحرية، وبعدها كانت كسرة.

في الأيام التي خيم عليها الهدوء إبان الأيام الثمانية عشر المجيدة، كنتُ أحمل ابنتي ذات الأحد عشر شهرًا وأذهب للتحرير، كنتُ أريدها أن تتعلم ألا تمشي جنب الحائط، بل تمشي فوقه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image