تركت حوراء (32 عاماً) من محافظة النجف، مهنة المحاماة التي عملت فيها لنحو سبع سنوات، بعد تعرضها لاعتداء بسبب دعوى أحوال شخصية وكِّلت فيها عام 2022، لتجد نفسها بلا عمل قبل أن تدخل مجال مستحضرات التجميل وتتخذ منه مصدراً جديداً للدخل.
تقول لرصيف22 بحزن: "كان لدي طموح لمواصلة العمل بمهنة المحاماة التي أحببتها منذ الصغر، لكن المخاطر تحيط بمهنتنا وصولاً إلى القتل في ظل عجز الدولة وقوانينها عن حمايتنا".
بسبب الفوضى الأمنية السائدة في العراق وعجز السلطات عن تطبيق القوانين، ومع نشاط الجماعات المسلحة وانتشار السلاح خارج الدولة، يواجه مئات المحامين رسائل تهديد وابتزاز، ويتعرض العشرات منهم لمختلف الاعتداءات. سُجِّل في العام 2023 وحده مقتل 10 محامين.
محامي عراقي يتعرض لاعتداء أمام منزله.
تخرّجت حوراء من كلية القانون عام 2015، وتدرّبت على مهنة المحاماة في الدعاوى البدائية والأحوال الشخصية في مكتب محامٍ متمرس لنحو سنتين، قبل أن تفتتح مع زميلتين لها مكتباً خاصاً للاستشارات القانونية.
"أجدت في دعاوى الأحوال الشخصية، وكسبت الكثير منها خلال فترة قياسية، وهذا أكسبني شهرة جيدة"، تقول حوراء مردفةً بأن "ذلك كان قبل توكلي في الدعوى الأخيرة قبل أكثر من عام ونصف العام من الآن، لأغادر بعدها المحاماة نهائياً".
وهي تروي: "اتصلت بي إحدى السيدات من جيراننا في تموز/ يوليو 2022، تشتكي حال ابنتها التي تُعنَّف كل يوم من قبل زوجها، وأخبرتني بأنها تجد آثار كدمات على جسدها كلما زارتها في منزلها بالقرية، وأن زوجها يضربها بالعصا في بعض الأحيان".
طلبت حوراء من الأم استدعاء ابنتها وعدم السماح لها بالعودة إلى بيت زوجها، وبعد ثلاثة أيام جلبتها معها إلى مكتبها، كانت الابنة مصابة في وجهها وتتلوّى من الألم، فأخذتها على الفور إلى مركز الشرطة حيث جرى تحويلها إلى المستشفى للحصول على تقرير طبي بحالتها، واتضح أنها مصابة أيضاً بكسر في يدها.
في اليوم التالي أخذتها إلى كاتب العدل لتنظيم وكالة، وأقامت دعوى تفريق ضد زوجها بسبب اعتدائه عليها، وكانت تتهيأ لدعاوى أخرى كالأغراض الجهازية والنفقة وغيرها، لكن بمجرد أن تلقّى الزوج تبليغاً بموعد الدعوى، أرسل شقيقاته وقريبات أخريات له إلى مكتب حوراء لينهالوا عليها بالضرب المبرح.
بعد ساعة من تعرضها للاعتداء، ذهب شخص من طرف الزوج الغاضب إلى منزل أهل حوراء، وطلب من والدها دعوة أولاد عمومته وشيخ العشيرة للمثول في جلسة فصل عشائرية.
تضيف بسخرية: "قُدِّمت شكوى ضد شقيقي الذي يساعدني في المكتب، بدعوى أنه اعتدى على النساء اللاتي هاجمنني في المكتب، مع أنه مصاب بالثلاسيميا ووزنه لا يزيد عن 50 كغم وطوله لا يتخطّى 150 سنتم، فكيف به أن يضرب سبع نساء قرويات؟".
الشكوى التي تقدّمت بها حوراء لدى الشرطة ضد المعتديات عليها لم تثمر عن شيء بسبب رفض شاغلي المكاتب المجاورة لمكتبها الشهادة لصالحي خوفاً من العواقب والتهديد العشائري، حتّى أن مالك العمارة ادّعى أن كاميرات المراقبة لا تعمل.
بسبب الفوضى الأمنية السائدة في العراق وعجز السلطات عن تطبيق القوانين، ومع نشاط الجماعات المسلحة وانتشار السلاح خارج الدولة، يواجه مئات المحامين رسائل تهديد وابتزاز، ويتعرض العشرات منهم لمختلف الاعتداءات. سُجِّل في العام 2023 وحده مقتل 10 محامين!
"الأدهى من ذلك، أن موكّلتي التي عطفت عليها، ادّعت أنني أنا من حرضتها للخروج عن طاعة زوجها وإقامة دعوى ضده، وهكذا أصبح الجميع ضدي"، تردف.
أفضت الجلسة العشائرية، عن فرض مبلغ سبعة ملايين دينار عراقي (نحو 5343 دولاراً أمريكياً) على والدها، وتعهده بإلزام حوراء، بالتنازل عن الشكاوى التي تقدّمت بها، وعدم إقامة أية دعوى ضد الزوج وقريباته. عن ذلك تقول: "رضخ والدي، لأنهم يملكون السلاح والنفوذ".
التقاليد العشائرية لحسم النزاعات
يشكو عشرات المحامين في العراق من أن التقاليد العشائرية باتت السائدة في الكثير من حالات حسم النزاعات، في ظل تراجع قدرة السلطات على تطبيق القوانين وفرض هيبة الدولة، وبات السلاح العشائري هو الحاسم، وأعراف "الدكة" والفصول العشائرية في الدواوين القبلية هي الحاكمة.
بعد يومين من سحبها شكواها، قررت حوراء عدم مواصلة العمل في مهنة المحاماة. "لم أستطع الدفاع عن نفسي، فكيف أدافع عن الناس؟"، تذكر بحرقة. ولم يبق من نشاطها السابق في مجال القانون، سوى شهادة تخرجها التي أبقتها معلّقة على جدار المنزل.
يشهد العراق منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003 أوضاعاً أمنية سيئة، وفق سياسيين وحقوقيين وناشطين مدنيين، حيث زاد نشاط الجماعات المسلحة وانتشر السلاح الذي يوصف رسمياً بـ"المنفلت". هذا الواقع يُهدد مهنة المحامين ويعرض الكثير منهم لخطر الاغتيال ولاعتداءات متكررة ومختلف أنواع الابتزاز.
ووفقاً لممثلين عن نقابة المحامين العراقيين، فإن أكثر من 100 محامٍ/ة تعرضوا للاعتداءات في عموم محافظات البلاد، 10 منهم فقدوا حياتهم خلال 2023 وحدها، آخرهم المحامي عدنان النعيمي، الذي قُتل طعناً بالسكاكين في مكتبه بمنطقة الدورة ببغداد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
قبلها بأشهر، تحديداً في نيسان/ أبريل 2023، تعرّض المحامي تحسين الكعبي، من بغداد، إلى محاولة اغتيال نفذها مسلحون مجهولون على خلفية قضية تتعلق بعقارات عائلة مسيحية توكّل عنها الكعبي، الذي نجا بأعجوبة من الحادث لكنه رقد في المستشفى بفعل الإصابات.
المحامي تحسين الكعبي عقب تعرضه لاعتداء بسبب عمله.
الحصيلة التي أعلنتها النقابة، هي فقط عن الاعتداءات التي بلغتها، سواءً من قبل جهات أمنية أو شكاوى تقدّم بها المحامون، لأن هناك الكثير من حالات الاعتداء التي لا يتم توثيقها، لعدم رغبة المحامين في تحمّل تبعات ذلك وتداعياته، مع تهديدات شبه يومية للمحامين في مختلف مناطق البلاد، لدفعهم إلى ترك دعاوى توكلوا بها، وفقاً لمصدر في نقابة المحامين تحدّث إلى رصيف22.
الاعتداءات على المحامين أدت إلى تصاعد الدعوات خلال السنوات الماضية إلى تعديل قانون المحاماة رقم 173 لسنة 1965 لكي يواكب العصر، ويوفر للمحامين البالغ عددهم 84 ألفاً وفق تقديرات النقابة، هامشاً من الحماية والحصانة ومكانة تليق بهم في المجتمع، وفق محامين.
مقترح تعديل قانون المحاماة
عضو مجلس نقابة المحامين، أوس الطائي، يؤكد أن الكثير من المحامين يتعرضون للاعتداءات والتهديدات والبعض فقد حياته بسبب "السلاح المنفلت". ويقول إن قانون المحاماة القديم لم يعد يلبي طموح المحامين، لأن مواده قديمة، على الرغم من 14 تعديلاً أجريت عليه منذ صدوره قبل 59 عاماً.
ويذكر الطائي أن النقابة عقدت سلسلة من اللقاءات مع أعضاء مجلس النواب لمناقشة التعديلات المقترحة على القانون، ويبدو أن السعي بهذا الاتجاه يمضي بنحو إيجابي تحت قبة مجلس النواب، إذ تمت في الجلسة رقم 11 لمجلس النواب التي عقدت في 27 شباط/ فبراير 2024 القراءة الأولى لمقترح قانون تعديل قانون المحاماة رقم 173 لسنة 1965، المتضمن 28 مادة.
أمين سر نقابة المحامين العراقيين أحمد الزيدي يُقدِّر أعداد المحامين الذين يتعرضون للقتل كمعدل سنوي من أربعة إلى خمسة محامين. أما الاعتداءات الجسدية واللفظية، فيقول إن معدلاتها تختلف بحسب بيئة المجتمع من محافظة إلى أخرى. ما الذي يجعل العمل بالمحاماة خطراً إلى هذه الدرجة في العراق؟
وجاء في بيان للدائرة الاعلامية لمجلس النواب أن المجلس أنجز خلال الجلسة، التي رأس جانباً منها نائب رئيس المجلس شاخوان عبد الله، القراءة الأولى لمقترح قانون تعديل المحاماة المقدم من لجنتي "القانونية والعمل" بدعم من منظمات المجتمع المدني، لمواكبة التطورات التي طرأت على المجتمع وعلى مهنة المحاماة ولتطوير نشاط نقابة المحامين، بهدف وضع ضوابط أكثر دقة ووضوحاً لمن ينتمي إليها، إلى جانب تأسيس "معهد المحاماة" لرفع كفاءة المحامين وتعزيز ثقافتهم القانونية، وتطوير مهارتهم وإعداد محامين قادرين على النهوض بأعباء المهنة.
وذكر البيان أن التعديل يأتي "لزيادة حصانة المحامين أثناء تأدية أعمال مهنتهم"، وإزالة التعارض بين أحكام القانون وإضافة بعض الأحكام الجديدة المتعلقة بشركات المحاماة وغرف المحامين.
لكن فريقاً قانونياً، تواصل معه معدّا التحقيق، لاحظ اختلافاً واضحاً بين نسخة مقترح القانون المقدم، والنسخة التي تمت قراءتها في مجلس النواب في ما يخص "الاعتداء على المحامين والتحقيق معهم".
خلت النسخة التي تمت قراءتها في المجلس من بعض المواد التي كانت النسخة المقدمة من قبل نقابة المحامين قد تضمنتها وهي: المادة السابعة، 1- يعاقب من يعتدي على محامٍ أثناء تأديته أعمال مهنته أو بسبب تأديته لها بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات، دون الإخلال بأية عقوبة أشد يقررها القانون.
المادة الثامنة، يجب إخبار النقابة بأي شكوى تُقدّم ضد محامٍ، وفي حالة الجرم المشهود لإجراء التحقيق فيها، ولا يجوز استجوابه والتحقيق معه أو توقيفه لجريمة منسوبة إليه تتعلق بممارسة مهنته إلا بعد استحصال موافقة نقيب المحامين أو مجلس النقابة، وعلى نقيب المحامين أو من يخوّله حضور الاستجواب والتحقيق.
في حين جاء في النسخة التي قُرِأت في المجلس ما تضمنته الفقرة الثانية من المادة السابعة، ونصها: "يجري التحقيق مع المحامي في مكتب التحقيق القضائي حصراً، وتعتبر غرفة المحامين المسجل فيها المحامي عنواناً لتبليغه".
على الرغم من ذلك، تصف نقيبة المحامين العراقيين، أحلام اللامي، القراءة الأولى للقانون، بأنها "الخطوة الأولى للهدف الذي ينتظر الجميع تحقيقه منذ سنوات وهي خطوة هامة في تأريخ نقابتنا وزملائنا المحامين".
وهي تقول إنها تأمل مواصلة الجهود من أجل "إقرار التعديل، والتصويت عليه في أقرب وقت، لتنتقل حياة المحاماة إلى عصر جديد".
تعليقاً على الاختلاف بين نسختي القانون، صرّح عضو اللجنة القانونية النيابية د. رائد حمدان المالكي، خلال مؤتمر صحافي عقد في مجلس النواب، بأن اللجنة القانونية رفعت بعضاً من النصوص التي كانت تضمها النسخة المقدمة من قبل نقابة المحامين "لتقليل الاعتراضات على القراءة الأولى"، أي أنه "لم يتم إدراج جميع التعديلات التي وردتنا من نقابة المحامين".
مؤتمر صحافي للنائب رائد المالكي.
أكد المالكي أيضاً أن المجلس سيشرع باستقبال الملاحظات والمقترحات على القانون من أعضاء المجلس ومن نقابة المحامين ومن المحامين بنحو عام"، وأنه ستتم مناقشة جميع الملاحظات الموضوعية والشكلية بما فيها الصياغة، والمقترحات قبل القراءة الثانية والتصويت.
ولفت المالكي إلى أن محاولات عدة جرت في فترات سابقة لإجراء تعديلات على قانون المحاماة النافذ، لكنها لم تصل أبداً إلى سياق التشريع كما يحدث الآن. وزاد: "بذلنا جهوداً كبيرة لإقناع الكتل السياسية واللجان ورئاسة المجلس لأهمية المُضي بالمصادقة على مقترحات التعديل".
بدوره، يقول المحامي علي إحسان إن التعديلات المقترحة كلها مهمة، وستعيد لمهنة المحاماة شيئاً من مكانتها القديمة، ولا سيّما في ما يتعلق بممارسته للمهنة ومزاحمة المحامي من قبل وسطاء وسماسرة وكتاب عرائض في عمله، وعدم مسؤولية المحامي عن صحة المستندات التي يتسلّمها من موكله، وتمكين المحامي من الاطلاع على الأوراق والملفات لدى جهات التحقيق وسواها، ونسبة أجوره في الدعاوى والعقود التي ينظمها، وكذلك أجوره لدى الشركات التي يعمل مستشاراً لها.
وهو يشدد على أهمية قيام نقابة المحامين بالضغط على مجلس النواب، لضمان إدراج المواد التي تكفل حماية المحامين من الاعتداءات أو في الأقل الإبقاء على بنود القانون القديم مثل المادة 29 التي تنص على أنه "يعاقب من يعتدي على محامي أثناء تأديته أعمال مهنته أو بسبب تأديته بالعقوبة المقررة لمن يعتدي على موظف عام أثناء تأديته وظيفته أو بسبب تأديتها".
بعد أيام أو أسابيع من كل حادثة اعتداء صارخ على محام ينتهي الموضوع غالباً بتسويات جانبية دون معالجة جوهر المشكلة ودون تقديم الجناة إلى القضاء كونهم مدعومين من أحزاب أو قوى مسلحة أو جهات عشائرية، لينتهي الموضوع. وكما يقول المحامي طلال غانم: "هذه هي المشكلة الكبرى، يفلت الغالبية إن لم يكن الجميع من العقاب، ما يمهد لجرائم أخرى"
لكنه يخشى ألّا تتم أبداً قراءة مشروع قانون التعديل، قراءة ثانية كما حدث لقوانين أخرى عديدة مثل قانوني حماية الطفل والأسرة، بسبب عدم رغبة جهات نافذة في أن يكفل القانون حماية المحامي "لأن المحامي يعرف بأنه القضاء الواقف، ومنحه الحماية وضماناتها، يضر كثيراً بالفاسدين وهم يملأون المؤسسات الحكومية الرسمية وحتى غير الرسمية".
في 23 تموز/ يوليو 2024، عقدت اللجنة القانونية النيابية اجتماعاً ناقشت فيه العديد من مقترحات ومشاريع القوانين المحالة إليها، ومن بينها مقترح تعديل قانون المحاماة رقم 173 لسنة 1965 لعرضه على المجلس في القراءة الثانية.
سلاح منفلت
الأستاذ في كلية الرشيد الجامعة بالعاصمة بغداد، د. قاسم تركي الجنابي، يؤكد أن المادة (229) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، تعاقب بالحبس الذي تصل مدته إلى خمس سنوات كل من أهان أو هدد موظفاً أو مكلفاً بخدمة عامة أثناء تأدية واجبات وظيفته أو بسبب ذلك.
ويذكر في مقال منشور في موسوعة قرارات التمييز أن المادة ذاتها تعاقب كل من يعتدي بالإهانة أو التهديد على بعض أصحاب المهن ممن نصت قوانينها الخاصة على ذلك، كالاعتداء على الطبيب سواء حصل الاعتداء في المستشفى أو في عيادته الخاصة وذلك بموجب المادة (32/ ثالثا/ ا) من قانون نقابة الأطباء رقم (81) لسنة 1984. أو على المحامي سواء حصل الاعتداء في المحكمة أو في مكتبه الخاص وذلك بموجب المادة (29) من قانون المحاماة رقم (173) لسنة 1965. أو على الصحافي، إذا كان الاعتداء عليهم قد وقع أثناء تأدية المهنة أو بسببها.
ويوضح الجنابي أن الدعوى في مثل هذه الجرائم تُحرك بدون شكوى لأنها "من جرائم الحق العام، أي تتخذ الإجراءات القانونية بتحريك الدعوى الجزائية ضد المُتهم ولو لم يتقدم المشتكي بشكواه". ولا يُقبل الصلح والتنازل فيها عن المتهم لأنها ليست من الجرائم التي يتوقف تحريكها على شكوى المجني عليه، المنصوص عليها في المادة (3) من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كما لا يقبل الصفح عن المحكوم عليه فيها .
وفقاً لذلك، يجد متخصصون في القانون أن المشرع العراقي يوفر بالفعل الحماية للمحامين دون الحاجة إلى قوانين خاصة بذلك وفقرات محددة، لكن مع هذا يصر البعض الآخر على ذلك في ظل شيوع ما يعرف في البلاد بـ"السلاح المنفلت"، والذي انتشرت بسببه الاعتداءات على مختلف شرائح المجتمع.
أمين سر نقابة المحامين العراقيين أحمد الزيدي يُقدِّر أعداد المحامين الذين يتعرضون للقتل كمعدل سنوي من أربعة إلى خمسة محامين. أما الاعتداءات الجسدية واللفظية، فيقول إن معدلاتها تختلف بحسب بيئة المجتمع من محافظة إلى أخرى.
وهو يذكر بأن جهل المجتمع بعمل المحامي هو سبب الاعتداءات التي تحدث ضده، ويقول إن المحامي يعمل في بيئة خطرة، موضحاً "المجتمع تسوده الفوضوية وانتشار السلاح والنزعة العشائرية وبمجرد رفع دعوى لصالح موكل كأن تكون حضانة طفل أو نفقة، يجد المحامي نفسه أمام عقبات عديدة منها التهديد والوعيد عبر أرقام هواتف غريبه أو القوامة العشائرية أو يتعرض للتسقيط (التشويه) في مواقع التواصل الاجتماعي على صفحات وهمية".
ويُحمِّل الزيدي مجلس النواب المسؤولية عمّا يواجهه المحامي، لعدم تشريع قانون رادع يوفر له الحماية، ويحذر من ازدياد وتيرة الاعتداءات إذا بقى الوضع على ما هو عليه لأن قانون حماية المحامين قديم ولا يتناسب مع الوضع الحالي، على حد قوله.
ويضيف: "نحن بحاجة إلى مساعدة من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية من أجل تثقيف بعض فئات المجتمع بدور المحامين، بدءاً من موظفي المؤسسات الحكومية، فالبعض منهم يعدون المحامي منافساً لهم في أعمالهم، ويعلنون كرههم لمهنة المحاماة، وكثير من الموظفين ومدراء الدوائر يوقفون معاملات يتتبعها محامون".
وعن دور النقابة في حال تعرض محام للاعتداء، يقول الزيدي: "النقابة تكون طرفاً في القضية التي يكون أحد أطرافها محام، وهي تسهم من تلقاء نفسها في الجانب القانوني، وترسل ممثل قانوني، ولا تتنازل عن حق أي محام، إلا إذا كان موقفه ضعيفاً أو يثبت للنقابة أن دعوى الاعتداء شخصية ولا علاقة لها بالجانب المهني".
اعتداءات وتهديدات مستمرة
يقول المحامي نوزاد علي الذي تعرض لتهديدات وضغوط أجبرته على التخلي عن بعض الدعاوى، إن مهنة المحاماة تواجه مصاعب وتحديات كبيرة في المجتمع العراقي بسبب تعدد السلطات خارج المنظومة القانونية للدولة.
يوضح: "هناك سلطة حاملي السلاح سواء كانوا موالين للدولة أو ضدها، فبوسعهم قتل أي شخص في وضح النهار والمحامي ضحية مثالية إذا اعترض طريقهم، وهناك سلطة العشيرة التي تفرض أعرافها وأيضاً بقوة السلاح، وهناك الحزبيون والمقربون منهم وما يمتلكونه من نفوذ". يشير علي إلى أن بوسع أي من هذه السلطات التأثير على المحامي سواءً بالاعتداء الجسدي أو التهديد اللفظي بسبب دعوى توكل فيها "أنا شخصياً تخليت عن دعاوى عديدة توكلت فيها بسبب تهديدات تلقيتها من خصوم موكليني".
أما المحامي محمد أحمد، من نينوى، فيقول إنه تعرّض إلى مضايقات من الأجهزة الأمنية قبل سيطرة داعش على مدينة الموصل مركز محافظة نينوى في حزيران/ يونيو 2014، وكذلك بعد تحريرها من التنظيم في صيف 2017.
توكل أحمد في مناسبتين عن شخصين متهمين بالانتماء إلى جماعات مسلحة. "تلقيت تهديدات في المرتين من ضباط في الأجهزة الأمنية، أحدهم اتهمني بالانتماء لداعش مع أنني مجرد محامٍ أقوم بعملي الذي يكفله القانون، كما أنني أصلاً من المتضررين من داعش لأنني نزحت عن المدينة لأكثر من ثلاث سنوات وفقدت العديد من أقاربي وأصدقائي الذين قتلهم التنظيم الإرهابي"، يقول.
ويذكر أحمد أن الجماعات المسلحة قبل 2014، كالقاعدة وبعدها داعش، كانت تهدد المحامين وتبتزهم، وكذلك الحال بعد 2017، إذ نشطت عصابات ابتزت بعض المحامين بذريعة انتمائهم لميليشيات الحشد الشعبي. يقول عن ذلك: "حتى مراكز الشرطة تتجنب استلام شكوى بهذا الخصوص أو التعامل معها وفقاً للسياقات القانونية، لأن سلطات بعض الجهات أقوى من الجهات الأمنية القانونية".
يؤكد محامون من العاصمة بغداد، لمعديّ هذا التحقيق، أن مهنتهم باتت خطرة، بما في ذلك العمل في القضايا غير الأمنية أو المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية والخصومات المالية والتجارية. لقد بات هذا النوع من العمل مقلقاً، ولا يمكن التنبؤ بمن قد يهدد المحامي.
يؤكد محامون من العاصمة بغداد لمعديّ التحقيق أن مهنتهم باتت خطرة، فحتى العمل في القضايا غير الأمنية أو المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية والخصومات المالية والتجارية، باتت أمراً مقلقاً، ولا يمكن التنبؤ بمن قد يهدد المحامي.
يقول المحامي أحمد سالم، وهو متخصص في الدعاوى المدنية: "الأمر بات كارثياً ولا يمكن لأحد مواجهة كل هذه السلطات التي تتحرك خارج القانون". ويتساءل: ماذا يمكن أن تفعل النقابة حيال ذلك؟ ويجيب على نفسه: "لا شيء". ثم يضيف: "كل قادة ومسؤولي الحكومات المتعاقبة يعرفون ذلك ويسكتون، وهذا ما يعمق المشكلة". في أواخر 2022، خرجت المحامية دعاء الطائي، على وسائل الإعلام لتكشف عن اعتداءات تعرضت لها في دائرة الإقامة بالعاصمة بغداد، من قبل ضابط برتبة عميد في قسم إقامة الأجانب، مؤكدةً تعرضها والعديد من زميلاتها قبل ذلك إلى التحرش والتضييقات خلال ممارستهن عملهن. فأمر وزير الداخلية عبد الأمير الشمري إثر ذلك بفتح تحقيق في الحادث، وإفراغ كاميرات المراقبة في دائرة الإقامة والاستماع إلى الشهود.
بعد الحادثة، ورغم صدور أمر قضائي حينها باستقدام الضابط وفق أحكام المادة (230) من قانون العقوبات العراقي، ومفاتحة مراجعه بذلك، إلا أن مجلس نقابة المحامين قرر إغلاق غرف المحامين في محاكم قوى الأمن الداخلي كافة، وإيقاف الانتداب وتوجيه المحامين إلى الامتناع عن الترافع فيها، احتجاجاً على الواقعة.
نقيبة المحامين، اللامي، تقول إن الاحتجاج هذا لا يتعلق بحادثة الاعتداء على المحامية دعاء الطائي فقط، بل هو رسالة "يجب أن يفهمها الجميع، مفادها أن النقابة والمحامين لن يسكتوا عن أي تجاوز بحقهم".
وأصدرت النقابة آنذاك بيان شجب واستنكار لحادثة الاعتداء، عبّرت فيه عن استغرابها من أن يصل الأمر إلى أن يُعتدى على محامية عراقية بعد أن راجعتْ مديرية الإقامة العامة "وأن يجعل منها المعتدي بعد ذلك، متهمةً ويزج بها في خانة الاتهام، والتوقيف، مستغلاً بذلك شكوى اعتاد بعضُهم على اصطناع أدلتها لعلمه بما سيؤول الأمرُ إليه، كي يحمي جريمته فهذا ما لن نسكتْ عليه، ولن نمرره مرورَ الكرام".
رغم موقف النقابة ذلك، لكن الواقع على الأرض يظهر عجزها عن القيام بأي تحرك يوقف التجاوزات والاعتداءات المتكررة التي تقوم بها جهات نافذة داخل مؤسسات الدولة أو قوى خارجها.
في نيسان/ أبريل 2023، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بخبر تعرض المحامية حنين الطائي، إلى إصابات إثر طعنها بالسكاكين في حي الجهاد غرب العاصمة بغداد، وذلك بسبب دعوى قضائية توكّلت فيها.
ذكرت المحامية أنّ الشخص الذي هاجمها وينتمي لجهة مسلحة، قام لاحقاً بسلب هاتفها، ووضع شريحة هاتفها في جهاز آخر وحذف مناشداتها التي وجّهتها بشأن الاعتداء، وهدّد بنشر صورها المتوفّرة على تطبيق "سناب شات".
وأضافت أن المعتدي سبق أن أرسل ستة أشخاص إلى منزلها واعتدوا على عامل لديها، ودعت الجهات القضائية إلى مساعدتها لأنها لم تعد تأمن على حياتها وحياة أفراد عائلتها بعد الآن.
المحامية حنين الطائي تتحدث عن الاعتداء عليها.
بعد أيام أو أسابيع من كل قضية تتم إثارتها، وترتبط باعتداءات صارخة على محامين، ينتهي الموضوع في الغالب بتسويات جانبية دون معالجة جوهر المشكلة ودون تقديم الجناة إلى القضاء كونهم محميين من أحزاب أو قوى مسلحة أو جهات عشائرية، لينتهي الموضوع. وكما يقول المحامي طلال غانم: "هذه هي المشكلة الكبرى، يفلت الغالبية إن لم يكن الجميع من العقاب، ما يمهد لجرائم أخرى".
وقفة احتجاجية ضد الاعتداءات على المحامين في العراق.
حيازة المحامين للسلاح
أمين سر نقابة المحامين، الزيدي، يقول إن وزارة الداخلية سمحت منذ عدة سنوات للمحامين بحيازة السلاح "معاملة الحصول عليها سهلة، ويتم ترويجها عبر النقابة". ويستدرك: "مع أن حمل المحامي السلاح حل ترقيعي، هناك من يجده ضرورياً. فبعد السطو على منزله أو مهاجمته سيضطر إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه".
في هذا الصدد، يقول القاضي سالم روضان إن حق المحامي في حيازة السلاح الناري مكفول بموجب المادة (6) من قانون الأسلحة رقم 51 لسنة 2017، إذ أجازت لأي مواطن وليس المحامي فقط، أن يقدم طلباً لمنحه إجازة حيازة وحمل السلاح الناري بعد توفر بعض الشروط اللازمة.
وبذلك، فهو ينفي ضرورة تشريع قانون خاص يتيح للمحامي حمل السلاح حيث يرى أنه لن يكون فعالاً لحماية المحامي من الاعتداء، ما دام لا توجد "قوى فعالة وحقيقية في إنفاذ القانون وتأمين الحماية للجميع".
والمحامي وفقاً لرؤيته، لديه مهام يصفها بـ"النبيلة والسامية" تتعلق بحماية الحقوق والحريات "عبر الحجة والدليل والفكر النير وغيرها من أدوات العقل والتفكير وليس بالسلاح". لذلك، يعتقد القاضي روضان أن تشريع قانون إضافي لحمل السلاح "سوف يسهم في جعل السلاح بأيدي الأفراد وليس بأيدي السلطات المختصة".
ويتابع القاضي بأن المنظومة التشريعية لا يوجد فيها قانون بعنوان "قانون حماية المحامين" مثلما عليه الحال في قانون حماية الأطباء، ويشير إلى أن قانون العقوبات النافذ رقم 111 لسنة 1969 وقانون المحاماة وفرا النصوص القانونية التي تؤمن الحماية القانونية لمهنة المحاماة وعمل المحامي، ووردت فيهما نصوص قانونية تحفظ حقه وكذلك حياته أثناء ممارسته لمهنته.
لذا، يعتقد روضان أن النصوص القانونية النافذة كافية لتأمين الحماية للمحامي وغير المحامي، في ما لو تم تفعيل الجهات المكلفة بحماية المواطن أياً كان وصفه، وهذه الجهات هي القوات الأمنية المكلفة بتوفير الأمن الشخصي والجماعي لكل من يقيم في الأراضي العراقية، وفق المادة (1) من قانون واجبات رجل الشرطة رقم 176 لسنة 1980.
"صهيب، ب"، محام متمرس من محافظة الأنبار، عمل في مهنة المحاماة لنحو 30 عاماً. لكنه بسبب حادث تعلق بمهنة المحاماة، اضطر إلى مغادرة البلاد ليستقر منذ 2018 في إسطنبول بتركيا.
يقول لرصيف22: "أنا من قرية في الصقلاوية بالأنبار، ومعروف هناك بمساعدتي للناس. ذات يوم، طرقت سيدة بابي، تشكو لي ابنها الذي طردها من بيتها، وذكرت أنه تلاعب بها، بعد أن جعلها توقع على تنازل عن الدار التي كانت مسجلة باسمها في التسجيل العقاري، وأرادت مني استرجاعه لها".
يضيف: "في اليوم التالي، كنت أنتظر قدومها من أجل أن نذهب إلى كاتب العدل لإجراء وكالة، وعندما طرق الباب وفتحته، وجدت عدة أشخاص غاضبين يحملون سكاكين وهراوات أمام باب بيتي، وانهالوا عليّ بالضرب أمام زوجتي وبناتي. أصبت بجروح وزوجتي بمرض السكري جراء الصدمة من الحادث".
بعد ذلك اضطر المحامي صهيب، لحمل مسدس معه أينما ذهب فقد تلقّى تهديدات بالقتل إن حرّك ضد المعتدين عليه شكوى، ولم يستطع العودة إلى عمله، فعائلته باتت ترى أن كل قضية يمكن أن يواجه فيها مصيراً مماثلاً.
لم يصمد المحامي طويلاً أمام إصرار عائلته على ترك البلاد بأسرها، فباع منزله وما يملك من عقارات، وهاجر وأسرته إلى تركيا دون عودة. وقد هجر العشرات من المحامين الباقين في البلاد مهنتهم إلى مهن أخرى خوفاً من ملاحقات واعتداءات القوى النافذة في الدولة التي تشهد ضعفاً في تطبيق القانون عبر أجهزتها التنفيذية.
*أُنجِز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ومنظمة سي إف آي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم