شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"إنك ذاهب إلى البار"... على طريقة يوسف رخا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الخميس 8 أغسطس 202405:21 م

يختتم الشاعر والروائي يوسف رخا ثلاثية "الحب... الثورة... والموت" بنصه الروائي الجديد "إنك ذاهب إلى البار"، الصادر عن دار المتوسط عام 2023. بدأ رخا (مواليد 1976) هذه الثلاثية برواية "التماسيح" (دار الساقي، 2013) التي تناولت الحب والشعر، وتلتها رواية "باولو" (دار التنوير، 2016) التي تناولت العنف والفوتوغرافيا. ينتهي من ثلاثيته السينمائية بروايته الأخيرة "إنك ذاهب إلى البار" التي تتناول الموت والغناء.

هل كانت النصوص الثلاثة مخططاً لها منذ البداية أن تكتمل في ثلاثية تلخص الحياة والموت؟ أم أنها اكتملت طبقاً لمنهج المدرسة الهيجلية، حيث تطور المفهوم من صورته البدائية في الحب إلى نقيضه المتمثل في الثورة، ثم كان لابد من إتمام المشهد كما لو أنه يعود للحب مرة أخرى بصورته الأسمى والأنقى من خلال الموت؟

لماذا نذهب إلى البار؟

يبدأ النص بتحرك البطل نحو البار في مشوار غامض يتغير فيه الطقس كل عدة خطوات، ويتأرجح الزمن بين الماضي والمستقبل. للوهلة الأولى، قد تظن أن الذهاب إلى البار هنا أمر روتيني يفعله البطل ببساطة لتحسين مزاجه بشرب النبيذ المفضل، أو لأن السعادة تبدو ناقصة دائماً وتحتاج إلى إكمالها ولن يحدث هذا الأمر إلا بعد أن تثرثر مع صديق مثل "أمجد صلاح" الذي يجلس قبالتك لتلمس كأسه كأسك. ثم يكتشف الجالس في البار أنه يُحدث نفسه وأنه يشرب خصيصاً لكي تجلس ذاته أمامه، وترضخ للحوار العفوي المسكوت عنه طيلة اليوم ربما بسبب الخجل أو الارتباك.

في روايته "إنك ذاهب إلى البار"، يعالج يوسف رخا مفهوم الموت والغناء كختام لثلاثية حب، ثورة، موت. يبدأ البطل رحلته إلى البار في طقس غامض، متأرجحاً بين الحاضر والماضي، ما يعكس رحلتنا في البحث عن السعادة ومعاني الحياة. قراءة الرواية تقدم تجربة تحوّلية تعيد النظر في واقعك وتجعلك تتساءل عن معاني الحياة والموت

تذهب إلى البار أيضاً لتنفض أسد التعاسة الضخم الذي يراه البطل من وقت لآخر، هذا الذي يحمل نفس ملامحه لكن مع وجود نار خضراء تحيط بالرأس. ولن تتخلص من وجوده الناري الثقيل سوى باحتساء بعض الكؤوس التي لن تعرف عددها إلا حين يتبدد دخان الذاكرة أمامك في "بار مون".

أما العبور من باب البار الضيق، فيبدو كمن يجتاز برزخاً نحو العالم الآخر. فها هي فصوص الألماظ تبرق على الأرضية تذكرنا بالنور الذي يصفه العائدون من الموت، إذ يؤكد أغلبهم أنهم شاهدوا النور في نهاية النفق. تبدو هنا سكرة الموت ألذ كثيراً من نبيذ فاخر تشربه مع صديق، وإلا فلماذا تدفع باب البار الأخضر بقدمك لكي تثبت أنك ذاهب إلى الموت بثقة المتخلص؟ المتخلص من شوشرة تحيط بجسدك المادي وضباب أبيض، وصفه الراوي بذلك التشويش الذي كان يملأ شاشة التلفاز بعد انقطاع الإرسال في الثانية عشر مساء في ثمانينيات القرن الماضي. وكأن الحياة تحولت لمشهد غائم والموت هو الجلاء البصري المنشود.

وكما يؤكد العائدون من الموت أيضاً أن مشاهد حياتهم تتابعت أمامهم كفيلم سينمائي، يؤكد البطل أنه لم يختر أن يستحضر المَشاهد وكأنه يفتقد فعل الإرادة ومتعة الانتقاء. أنت هنا ذراعاك إلى جانبك تستقبل أكثر من أن تقرر، فيتذكر دخوله البار في السابعة عشرة من عمره مدعياً نسيان البطاقة مع صديقة تكبره بسنوات – سينعكس الأمر في وقت نضجه ليقع في غرام باولو الذي يصغره بسنوات – وكأن الانسجام التام الذي طالما تمناه في علاقة عاطفية لم يتحقق أبداً، وفي كل مرة لا يحصد إلا الألم حتى لو كان هذا الألم متمثلاً في كوب من الماء المثلج تسكبه زوجته على وجهه لتوقظه من النوم وهي تضحك دون معنى فيتركها إلى الأبد.

النور بطلاً موازياً

كل ما يقودنا إلى النور سيدلنا عليه بطل الرواية لنكتشف أن الأضواء التي تلمع وتنطفئ هي نفسها معدات الإضاءة اللازمة لصنع فيلم سينما. بداية من شعر الحبيبة الأحمر الذي يتوهج في ذاكرته، أو ملامح باولو التي وصفها بأنها هي الضوء الذي يرى فيه الدنيا.

بين نور البار الخافت الذي يسبغ غموضاً على الحكايات والنور الذي يعمي عينيه حين يتذكر الدخول بكامل ملابسه في البحر، ستتحرك شخوص الرواية. حتى الظلمة ستلمع في النهاية بطريقة تتيح الرؤية كأنها نور أسود. كما لو أن الحياة منذ بدايتها وحتى تتر النهاية مجرد حبال من نور، نفكر أننا نستطيع أن نتمسك بها كلاعبي السيرك ثم نكتشف أنها مجرد ضوء وأن نجاتك في إفلاتها.

وكما يعود الحب حين يتأهب البطل للموت، سيعود الشعر أيضاً (موضوع الجزء الأول من الثلاثية) وسنصادف يوسف رخا الشاعر في أكثر من موضع في الرواية. يقول (نايف) واصفاً حالة قلبه في قصيدة مكتملة تماماً تتخلل السرد:

"كان كأنه كلب حبيس شمّ صاحبه على مسافة، تخيل ذلك يا نايف قلبك يهز ذيله ينبح ويهز ذيله بسرعة جنونية وعندما استسلم لحنان كفك تذكرت المشهد، بدا الخواء في صدرك مثل عدم حدوثه بالضبط وكان وراء عينيك بحر." ("إنك ذاهب إلى البار" 2023. يوسف رخا. صفحة 82)

وعلى الرغم من وجود الغناء بجانب الشعر في الرواية حيث يتردد خلال السرد مونولوج شهير لإسماعيل ياسين – الكوميديان المصري المعروف – عن معنى السعادة، سنجد عبارات منه موزعة على الفقرات مع إضافة عباراته الكوميدية المألوفة (مثل جملتيّ "يا صلاة النبي" أو "فتشني فتش"). إلا أن الكاتب لم يستخدم الأسلوب الغنائي في السرد، بل استخدم الأسلوب الدرامي حيث يسيطر الإيقاع بمستوياته الزمانية والمكانية قبل الحدث كمادة، وإن تداخل معه الأسلوب السينمائي حيث يكون المنظور هو المهيمن على المشهد كما يتصوره الراوي.

أعضاء مثقوبة وحواس معطلة

سنشاهد في البار عازف الأكورديون الأعمى لكنه يسمع ما يعزفه، بينما البارمان يرى موضع الكأس لكنه يقدمه دون كلمة لأنه أخرس. هل تحتاج إلى حواسك مكتملة إلا في لحظات الحب؟ حين وقع البطل في غرام الملاك (باولو) بدا وكأنه توطئة للذهاب إلى عالم آخر صُقلت حينها حواسه كلها، صارت مثل مرآة ينظر من خلالها إلى نفسه بوضوح، فهكذا تبدو بدايات الحب.

هل كانت النصوص الثلاثة مخططاً لها منذ البداية أن تكتمل في ثلاثية تلخص الحياة والموت؟ أم أنها اكتملت طبقاً لمنهج المدرسة الهيجلية، حيث تطور المفهوم من صورته البدائية في الحب إلى نقيضه المتمثل في الثورة، ثم كان لابد من إتمام المشهد كما لو أنه يعود للحب مرة أخرى بصورته الأسمى والأنقى من خلال الموت؟

في البار أيضاً هناك ثلاثة أشخاص يشعرون أنهم يفتقدون شيئاً، لكنهم مستمرون في الضحك والشرب بينما تنبح الكلاب بالخارج، يريدون وجبة الأكباد الطازجة، ثم نرى الأجساد مجوفة وخالية من أكبر الأعضاء الحيوية في الجسد "الكبد"، وكأن العضو المسؤول عن التعامل مع الكحول الذي يملأ البار غير موجود، في تصور عبثي عن كيفية الحياة بدون أدوات النجاة. بينما يبدو الكف المثقوب وكأنه إشارة إلى آلام المسيح المصلوب القابض على ألمه.

فقد يقضي الإنسان عمره مصلوباً يعاني من كف ينزف دماء بطعم الملح والحديد، قلب يُظلم ثم طعنة تتبع قبلة يهوذا. فماذا لو كان الذهاب إلى البار هو مجرد قراءة في لوحة العشاء الأخير؟ إنها المشهد الذي يسبق النهاية بقليل لكنه يلخص كل شيء.

تتداخل الأصوات في الرواية، فالراوي الذي يتساءل لو كان يعرف أحداً اسمه (نايف) سنكتشف في منتصف الرواية أنه هو نفسه (نايف) وأن الملاك الحبيب هو باولو – بطل الجزء الثاني من الثلاثية – وأن أمجد الذي يعاني من معضلة الزمن المفقود هو الوجه الآخر للبطل. ولن تمر عدة صفحات إلا ويذكرك الراوي أنها منطقة تشويش:

"تشششش خخخخ يييييييييييي تتتشششششششششششششش تشش ييييييييييييييير تتتتتتتتتتتتتتس"

فربما يكون المشهد ليس كما يحكيه، ربما لم يحدث أصلاً، أو أنه قد حدث لكن قُطع الإرسال قبل مشهد النهاية، المشهد الذي يفسر لنا كل شيء. وماذا أراد الإنسان منذ بدء الخليقة سوى تفسير؟ ربما هناك زاوية أخرى محجوبة كان يمكن الحكي من جهتها، مثل "الشيخ في خلفية البار يرانا ولا نراه".

حوذي نيتشه من الحصان إلى الكلب

كما جاء انهيار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حين لمح حوذياً يضرب حصانه بقسوة فذهب ليمنع الأذى عن الكائن الضعيف مما أدى لانهياره العصبي وتم نقله إلى المصحة العقلية، انهار أمجد تماماً حين كان يدفن كلبه قبل أن ينقض على سائق التاكسي، وكأنه هو الذي قتل كلبه (أزنافور). هذا الانهيار الذي يسبق العودة للمصحة العقلية:

تذهب إلى البار أيضاً لتنفض أسد التعاسة الضخم الذي يراه البطل من وقت لآخر، هذا الذي يحمل نفس ملامحه لكن مع وجود نار خضراء تحيط بالرأس.

"كان يرتعش ويصرخ ولما انتبه إليه سائق التاكسي فتوقف وأقبل بنية مساعدته صفعه أمجد ثم شد رأسه إلى أعلى وقبض على عنقه بيده وهو يقول يعني الكلب المسكين له ذنب في حكايتكم الكلب المسكين يا كفرة ولم يترك سائق التاكسي حتى تمكن الأخير من التقاط حجر ضربه به كانت أكثر من عربة توقفت ومن قسم البوليس ذهب أمجد مباشرة إلى المصحة العقلية". (صفحة 65)

فهل تلتقي الذوات كلها، تتقابل قبل النهاية كي تلتئم جروح الوجود المادي أخيراً؟ (أمجد، نايف، باولو، الملاك فتصبح واحداً مكتملاً قبل الذهاب إلى البار).

"يعني كعلاج لمرض الوجود لا تحس الحب مختلفاً في حقيقته عن الموت لأنك في ذلك المكان تعتقد أنه لا يجيء إلا من شخص لا يعول عليه، لا تستشعر أملاً فيه حتى تتعلق بوضع مستحيل يصبح حافة الشباك التي تطولها يداك وأنت على وشك أن تسقط". (صفحة 77)

فهل مات نايف في حادثة على الطريق السريع نفسه أم مات قلبه فقط في نفس المكان حين خذله باولو، كما لو كانت النهايات متشابهة والألم واحد؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image