عن محمد عبده وكاظم الساهر والفرق بينهما "أخلاقياً"، وعن هوية السيّاب "الخليجية/العراقية"، وعن ذكرياته مع والدتها، صاحبة عنوان ديوان السيّاب الشعري "إقبال"، وعن أحوالهم في أيام بدر شاكر السياب الأخيرة، تحدثت إلينا آلاء بدر شاكر السياب.
هي من مواليد البصرة عام 1961، متزوجة، تتنقل بين البصرة وإسطنبول مع عائلتها التي تماثل عائلة والدها بدر شاكر السياب. لديها ابن يُدعى "مصطفى" وابنتان هما "ميس" و"ديمة"، كما كان للسياب ابن يُدعى "غيلان" وابنتان هما "غيداء" و"آلاء". تحاورنا مع آلاء عن بُعد، كما هو حال أغلب العراقيين في المهجر، فجرى هذا الحوار بين هلسنكي، العاصمة الفنلندية، والبصرة.
السيدة آلاء بدر شاكر السياب، يبدو لي أن تجربتكم مع والدكم بدر شاكر السياب، كانت مجتزأةً بسبب رحيله المبكر جداً عن الحياة العائلية والساحة الأدبية. هل يمكن القول إن ما تحفظونه من ذكرى له جاءت من الوالدة والأخ غيلان والأخت غيداء؟ بمعنى آخر، هل رسموا لكم صورةً "هولوغرامية" حيةً للوالد السياب، ومنها جاءت تجربتكم معه كشاعر وراحل؟ من خلال حديث الوالدة زوجة السياب (إقبال طه العبد الجليل 1937-2024) لها الرحمة، كيف رأيتِ السياب وما الذي لا نعرفه عنه وتودّين أن تقوليه حصرياً لنا في لقائنا هذا؟
ولادتي كانت في مرحلة سفر الوالد وبحثه عن العلاج، لذا ذكرياتي عنه شحيحة جداً، خصوصاً أنني كنت ابنة ثلاث سنوات ونصف، والذكرى الوحيدة التي امتلكها هي وداعنا إياه أنا وإخواني في مطار البصرة حين غادر إلى الكويت في رحلته الأبدية.
كانت والدتي رحمها الله تروي لنا مدى حبّه وعطفه الكبير علينا، وكيف أنه كان يعود من عمله محمّلاً بالألعاب وأنواع السكاكر والشوكولاته. كان يحكي لنا حكايات ما قبل النوم، التي كانت من وحي خياله، وكان أبطالها بعض أهل قريته من الأقارب والجيران.
لو لم تكوني ابنةً للسيّاب، هل كنت ستعجبين به كشاعرٍ وتتأثرين، بعيداً عن صلة الرحم التي تربطك به، بمعنى صلة الثقافة والأدب فقط؟
أعتقد ان كل من قرأ السياب تأثر بشعره المحمّل بالشجن والحزن، وهما صفتان لصيقتان بتركيبة الشخصية العراقية. كان شعره ترجمةً حرفيةً لمعاناة بني البشر حيث الظلم والفقر والاضطهاد واستبداد الأنظمة الحاكمة، وذلك كله في صور شعرية محلّقة، وبلاغة لغوية جميلة بإيقاع متناغم وخزين معرفي يشكّل قيمةً فكريةً عالية المستوى.
كعائلة وورثة لحقوق السيّاب الأدبية، هل تمّ الاستئذان منكم من قبل محمد عبده (فنان العرب)، عندما غنى "أنشودة المطر" عام 1992؟ وهل استأذنكم لتبديل كلمة "سواحل العراق" بـ"سواحل الخليج" في الأغنية؟ وهل لكم نسبة معيّنة من عائد كل حفلة مشاهدة أو استماع إلى الأغنية عبر الإنترنت حسب بروتوكول "حق الأداء العلني" للحقوق الفنية والتجارية الخاص بمنصات البث في الإنترنت، مثل يوتيوب وغيرها، والذي يضمن لورثة المبدع نسبةً ثابتةً عدا عن "الحق المعنوي" للشاعر؟ وماذا حدث مع كاظم الساهر وسعدون جابر وفؤاد سالم الذي غنّى "غريب على الخليج"، وكل من لحّن أو غنّى قصائد السيّاب؟
لم يتم الاستئذان منا قبل غناء القصائد، لا من قبل محمد عبده، ولا من قبل أي مغنٍّ أو ملحن آخر باستثناء الأستاذ كاظم الساهر الذي اتصل بالعائلة وحصل على موافقتنا لغناء قصيدة "لا تزيديه لوعةً". وعليه، مسألة الإيرادات أو النسب غير واردة بالتأكيد.
تذكر لنا جدّتي "نجيبة الضاحي"، وهي "مرتّلة للقرآن"، أنها أحيت عزاء السيّاب للنساء في البصرة في عام 1964، وأن عائلة السياب كانت كبيرةً وميسورة الحال كما أن لها نسباً مع عبد الرحمن الكامل، الثري المعروف في البصرة. هل يتعارض هذا مع سردية وفاة السياب فقيراً ومَديناً، وسردية إيجار المنزل التابع لمصلحة الموانئ، وإبلاغها إياه بإخلائه، والكثير مما حُكي عن الضائقة المادية في أيام السياب الأخيرة؟
هناك الكثير من المعلومات المغلوطة التي نُشرت دون تثبّت عن قصد أو من دونه. الوالد كان موظفاً في مصلحة الموانئ العراقية، وكنا نسكن داراً تابعةً للمصلحة حال جميع الموظفين في تلك المصلحة، ونظراً إلى سفريات الوالد الكثيرة خارج البلاد من أجل العلاج، فقد استنفد جميع إجازاته الاعتيادية والمرضية ما عرّضه للفصل، وبذلك توجّب إخلاء الدار وفقاً للّوائح والقوانين التي تحكم مصلحة الموانئ.
كيف تلمسين تعاطي البصرة وأهلها معكم كورثة لأيقونة اسمها السيّاب؟ هل هناك حفاوة ما أو افتخار من البصريين بوالدكم، حتى من الناس العاديين ومن هم بعيدون عن الشعر؟ خاصةً أن تمثاله شاهد وعلامة في موقع بارز على ضفاف شط العرب، يذكّر به في كل لحظة. كذلك، برأيك، لماذا لم يرث أحد من السيّاب عبقريته الأدبية وموهبته السابقة لزمنها؟
يحظى اسم السياب بالاحترام والتقدير من عموم البصريين الذين يفخرون به شاعراً بصرياً مجدداً، فهو الذي استطاع ليّ عنق القصيدة العربية القديمة وهو واحد من أبرز مؤسسي الشعر الحرّ وقد مهّد الطريق لأجيال أتت بعده. أمّا لماذا لم يرث أحد عبقرية السياب، فحكمة وإرادة ربانيتين. ربما ليكون السياب هو المتفرد.
أعتقد ان كل من قرأ السياب تأثر بشعره المحمّل بالشجن والحزن، وهما صفتان لصيقتان بتركيبة الشخصية العراقية. كان شعره ترجمةً حرفيةً لمعاناة بني البشر حيث الظلم والفقر والاضطهاد واستبداد الأنظمة الحاكمة
أخي غيلان يكتب الشعر بأسلوب عذب قريب جداً من أسلوب الوالد، لكنه لا يصنّف نفسه شاعراً بل متذوقاً للشعر، وربما يعود سبب ذلك إلى أن أبناء المشاهير لا يُنصفون ونجاحاتهم تُنسب إلى آبائهم، وكذلك فشلهم.
ماذا تعني لك بيئات كالبصرة، أبو الخصيب، وجيكور، كمواقع جغرافية معيشية وكمواقع شعرية خيالية نسجها السياب؟ هل تغيّرت الديموغرافيا وزالت القيم والخصوصيات القديمة؟ وماذا حلّ بدلاً منها؟ وكيف يؤثر ذلك على تداول أسطورة بدر شاكر السياب الشعرية بين الأجيال القادمة ومدى اهتمامها بتراثه الأدبي؟
أبدأ من جيكور، فهي المحور الذي تدور حوله كل العناوين التي ذكرت، هي اللبّ وهي النواة وهي المهد ومكان ولادة أبي وملعب طفولته ومرتع شبابه. هي الأم ومثواها وهي أحد الأعمدة التي قام عليها شعر الوالد. بالتأكيد تغيّرت ديموغرافيا جيكور، حالها حال مدن وقرى العراق الأخرى، فلم تعد للقرى والمدن سماتها الخاصة، وقد تنبّأ الوالد بشيخوخة مبكرة لجيكور، فقد شابت وتغضّن وجهها الجميل.
برغم التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم، إلا أن الثقافة في انحدار ملحوظ، فقد أصبح اللهاث خلف المادة والاهتمام بترف الحياة همَّ أغلب الناس لذلك يمكن أن ينحصر اهتمام الأجيال الجديدة بالشعر والأدب في فئة محدودة هي فئة المشتغلين بالشعر والمنشغلين به.
أين أصبح تراث السيّاب الفوتوغرافي والصوتي؟ هل يمكن إنشاء متحف يضمّ مخطوطات السياب وصوره؟ لماذا لم يُجسَّد السياب في الدراما العراقية؟
اختفى معظمها، إذا لم أقل كلها. الصور الفوتوغرافية للوالد التي كانت في حوزتنا كانت تُسرّب تباعاً مع كل مقال أو لقاء صحافي يتناوله، ولم نستعِد أياً منها برغم وعود من استعارها بأنها ستُردّ. أما في ما يخص المتحف فكل شيء ممكن، لكن بشرط أن يكون العمل جادّاً ومخلصاً والنوايا صادقةً، وأن يضمّ ما تبقّى من مقتنيات تخص الوالد عندنا وعند الآخرين. وسيكون هذا المتحف الذي كثر الحديث عنه أمراً واقعاً.
أما لماذا لم تجسَّد حياة الوالد في الدراما العراقية، فأنا شخصياً ضد ذلك، لأن تجارب تناول حياة الشخصيات الأدبية أو الفنية في أعمال درامية كانت فاشلةً، وأثارت الكثير من المشكلات والنزاعات، ربما بسبب بعض الفانتازيا والبعد عن الحقائق التاريخية، وعموماً أرى أنّ ما يهمّ الناس من المبدع، سواءً كان فناناً أم شاعراً أم روائياً، هو نتاجه. أما حياته الخاصة فهي ملك له.
لو تخيلنا أن الشاعر بدر شاكر السياب امتدّ به العمر، ولنقل إنه لا يزال يعيش بيننا، وإنه شهد كلّ حروب وفواجع وحضارات العراق وانهيار الدولة وانحدار منظومة القيم المجتمعية، هل سيكون ثمة تأثير لهذا على أدبه؟ وكيف سيكون موقفه برأيك؟
اختفى معظم تراث السياب، إذا لم أقل كله. الصور الفوتوغرافية للوالد التي كانت في حوزتنا كانت تُسرّب تباعاً مع كل مقال أو لقاء صحافي يتناوله، ولم نستعِد أياً منها برغم وعودِ من استعارها بأنها ستُردّ
من يحمل هموم شعبه ووطنه لن تغيّره السنوات مهما طالت، وبالتأكيد ستكون قصائده ملاحم وطنيةً، وهو القائل في قصيدته "الوصية":
"يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال
بين المعابرِ والسهول وبين عاليةِ الجبال
أبناء شعبي في قُراهُ وفي مدائِنهِ الحبيبة
لا تكفروا نِعمَ العراق".
في زمن الفحولة الشعرية العمودية العراقية والعربية في خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت شجاعة والدِكم الشاعر سبباً في كسر بنية القصيدة العمودية الموروثة منذ زمن امرئ القيس، هذه الشجاعة والمغايَرة للموجة العامة غيّرتا مصير الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة والشعر الحر. كانت ثورةً ومخاطرةً ومواجهةً للقديم بكل إرثه. لكن هل يتناقض هذا مع انكسارات بدر شاكر السياب الشخصية والحياتية والأزمات الجسدية والنفسية والمادية التي مرّ بها وأفنت صحته وطاقته؟ ومن أين استطاع هذا البصراوي النحيل، أن يجد القوة لهذا التغيير في عالم الشعر العربي الذي يتابعه مليار شخص على الأقل؟
هنا تكمن عبقرية الشاعر وقوته، فهو درَسَ الشعر الإنكليزي في أثناء دراسته في دار المعلمين العالية، وأُعجب به وتأثّر، واستطاع أن يكتب قصيدةً جديدةً خارج خريطة القصيدة العربية التقليدية، فقد وظّف الأساطير الإغريقيّة اليونانية وقصص قوم عاد وثمود التي وردت في الكتب السماوية، ووظّف ما سمّيته انكساراً ليكون قاعدةَ انطلاقٍ قوية ورصينة غيّرت مجرى الشعر العربي.
تنتمي أبو الخصيب ديموغرافياً إلى ثقافة وطباع وسوسيولوجيا شعوب الخليج العربي، كما تنتمي مدينة الزبير في البصرة إلى البيئة النجدية. والمفارقة، جاء الشاعر السياب من أبو الخصيب، وجاء الشاعر محمود البريكان المجايل للسياب، وهو رائد من رواد الشعر من مدينة الزبير. هل يمكن أن يفسر هذا الانتماء الجغرافي والثقافي الحنين الروحي في قصائد السياب للبحر وشواطئ الخليج، ويفسر لجوء السياب إلى الكويت كمنفى اختياري حتى وفاته هناك في المستشفى الأميري، في 24 كانون الأول/ديسمبر 1964؟ وهل يرى أهل الخليج السياب شاعراً خليجياً أكثر منه عراقياً؟ هل يمكن التحدث عن السياب بصفته "إقليمياً"، بعيداً عن صفته العراقية والعربية المعروفة؟
الشاعر ابن بيئته فهو يختزن منها ومن موروثة ليوظف ذلك في نتاجه الأدبي. وبما أن البيئه العربية تكاد تكون متشابهةً إلا في بعض الخصوصيات البسيطة، والتي تكاد لا تذكر ولا تشكل ذلك الفارق الكبير. السياب ابن قرية في جنوب العراق تغفو على ضفاف شط العرب ودار جدّه التي يسكن فيها كانت على أحد الأنهار المتفرعة من شط العرب، لذا لم يكن الخليج الذي جلس عنده في إحدى الأمسيات وكتب قصيدته "غريب على الخليج" أقول لم يكن ذلك الخليج بعيداً عن بيئته والكويت لم تكن منفى اختيارياً بل كانت أملاً، وإحدى المحطات الكثيرة التي زارها طلباً للشفاء وشاء القدر أن تكون محطته النهائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 12 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي