صلاحية جواز سفري تنتهي عند الحدود، وقيمة عملة بلادي تكاد تكون معدومة، أما أنا فقد حلمت أن أرى العالم منذ الصغر، ولكن ألم الواقع كان كفيلاً بأن يوقظني من هذا الحلم، ولهذا كانت سلواي لرؤية العالم من خلال محتوى السفر الذي لم يفشل صنّاعه العرب في تشويهه وتقبيحه.
الهوس الجنسي و صنّاع المحتوى العرب
شوارع للدعارة بل أحياء كاملة. نساء ينتظرنك على أحرّ من الجمر "مش لاقيين"، فنصف رجالهن يعانون من الضعف الجنسي. "رجالة ضايعة" أو مدمنون للعادة السرية، و يستهلكون المنشطات الجنسية طوال الوقت، أما النصف الآخر فمثليون "بسكليتات". لا، هذه ليست عناوين من جريدة صفراء تهتمّ بنشر الفضائح الجنسية فقط. إنها في الأغلب صفحتك الرئيسية على مواقع التواصل الاجتماعية إن كنت من محبّي متابعة "محتوى السفر"، وكل ما وضع بين علامتي تنصيص هي عبارات استخدمت لفظاً في مواقع أتابعها.
أتفهّم أن الهوس الجنسي متأصل في مجتمعاتنا العربية، ولهذا، فحرص صنّاع المحتوى العرب الأول والأخير هو البحث عن الدول ذائعة الصيت بوجود أحياء أو شوارع لممارسة الدعارة المقنّنة، والتي لا تُعتبر هناك فعلاً خارجاً عن القانون أو أمراً يخدش الحياء، نقطة أكثر أهمية للطرح، ولكن صنّاع المحتوى لهم رأي آخر، لأن تلك الأماكن التي تقدم خدمات جنسية بالنسبة لهم مادة خام للتنظير والانبهار والاستغفار و"الريتش"، فكما يبدو أن الله لا يسمع الدعاء أو المغفرة إلا من أمام بيوت الدعارة، ثم ألا يوجد مواقع، قصور، متاحف، مطاعم، تستهوي محتواكم غير "الشوارع الحمراء"؟
صنّاع محتوى السفر العرب لهم رأي آخر، لأن الأماكن التي تقدم خدمات جنسية، بالنسبة لهم مادة خام للتنظير والانبهار والاستغفار و"الريتش"، فكما يبدو أن الله لا يسمع الدعاء أو المغفرة إلا من أمام بيوت الدعارة
ولا يتوقف الهوس الجنسي عند تلك الأحياء فقط، بل كل ما قد يوحي بالجنس من قريب أو بعيد هو محط اهتمام وحدث مهم للتوثيق: إن رأيت ماكينة صرف منشطات وأوقية جنسية (كوندوم)، قد يلفت هذا انتباهك إلى كون الموضوع "طبيعياً" ولا يستحق التأمل، أو أن تلك البلاد على درجة من الوعي الكامل بالمشاكل الجنسية وتوفّر حلولاً لضمان سلامة مواطنيها وسعادتهم الجنسية، ولكن عند صناّع المحتوى العرب هذا دليل قاطع على أن ذكور تلك الدولة مصابون كلهم بالضعف الجنسي، وأنهم "رجالة ضايعة" ونساؤهم في حالة هياج جنسي لا يشبع، فاحزم حقيبة سفرك وهلمّ إلى "الجهاد الجنسي".
وإن اتبعنا نفس هذا المنهاج، فإن الدراسات تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط هي الأكثر استهلاكاً للمنشطات الجنسية، وتتصدّر اللائحة السعودية والإمارات ومصر، بهذا يمكن استنتاج أي البلاد تعاني بشكل أكبر من الضعف الجنسي وشهوة النساء القاتلة، إن كان هذا هو المقياس.
السؤال الأجدر أن يطرح على صنّاع محتوى السفر العرب: ما الغريب أو المثير في الضعف الجنسي ورغبة المرأة ليصبحا محلّ اهتمام وإلهام لصناعة الفيديوهات؟
ولكن ليست هذه هي نقطة السجال، فالسؤال الأجدر أن يطرح على صنّاع المحتوى: ما الغريب أو المثير في الضعف الجنسي ورغبة المرأة ليصبحا محلّ اهتمام وإلهام لصناعة الفيديوهات؟
قد تقلّ حدّة الهوس الجنسي قليلاً، ويتم تقديمها في شكل أكثر كياسة، فيمكن تصوير العاملات في مختلف الدول والتغزّل بجمالهن، فلننظر كلنا لجمال الجزارة السويدية أو الشرطية الدنماركية أو سائقة الحافلة الألمانية، فالنساء، لصنّاع محتوى السفر، كالمتاحف والمناظر الطبيعية والأماكن النادرة؛ أمر يستحق التصوير والتأمّل والتغزل.
وإن كان هذا حظّ النساء ونصيبهن من المحتوى المقدم، فما بالك بالمثليين وأفراد مجتمع الميم عين؟ يتم تقديمهم كـ "بسكلتات"، وهو وصف مهين دارج في مصر للمثليين، كونهم ظاهرة غريبة من المؤكد أننا لن نراها في بلادنا العربية، ولهم بالطبع نصيب من الشتائم والإهانات فقط لكونهم مثليين، وتساعدهم مثل تلك "الظاهرة" على إثبات صحّة أن النساء هناك في حالة شبق دائم.
إمتى هنكون زيهم؟
لا يوجد مانع من تصوير محتوى يقدم مقارنات بنّاءة بالتأكيد، ويوثّق التطور التكنولوجي والحضاري في مشارق الأرض ومغاربها، ولا أستطيع أن أمنع أحداً من إبداء رأيه مهما بلغت سطحيته. لا يمكنني أن أنكر ما نحن فيه من تخلف، بل أولى خطوات التقدم هو التغاضي عن أنفة تاريخنا المزدهر والاعتراف بحالنا الذي يرثى له، ولهذا أجد السؤال المطروح طوال الوقت من قبل صناع المحتوى: "امتى هنكون زيهم؟"، وهو بالفعل سؤال مشروع، لكن فقط إذا حدّدنا لمن نوجّهه: هل هو ذنب الشعوب ما نحن فيه من تخلف، أم يجب أن يوجّه هذا السؤال بشكل حاسم وحصري للحكومات والمسؤولين؟ الواضح أن لا مانع عند صناع محتوى السفر من الاشتراك في الخطاب الديكتاتوري الموجّه بشكل دائم للشعوب، وتقديمهم على أنهم سبب تخلف البلاد وتأخرها؛ فطريق "التعريص" للحكومات هو الأسلم دائماً.
إلى صنّاع محتوى السفر العرب: من فضلكم فقط اسمحوا للناس بإثراء إنسانيتهم من خلالكم، واستخدموها أنتم أيضاً، تلك الإنسانية المتسخة التي على وجوهكم
دينك يضحكني
يقول الكاتب الأمريكي روبرت أنسون هينلين: "لاهوت شخص ما، هو أضحوكة رجل آخر"، وربما هذا ما يجعل الأديان المنتشرة في آسيا، وبالأخص الهندوسية والبوذية، محتوى كوميدياً لصنّاع محتوى السفر، فإله على شكل فيل أو إله يمتلك أيد عديدة أو إله يشير بالسبابة، من المؤكد أنها مدعاة للسخرية بالنسبة للبعض، ولكن ما موقف الجمهور العربي إن عكسنا الآية، وبدأ صنّاع محتوى السفر بتقديم الأديان المنتشرة في المنطقة العربية والسخرية منها، ألا تظنّ أن الطوفان حول الكعبة قد يكون مضحكاً لأحد ما؟ فكما اتفقنا: لاهوتك ما هو إلا أضحوكة رجل آخر.
والختام أسئلة نوجّهها لصناع محتوى السفر العرب: لماذا تسافرون؟ ولماذا تقدمون محتوى عن السفر؟ ما هي الرسالة المراد تقديمها؟ وما القيم التي أضافها لكم السفر و مهمتكم نقلها؟ أنا لست هنا للتنظير الأخلاقي أو لمساءلة مرجعيتكم الخاصة، لكن ما يجمع شرق العالم بغربه، شماله بجنوبه، هو الإنسانية التي هي نفسها تتمركز في هذا الاختلاف، نحن ننتمي للإنسانية ليس لأننا متشابهون، بل لأننا نقرّ ونحترم اختلافاتنا، والغرض من محتواكم، ومن أي محتوى توثيقي بشكل عام، هو ترسيخ تلك الإنسانية، بشكل لا يدفع إلى الغثيان وبابتذال تشمئز له الأبدان، لهذا من فضلكم فقط اسمحوا للناس بإثراء إنسانيتهم من خلالكم، واستخدموها أنتم أيضاً، تلك الإنسانية المتسخة التي على وجوهكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.