لعلي توقفت عن عد الأشهر والسنوات منذ وقت طويل. تغلغلت الغربة في كل شيء، وغرزت أسنانها بشراهة في لغتي وعملي وكتاباتي وأحاديثي والتوقيت المنعزل بذاته للقارة الأمريكية الشمالية الذي يشعرك بلؤم الغربة ووجع عضتها، لكن مناماتي كانت الناجية الوحيدة إلى وقت قريب جدًا، حتى لم تعد كذلك هي أيضًا.
نسيت دفتر خدمة العلم في الحلم
لطالما كانت مناماتي على مدار سنوات الغربة منامات سوريّة خالصة بامتياز، أو لأكون أكثر دقة منامات لاذقانيّة أسرح فيها وأمرح في مدينتي "اللاذقية". أمشي في شوارعها وأتكلم لهجتها، أتدرّج من "شارع بور سعيد" باتجاه "المرفأ"، أنعطف يمينًا متجهًا إلى "شارع بغداد"، أمرّ ب"البنك التجاري" و"شعبة التجنيد الأولى"، أتحسس جيبي لأتأكد من حملي لدفتر العسكرية والذي لو نسيته غالبًا لم أكن لأكمل المنام حتى. أمرّ بمقهى أعتقد بأن اسمه كان "مقهى البحر". لطالما وجدت فيه وجوهًا مألوفةً لأصدقاء أو حتى غرباء ممن ينطبق عليهم مقولة: "اللاذقية صغيرة والكل بيعرف بعضه".
أكمل طريقي باتجاه "كنيسة اللاتين" و"مبنى نقابة المهندسين" و"محل هدايا الرملي" الذي تحوّل إلى نقطة علام. أصل عند تقاطع طرق كان يسمى قديمًا "نقطة البوليس"، ثمّ أكمل باتجاه "شارع 8 آذار". أترك على يساري "بنك سورية والمهجر" وأبحث بين الطاولات في "مقهى البستان" عن وجوهٍ كانت لا تفارق المكان وكأنها أحد جدرانه.
لطالما كانت مناماتي في سنوات الغربة سوريّة خالصة، لأكون أكثر دقة لاذقانيّة، أسرح فيها وأمرح في مدينتي "اللاذقية". أمشي في شوارعها وأتكلم لهجتها، أمرّ بـ"البنك التجاري" و"شعبة التجنيد الأولى"، فأتحسس جيبي لأتأكد من حملي لدفتر العسكرية والذي لو نسيته غالبًا لم أكن لأكمل المنام
أكمل طريقي ثمّ أنعطف باتجاه "شركة الأهليّة" الشهيرة للشحن حتى أصل إلى "مقهى شناتا" العتيق، أطلب فنجان قهوة سادة وينتهي منامي على ذلك ويا دار ما دخلك شر، وهكذا كانت جلّ أحلامي، أحلام شغل البلد.
حين حلمت بقطعة حلوى كندية
استيقظت اليوم وأنا أتحدث الإنكليزية في منامي. استطعت التقاط كلماتي الأخيرة، على ما يبدو كنت أطلب كوب قهوة لاتيه مع الحليب خالي الدسم وقطعة حلوى "النانايمو" الكندية الشهيرة. استلقيت في سريري مندهشًا ومستغربًا، أو لأكون أكثر دقة كنت خائفًا من فكرة إطباق الغربة على كل شيء، على كل شيء حرفيًا، فحتى أحلامي لم تعد الناجية الوحيدة من طوفان الغربة الذي اقتلع معه الماضي وأيامه بحلوها ومرها.
مخاوف كثيرة كانت تتناطح في رأسي كالثيران، كان أكثر ما يخيفني هو فكرة عدم قدرتي مجددًا على التسكع في شوارع مدينتي والبحث عن بقايا الوجوه التي أعرفها وشرب فنجاني القهوة اليومي في "مقهى شناتا" على الرصيف إياه. كان يخيفني شعور خنق الغربة لآخر نفس كنت أستطيع سرقته من أكسجين البلاد، كان ذاك النفس التهريب يكفيني لعناد الغربة والتهكم منها وبعدم قدرتها على سحبي تمامًا من البلاد كخيط منسول من فستان صبية.
استيقظت اليوم وأنا أتحدث الإنكليزية في منامي. كنت أطلب قهوة لاتيه وقطعة حلوى "النانايمو" الكندية الشهيرة. استيقظتُ مندهشًا، وخائفًا من إطباق الغربة على كل شيء.
من أشهر الكلمات التي يستخدمها وترددها ألسنة أهل "اللاذقية" هي كلمة "عيّن" والتي تعني "انظر"، حتى تحوّلت هذه الكلمة إلى شيء يشبه الهوية اللغوية أو الكلامية لأهالي "اللاذقية". يكفي سماع هذه الكلمة حتى يعرف أي سوري من أي محافظة كانت بأن المتحدث من "اللاذقية" دون ريبة أو شك.
لا أعرف كيف تردد صدى تلك الكلمة في جمجمتي بكل ذلك الوضوح في تلك اللحظة التي مازلت فيها في سريري مذعورًا ومرتبكًا. لا أذكر حتى آخر مرة استخدمت فيها تلك الكلمة أو إن كنت أستخدمها أصلًا، كل ما كنت أسمعه حينها كلمة "عيّن" واضحة وضوح الشمس وكأنها كانت تخرج من فم أول إنسان لاذقاني استخدمها للمرة الأولى.
حملت هاتفي واتصلت بصديقي الذي ما زال يخفي "اللاذقية" في كلماته ولهجته وشجنه وشوقه لكل ما يمت لتلك المدينة بصلة. كنت أبحث في صوته عن طوق نجاة أو "شمبريل" بلهجة أهل "اللاذقية" أمسك به لعلني أنجو من طوفان الغربة الذي لم يترك لي شيئًا إلاّ واقتلعه بلؤم لا أستطيع فهم سببه.
تحدثنا عن أيام الجامعة وزعرناتها وبؤسها في بعض الأحيان. تحدثنا عن باصات الدولة التي كنا نستقلها إلى الجامعة ومنها وكيف تظاهر في مرة بألم في ظهره حتى لا يجبر على ترك كرسيّه خجلًا لصبية كانت تقف بالقرب منه. تحدثنا عن أشهى محل لبيع سندويشات النقانق، اختلفنا بين "الأستاذ" و"أبو الأدهم" و"أبو بولص"، هي أشهر المحلات التي تبيع سندويشات النقانق في "اللاذقية".
وتحدثنا عن مشاوير أيام الجمع إلى "صلنفة" و"كسب" و"سلمى"، التي كنا نقضيها نتسكع في شارع "المشوار"، ففي كل مصيف كان هناك شارع يلقبه الشباب والصبايا بشارع المشوار، لأننا لم نكن نملك ثمن الجلوس في مقهى فخم، فلم تكن في جيوبنا سوى ثمن فنجان قهوة اسبريسو وأجرة السيرفيس الذي سيعيدنا إلى بيوتنا والتي كانت تختلف إجرته بحسب التوقيت، فكلما تأخر الوقت زادت الأجرة وهكذا، ومن لا يعجبه الأمر يبلط البحر، هكذا قالها لي مرة سائق السيرفيس.
تحدثنا عن "اللاذقية" بجوع غير مسبوق، بفجع. كنا نمصّها كعظمة خاروف مستلقية في قاع طنجرة محشي، لم نترك فيها شيئًا إلاّ وتحدثنا عنه. أسهبنا في تفاصيلٍ كنا قد افتكرنا بأننا نسيناها، كنا نبحث عنا هناك. ربما فكرة ركلنا من تلك البقعة من الأرض كورقة مجعلكة كُتب عليها رسالة غزل لحبيبة ثمّ كوّرت ورميت في القمامة كانت تلدغنا كقرصة برغشة. كنا نحاول الانتصار على ذلك الشعور وما يرافقه من حكّة، أما عني شخصيًا فإلى جانب ذلك كنت أحاول النجاة، كنت أحاول التظاهر بأنني مازلت قادرًا على تخليص مناماتي من فك الغربة الطاحن.
حب تلك البلاد كالجرب
كتبت يومًا بأنّ أكسجين البلاد يطيل الأعمار، ينزل على الرئة كما يرش السكر المطحون على قرص المعمول بالجبن. غريبٌ أمرها تلك البلاد، غرزت أظافرها في لحومنا، لكننا كلّما توجعنا هربنا إليها كما لو كانت قرص باراسيتامول. السيتامول أو البنادول في تلك البلاد كان نوع من الرفاهية! لا أعرف ما الذي يجرّنا دائمًا إليها، حتى خوفنا من فقدانها في مناماتنا يصيبنا بالهلع وبحالات غير مبررة من الحكّة.
وحب تلك البلاد كالجرب... فكلما جلست مع مشتاق وحدثني عن البلاد... شعرت بالحكة.
اتصلت بصديقي الذي ما زال يخفي "اللاذقية" في كلماته ولهجته وشجنه وشوقه، كنت أبحث في صوته عن طوق نجاة أو "شمبريل" بلهجة أهل "اللاذقية" أمسك به لعلني أنجو من طوفان الغربة الذي لم يترك لي شيئًا إلاّ واقتلعه
كنت أنوي أن أعيش حياةً بعيدةً عن الصخب، أولد، أنفطم، أنهي الابتدائية والإعدادية والثانوية، أدخل الجامعة، ربما أعشق، أتخرج، أبحث عن عمل، أعمل، أكوّن أسرةً وبيتًا فيه الكثير من البساطة، أمضي صباحي مع كأس الشاي وسندويشة الزعتر، أستمع إلى الأخبار، أذهب إلى مكتبي، أعود إلى البيت، نلتم حول طاولة الطعام كفراشاتٍ ملونةٍ تتجمع حول الضوء، أقيل، أجلس على كنبتي المعتادة أشاهد التلفاز أو أقرأ كتابًا، أذهب إلى سريري، أغفو وهكذا.
لكنّ الحياة باغتتني ومنحتني حياةً صاخبةً تنقلت فيها بين ثلاث قارات. تحولت المطارات إلى جزء من قدري، البدايات الصاخبة أصبحت روتيني الحياتي الذي لا أبرح أن أقفل بابها حتى تفتح من جديد. تعلمت الطبخ والتذمر والاشتياق وترويض المسافات والبعد والتسكع في الطرقات بحثًا عن شارعٍ يشبه شارع بيتنا، ألفت وجهي بملامحه الناضجة وشيبه الكثير
في كثيرٍ من الأحيان يحتاج الإنسان إلى حياةٍ عادية بسيطة ككل البشر. في كثيرٍ من الأحيان كل ما يحتاجه الإنسان هو منامات ودودة يتحدث فيها بلغته ولهجته التي تربى عليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...