يبدو أن انشغال إسرائيل بالإبادة الجماعية في غزة والتهم الموجهة إليها من أعلى هيئات قضائية عالمية بارتكاب جرائم حرب، لم يردعها عن ارتكاب جرائم أخرى في الخفاء والعلن في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني.
فقد شهدت صحراء النقب في الجنوب، مطلع أيار/ مايو 2024 واحدة من أكبر عمليات الهدم في أراضي 48، منذ النكبة. تمثّلت بهدم 75 منزلاً في قرية وادي الخليل مسلوبة الاعتراف، بحجة البناء غير القانوني.
على مدار ثماني ساعات متواصلة، شردت إسرائيل نحو 320 فلسطينياً من بيوتهم.
لكن لم يخفَ على فلسطينيي النقب المخطط الإسرائيلي الذي يرمي إلى توسيع شارع رقم 6، وهو أطول شارع في إسرائيل ويربط شمالها بجنوبها، على حساب أراضي البدو وممتلكاتهم.
يجيء هذا المخطط ضمن سياسة إسرائيلية شمولية لتطهير النقب عرقياً، ولتهجير سكانه الأصيلين بشتى الطرق في مسعى واضح لتهويد المكان بالكامل. وهي سياسة بدأت منذ أن هجرت عصابات الهاغاناه عام النكبة نحو مئة ألف فلسطيني من أصل 111 ألفاً.
واستمرت متمثّلة بنزع الحقوق الأساسية عن سكان النقب الأصليين، عبر عدم الاعتراف بـ36 قرية فيه، تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة والبنى التحتية كالكهرباء والخدمات الطبية والتعليمية.
ويعيش في هذه القرى مسلوبة الاعتراف نحو مئة ألف فلسطيني، مهددون يومياً بالترحيل وهدم بيوتهم وإغراقهم بالفقر والبطالة.
وجود فلسطيني بيد المستوطنين
تمركزت قرية وادي الخليل، التي هدمت إسرائيل معظم بيوتها، في أحد أهم الطرق التجارية القديمة التي كانت تصل بين مدينة بئر السبع والخليل قبل النكبة. وتشير الخرائط الانتدابية إلى القرية كمعلم رئيس من معالم المنطقة.
هكذا، تحولت المنطقة التي حملت بعداً استراتيجياً في الماضي بالنسبة للفلسطينيين، إلى قرية مسلوبة الاعتراف ومنكوبة.
يقول لرصيف22 سليمان أبو عصا، أحد أصحاب المنازل التي هُدمت: "ما حدث هو مجزرة للبيوت. لم تحصل عملية هدم كهذه على مدار تاريخ دولة إسرائيل. نتحدث عن أكثر من 120 منزلاً ومبنى. لا يمكن لهزة أرضية أن تُحدث كل هذا الدمار. لقد نسفوا حياً كاملاً. تماماً كما يفعلون في غزة".
ويضيف: "هناك أطفال رضع وكبار في السن، ظلوا واقفين تحت أشعة الشمس والحر الشديد. والدتي تبلغ من العمر تسعين عاماً، لدي أبناء وبنات وأحفاد، جميعنا نعيش حالياً في منزل ابني الذي تلقى أيضاً قرار بالهدم".
يؤكد أبو عصا أن حجة المؤسسات الحكومية مستندة إلى الأكاذيب والافتراء. وأن ما حصل هو عقاب جماعي لبدو النقب بسبب إصرارهم على المطالبة بحقوقنا. "بعد ساعات من عمليات الهدم المتواصلة، حضر حوالى 700 شرطي لإثارة الفوضى ومحاولة استفزازنا. وبعد أيام هدموا الخيام التي أقمناها واقتلعوا الأشجار. إن كانت حجتهم هي البناء غير المرخص، فهل تحتاج هذه الأشجار إلى ترخيص أيضاً؟"، يتساءل أبو عصا.
أنشأت إسرائيل عام 2007 جسماً يسمى "سلطة توطين البدو وتطوير النقب"، ومنحته نفوذاً حصرياً في كل ما يتعلق بقضايا التخطيط والبناء في القرى والبلدات الفلسطينية في النقب. "لدى هذه السلطة صلاحية كاملة بإعطاء أوامر هدم إدارية دون قرار من المحكمة"، يقول لرصيف22 جمعة زبارقة، رئيس لجنة التوجيه العليا لعرب النقب.
وعلى الرغم من اسمها الذي يحمل كلمة "تطوير"، إلا أنها تسعى إلى تطوير البلدات والمشاريع الخاصة باليهود وحسب، وإلى إهمال واقتلاع كل ما هو فلسطيني.
ويردف: "في ظل غياب لجنة بناء تخص العرب في النقب، يضطر السكان إلى التوجه للجنة التخطيط والبناء اللوائية في بئر السبع، التي يعتبر جل موظفيها من المستوطنين، من دون وجود أي تمثيل عربي في هذه اللجنة. وعليه، فإن كل ما يخص بدو النقب يمر عبر هذه المؤسسات الحكومية العنصرية".
تستغل هذه المنظومات حجة البناء غير المرخص، الذي تتسبب هي فيه أولاً وأخيراً، كي تمحى قرى كاملة عن الخارطة. فقرية "أبو تلول" معرضة كلها لخطر الهدم. وعلى الرغم من الاعتراف الإسرائيلي بها لا يوجد فيها أي بيت مرخص.
هدموا الخيام التي أقمناها واقتلعوا الأشجار. إن كانت حجتهم هي البناء غير المرخص، فهل تحتاج هذه الأشجار إلى ترخيص أيضاً
سياسة اقتلاع قديمة
ما يحصل في النقب من خطط لتهويده، يحصل أيضاً في الجليل والمثلث، حسبما يقول زبارقة. فقد أحاطت إسرائيل التجمعات السكنية الفلسطينية بمستوطنات أو بمشاريع تسميها "مشاريع قومية".
"وما حدث في وادي الخليل يتماشى مع هذه المخططات. فتوسيع شارع رقم 6 جاء على حساب أراضينا. لا بل تعمدت الدولة تخطيط مسار الشارع بحيث يمر من قرى النقب"، يؤكد زبارقة.
يقول جبر أبو عصا (55 عاماً) لرصيف22: "تعيش عائلة أبو عصا في هذه البيوت منذ أكثر من ثمانين عاماً. الأمر لا يتعلق بالأحقية إذاً. إن اقتلاعنا من بيوتنا جاء لصالح توسيع شارع 6، وهو شارع يربط شمال إسرائيل بجنوبها".
ويضيف: "في السابق أرادت إسرائيل ترحيلنا إلى حي رقم 1. وعلى هذا الحي ثمة خلاف عشائري. هذه هي ألعابهم الخبيثة. الإسرائيليون معنيون بإشعال الفتن الداخلية، وبجرّنا إلى العنف المستشري في المجتمع".
إن قضية هدم البيوت في النقب ليست بجديدة. لكن حجم الهدم الذي حصل في وادي الخليل كان مفاجأة لأبو عصا. "تلقيتُ اتصالاً من الشرطة عند منتصف الليل وقبل ثماني ساعات من عملية الهدم. في البداية ظننت أن الهدم سيشمل خمسة أو ستة بيوت، لكني فوجئت حين علمت بنيّتهم هدم الحي بأكمله"، يقول.
يعيش جبر اليوم مع عائلته في الخلاء. وقد تلقى هو وآخرون أمراً بهدم خيامهم التي نصبوها بجانب ركام البيوت. يقول معلقاً: "لو هدموها مئة مرة، سنبقى في ديارنا. ما يحصل لنا هو إرهاب دولة يُمارس ضد أشخاص أبرياء".
أعادت قضية وادي الخليل إلى الأذهان قرية العراقيب التي تحولت إلى أيقونة ترمز لصمود أهالي النقب. فمنذ عام 2010، يواصل الاحتلال هدم القرية مسلوبة الاعتراف. وكلما هدمتها الجرافات الإسرائيلية، أعاد أهلها إعمارها.
منذ مطلع هذا العام هُدمت العراقيب ثلاث مرات، كان آخرها في ذكرى النكبة الـ 76 وهي المرة الـ 225 التي تهدم فيها القرية منذ عام 2010.
ترسيخ للفصل العنصري
لعل سياسة الفصل العنصري تتجسد على نحو مرئي في النقب بشكل خاص. إذ بدأت الصحراء الفلسطينية تتغيّر ديمغرافياً ما قبل النكبة، فأقيمت في أجزاء النقب الشمالية 14 بلدة يهودية في أربعينيات القرن الماضي، أما اليوم فهناك 141 مستوطنة مقابل 7 بلدات فلسطينية فقط، و11 قرية في مرحلة الاعتراف. إضافة إلى وجود 35 قرية مسلوبة الاعتراف.
وتفتقر هذه القرى إلى أبسط مقومات الحياة كالبنى التحتية والمراكز الطبية والمدارس وشبكات الصرف الصحي. وفي ظل معاناتها من نسب الفقر والبطالة العالية، تسعى إسرائيل إلى دفع أصحابها الأصليين للخروج منها وإحلال اليهود مكانهم.
يترسخ نظام الفصل العنصري، أيضاً، من خلال خطط تعمل على خنق المناطق العربية وقطعها عن امتدادها واتصالها الطبيعي. "تُبنى ثكنات عسكرية بين القرى الفلسطينية، كما حصل بين قريتي أم بطين واللقية، لمنع التواصل بينهما"، يقول زبارقة.
يعاود نظام الفصل العنصري ليتمثل أخيراً في تأثيره على حياة بدو النقب منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة. فقد استشهد حوالي سبعة فلسطينيين بسبب بيوتهم المبنية من الصفيح ومنعهم من بناء الملاجئ
ويردف: "ثمة 69 مزرعة فردية تابعة لمستوطنين، أقيمت في النقب بدوافع أيديولوجية، في حين لا توجد أية مزرعة خاصة بفلسطيني من النقب، على الرغم من أن من يملك علاقة تاريخية مع الأرض والماشية هو العربي. والآن يخرج وزير الأمن القومي المتطرف بن غفير ليدعي بأن عرب النقب هم غزاة أرض إسرائيل. في حين أنه في الحقيقة لا يوجد أي بدوي يسكن فوق متر واحد ليس له".
ولنعرف كيف يحصل كل هذا في النقب، علينا أن نتذكر المؤسسات الصهيونية الّتي تعمل هناك. ففي عام 1967، أسس أرئيل شارون ما يسمى بـ "الدوريات الخضراء" بحجة حراسة أراضي الدولة. تصادر هذه الدوريات، بحسب زبارقة، مواشي السكان الفلسطينيين وتهدم خيامهم وتخرب محاصيلهم الزراعية وتفرض عليهم الغرامات تحت ذريعة الرعي في “مناطق عسكرية مغلقة”.
"الدوريات الخضراء هي مؤسسة عنصرية، خضراء لليهود وسوداء للعرب. وتسعى الدولة من خلالها إلى شجيع اليهود على الهجرة إلى النقب على حساب البلدات العربية المُشوهة. هذه البلدات باتت مثل الفنادق، مكاناً للنوم فقط. حيث يذهب العربي للعمل عند اليهودي في مستوطنة "نتيفوت" ويعود للنوم في قريته".
ويعاود نظام الفصل العنصري ليتمثل أخيراً في تأثيره على حياة بدو النقب منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة. فقد استشهد حوالى سبعة فلسطينيين بسبب بيوتهم المبنية من الصفيح ومنعهم من بناء الملاجئ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين