شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
التمييز ضد المسيحيين في مصر… ابحثوا عن السلطة فقط

التمييز ضد المسيحيين في مصر… ابحثوا عن السلطة فقط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الخميس 23 مايو 202412:12 م

أخطأتُ التقدير عام 2018، وقبل هذا التاريخ وبعده أخطأتُ أيضاً، وحين أخطئ أراجع نفسي، وألومها على الإفراط في حسن الظن، ولعلي آنذاك انفعلت بعد إحدى موجات الاعتداء على المسيحيين، فكتبت مقالاً عنوانه "في مسألة الكنائس... خاطبوا حسن البنا لا السيسي"، ولم أستطع نشره في مصر، فنشرته في صحيفة "العرب" اللندنية، في 15 كانون الثاني/يناير 2018، وربما كنت يائساً من السيسي؛ فاستسهلت اتهام حسن البنا، وحمّلته المسؤولية عن العدوان على الكنائس. حسن البنا ميت وإرشاداته حيّة، والسيسي حيّ يملك سلطة مطلقة تردع المعتدين، ويستطيع محاسبتهم بالقانون، لو أراد إنهاء التمييز الديني، وتخلى عن دور الوالي المسلم على إمارة إسلامية في إمبراطورية إسلامية.

بعد نجاح الثورة في خلع حسني مبارك خرج السلفيون من الأوكار، ظنوا أن اللحظة حانت للانقضاض، والاستئساد على الناس، في غياب السلطة المركزية التقليدية. وتزامن الاعتداء على كنائس، بامتداد المسافة من القاهرة إلى أسوان، مع التظاهر في مدينة قنا الجنوبية، في نيسان/أبريل 2011، اعتراضاً على تعيين اللواء عماد ميخائيل محافظاً لقنا، وفي قِنا نسبة معتبرة من المواطنين المسيحيين. توارت مشاعرة الجيرة والأخوة الوطنية الكاذبة أمام الاستعلاء؛ فقطع الحالمون بالخلافة خطوط السكك الحديدية، وأحرجوا المجلس العسكري الحاكم آنذاك، لكي يقيل المحافظ المسيحي. تلك الأيام، لا أعادها الله، ربيع فضائيات طائفية، أفتى فيها شيوخ هواة وشيوخ محترفون بتحريم أن يتولى الحكمَ "نصراني".

 حسن البنا ميت وإرشاداته حيّة، والسيسي حيّ يملك سلطة مطلقة تردع المعتدين، ويستطيع محاسبتهم بالقانون، لو أراد إنهاء التمييز الديني، وتخلى عن دور الوالي المسلم على إمارة إسلامية في إمبراطورية إسلامية

لم تكن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة شرعية انتخابية، إذ تولى الحكم بقرار رئيس مخلوع، في بيان من خمس وثلاثين كلمة، تضمن التكليف بإدارة شؤون البلاد. في النشوة لم نفكر في التناقض، بين "تخلي" مبارك عن السلطة، ومنح نفسه سلطة "تكليف" الجيش بالحكم. هو تخلى فكيف تكون له صفة "التكليف"؟ ثم حملت الموجة الأولى للقوى المضادة للثورة تمييزاً مذهبياً، ففي حزيران/يونيو 2013 اقتحم سلفيون سُذّج بيتاً في جنوبي القاهرة، وقتلوا أربعة من الشيعة، ومثّلوا بجثثهم على خلفية هتاف: "الله أكبر"، بعد تحريض رموز سلفيين بحضور رئيس الجمهورية الإخواني، في مؤتمر باستاد القاهرة. ولم تستنكر جهة سلفية تلك الجريمة، لا أعادها الله.

انتهت الموجة الأولى للثورة المضادة، وأفقنا على موجة تالية أكثر شراسة. الأولى مُلتحية تتمسح بالثورة، والثانية مُعسكرة تلعن الأولى والثورة معا. والسلطة المطلقة تملك جبروتاً مطلقاً ينهي عقوداً من التمييز والاحتقان الديني. سلطان القانون أمضى من آيات القرآن. ففي آذار/مارس 2020، وأمام الذعر من فيروس كورونا، أعلن وزير الأوقاف، المسؤول عن شؤون المساجد والخطباء، استمرار صلاة الجمعة: "مساجدنا ما زالت مفتوحة أمام ضيوف الرحمن"، وجادل بأن الصلاة ستؤدى في وقت أقصر. وفي اليوم التالي جاء الأمر الأعلى بإغلاق المساجد، مراعاة للمصلحة العامة، فقاعدة درء المفاسد لا تحتاج إلى فتوى دينية، بل قراءة سياسية عقلانية لقضية يفتي فيها الأطباء لا المشايخ.

بوغوص يوسفيان

تأكد لوزارة الأوقاف أنها لا تملك قراراً يخالف السلطة، ولو في شؤون "العبادة". فلم يعلّق الوزير ولا الخفير على القرار الرئاسي، ومنعت صلاة الجمعة. ألا تستطيع سلطة مطلقة منع مكبرات الصوت في الشوارع أمام المحال التجارية، والاكتفاء بميكروفون واحد لكل مسجد؟ لا تريد؛ فيستمر ترهل الأداء السياسي، والميوعة في إدارة شؤون "الدولة"، ويظل التمييز الطائفي غير الصريح، نوبات مرَضية يمكن التنبؤ بمواعيدها، ويسهل إغلاق هذا الملف من دون فتح الكتب الصفراء، لمعرفة "حكـم بنـاء الكنائـس فـي بـلاد المسلميـن"، فالكثيرون يقطعون بتحريم بنائها، ويختلفون في القائم منها، بين وجوب الهدم، والنهي عن ترميمها إذا تصدّعت؛ فتنهار ولا تبنى كنيسة بدلاً منها.

القضية أكبر من حصول المسيحيين على ترخيص تأسيس كنيسة، وإنما تتعلق بتأسيس قواعد إنسانية للعيش المشترك بين مواطني دولة ليس من مهامها إدخال الناس الجنة. في مصر أكثر من مئة مليون "مواطن"، ولا يوجد لاعب مسيحي في منتخب كرة القدم. الاحتكار ملة واحدة، لرحمة الله وللرياضة، وما هكذا كانت مصر قبل أكثر من مئتي سنة، مع تأسيس الدولة الحديثة على يد محمد علي. وهذا نوبار (1825 ـ 1899)، مسيحي أرمني ارتقى من مترجم لمحمد علي إلى وزير، فأول رئيس للوزراء في عهد الخديو إسماعيل، يسجل في مذكراته أن محمد علي "رفع من شأن المسيحي... جعل الرعية (المسيحي) متساوياً مع المسلم".

بنضوج عقل الدولة، يتوارى المنتفعون بإعادة إنتاج فقه بشري خاص بغير المسلمين. دُفن بوغوص يوسفيان وزير التجارة، خال نوبار، فأمر محمد علي محافظ الإسكندرية اللواء عثمان باشا، بإخراج جثمان بوغوص، وإعادة دفنه "في جنازة عسكرية وتشريفة"، وأقيم قداس مهيب. وتساءل نوبار: من كان يستطيع أو يجرؤ "على مصافحة مسيحي في الطريق العام حتى لو كان صديقاً أقرب إليه من أقاربه بأكثر من إيماءة بالعين أو حركة خفيفة بالرأس؟!". سلوك سياسي "مثّل انقلاباً لكل المعتقدات والأفكار المتجمدة"، فلم يكن مسموحاً للمسيحي بالبقاء على ظهر دابته إذا قابل مسلماً، "كان يتحتم عليه الترجّل كرمز للاحترام والخضوع، ثم يمرّ من أمامه حاملاً نعليه".

غلاف كتاب "مذكرات نوبار باشا"

ذكر نوبار وقائع دالة: في الإسكندرية قتل مسلم مسيحياً، وحكم عليه بالإعدام، ومشى إلى ساحة التنفيذ، والناس خلفه يشعرون بالمهانة ويهمسون: "كيف يُشنق مسلم لأنه قتل كافراً؟!"، لإيمانهم بأن "حياة مسلم تساوي حياة عشرة من الكفرة". توعدوا إذا شُنق، بقتل تسعة آخرين من "المسيحيين الكلاب!"، فأعلن طاهر بك رئيس البوليس أن الباشا أمر بشنق من يبدي ملاحظة، فانصرفوا. والواقعة الأخرى أن محمد علي أمر كبير السياس بإعطاء فرس لأحد أمناء سره، فأعطاه فرسا معيبة. والباشا لام الرجل فقال: "الذي اخترتُه يا سيدي حسن جداً بالنسبة لكافر!". فقال الباشا: "الكافر هو الذي لا ينفذ أوامري"، وعاقبه فوراً بالضرب بالعصا على قدميه.

في رأي نوبار أن محمد علي "كرجل محافظ على تقاليد الإسلام" هو "العادل الكبير"، "واعتبروه ممثل الإسلام بحق". تولى عباس حلمي الأول حكم مصر بين عامي 1848 و1854، فساوى بين المسلم والمسيحي وأبطل الجزية. وبعده جاء محمد سعيد عام 1854، وفي عهده تولى أراكيل، أخو نوبار، حكم السودان. قال نوبار إن أخاه "أول مسيحي يُعين رسمياً ليحكم شعباً مسلماً بشكل رسمي"، وإن سعيد أعلن تنصيب أراكيل، فقال الأمير إسماعيل، الخديو الذي تولى بعد سعيد: "لكنه كافر ملحد". فوجئ نوبار فقال لإسماعيل: "سيدي لو تفوه أحد بهذه الكلمة أمام أخي والتي قلتها في غيابه لقالها للمرة الأخيرة". وتدخل سعيد لإنهاء الموقف.

وصْف ولي العهد إسماعيل لمسؤول مسيحي بأنه "كافر ملحد" فيه ردة إنسانية انتقلت، بعد توليه الحكم، إلى أهل بيته. وكانت وزارة 1878، تضم ولسون الإنجليزي وزيراً للمالية، والفرنسي دي بلينيير وزيراً للأشغال العمومية. وبحجة ضغط المصروفات، قرر ولسون تسريح 2500 ضابط، ولم تكن رواتبهم قد دفعت منذ عامين؛ فتظاهر الضباط، واقتحموا مجلس النواب الذي هرب أعضاؤه. وكان إسماعيل في القصر يترقب، كما تترقب حريم القصر، ومنهن أميرة "نفد صبرها ولم تتمكن من السيطرة على أعصابها"، علا صوتها قائلة: "ألم ننته بعد من أمر هذا الكافر؟" يعلق نوبار: "كان الكافر الذي هو أنا وليس ولسون لأنه كان وراءه حكومة تقف بجانبه".

إلى القانون يلجأ الجميع ينشدون العدالة، ولن تنتمي طائفة من المسلمين إلى جماعة أو تنظيم، ولن يكون المسيحيون أبناء الكنيسة. ستكون الدولة المدنية التي لا دين لها ملاذ مواطنيها، ولا شأن لها بدين ولا بمذهب، سيكون الدين لله. ونعم بالله

في فترات الارتباك، يستقوي المسلم فيرى المسيحي ذمّياً، والمسلم والمسيحي كلاهما مقهور، والأقل قهراً يعيد إنتاج القهر على الآخر فيلوذ بدينه، ويعزو إليه ما يبلغه أبناؤه من امتياز. نوبار باشا كتب مذكراته، ونشرتها دار الشروق في القاهرة. أما جرّاح القلب مجدي يعقوب فكتب سيرته كلٌّ من سيمون بيرسن وفيونا جورمان، وترجمها أحمد شافعي، وأصدرتها الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وتخلو من إشارة إلى دور الدين في ما بلغه الطبيب الاستثنائي. ويقول روبرت كريج، الذي عمل مع يعقوب في بريطانيا، إنه لم يزر مصر برفقة يعقوب، "إنما يُقال إن مَن يزورونها معه يرون أن له مرتبة تشبه القداسة لدى الجميع تقريباً".

يشير الكتاب إلى اشتراك كلّ من يعقوب والشاعر الويلزي هنري فوجان "في الاهتمام بالمسيحية الأرثوذكسية وحب الموسيقى الكلاسيكية". ولا تفاصيل عن هذا الاهتمام. لكن الأسقف أنجليوس، رئيس الكنيسة القبطية المصرية في لندن، افتخرَ بأن يعقوب "أول اسم يُذكر عندما نتكلم عن أبرز الأقباط على المستوى العالمي. اسم السير مجدي يعقوب هو فعلاً أول ما يُنطق. ليس فقط لمكانته الأكاديمية أو الطبية، ولكن بسبب شخصه. فهو شخص نزيه، لا يُبارى في شرفه وإخلاصه، له قلب يشعر بأحوج الناس، وهو في رأيي تجسيد حقيقي لروح خدمة الآخرين التي يمتاز بها المسيحيون". لعل الأسقف أساء إلى الرجل، فاعتبره مجرّد قبطي، وسلبه امتيازه الإنساني.

بزوال الاستبداد، يختفي الكلابش، ويردع القانون من يفكر في الاعتداء على مواطن أو دار للعبادة. وإلى القانون يلجأ الجميع ينشدون العدالة، ولن تنتمي طائفة من المسلمين إلى جماعة أو تنظيم، ولن يكون المسيحيون أبناء الكنيسة. ستكون الدولة المدنية التي لا دين لها ملاذ مواطنيها، ولا شأن لها بدين ولا بمذهب، سيكون الدين لله. ونعم بالله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image