شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
محصول

محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الثلاثاء 21 مايو 202401:42 م

"خصوبة الأرض وتنظيف الأعشاب الضارة من حوله منذ بروزه على وجه الأرض هي سر نجاحه"، بهذا العبارة يلخص أنور برغش، وهو مزارع ستيني من بلدة سرمين شرقي إدلب، خبرته على مدار 30 عاماً في زراعة الكمون.

يقول برغش إنه دائماً يبحث عن أراضٍ لم يسبق أن زُرعت بالكمون، أو مضى أكثر من 5 أعوام على زراعتها به، ليستثمرها بهذا المحصول العطري.

الكمون نبات عشبي لا يتجاوز طوله 50 سنتيمتراً، ذو أوراق رفيعة خضراء، ويحمل أزهاراً صغيرة بيضاء. تطفو حبة الكمون عند زراعتها على وجه الأرض، وينمو بجذور سطحية ضعيفة، ما يجعله عرضة للعوامل الجوية لا سيما الرطوبة العالية والأمطار الغزيرة، "لكن ما دامت الأرض خصبة ومجهزة فإنه سيكون أقوى من الظروف"، يؤكد المزارع لرصيف22.

يجب أن يتصف مزارع الكمون بأنه مغامر، يمكن أن ينجح معه المحصول ويعطي مردوداً ممتازاً، ويمكن أن يخسر الموسم كاملاً.

ومع بزوغ خيوط الشمس الأولى من مطلع شهر أيار، يشمر عمال الحصاد عن سواعدهم لجني الكمون، فيجمع يدوياً على شكل أكوام صغيرة في انتظار الحصادة الآلية التي تفصل البذار عن القشور.

حالف بعض المحاصيل لهذا العام النجاح، فيما تعرضت مساحات واسعة للتلف لأسباب عدة أبرزها التقلبات المناخية، والتي أثرت على نمو المحصول رغم كثافة الأراضي المزروعة.

محصول حساس

تنتشر زراعة الكمون في محافظة إدلب، وتعتمد على مياه الأمطار والسقاية المعتدلة، وهو محصول حساس جداً يحقق أرباحاً جيدة، إلا أن احتمال خسائره كبير، إذ يتأثر بالعوامل الجوية ويحتاج لرعاية ومتابعة حثيثة.

ويحصد الكمون على مرحلتين، الأولى يدوية، وبعدها تأتي آلة الحصاد لتفصل الحب عن التبن، ومن ثم تُنقل إلى الغربال لينقّى ويجهز ضمن أكياس، ثم يباع إلى تجار الحبوب.

غابت زراعة الكمون عدة أعوام عن إدلب نتيجة تقلص المساحات الصالحة للزراعة، ولأن الأرض التي تزرع به تحتاج لخمس سنوات على الأقل ليتمكن المزارع من إعادة زراعتها مجدداً لتجنب انتقال الأمراض الفطرية إليه، وهذا العام عادت الزراعة لتنشط وبلغت مساحة الأراضي المزروعة بالكمون نحو 4350 هكتاراً، وفق تقديرات مديرية الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ.

ودفعت أسباب عدة بالفلاحين لزراعة الكمون، لعل أبرزها تعويض خسائر العام الماضي لمحاصيل القمح في المحافظة التي تديرها حكومة الإنقاذ المحسوبة على هيئة تحرير الشام، إذ حددت سعر شراء طن القمح الطري حينها بـ325 دولاراً، والقمح القاسي بـ350 دولاراً، على حين كان السعر 450 دولاراً في العام الذي سبقه، الأمر الذي ضيق هامش الربح على المزارعين وتسبب لهم بخسائر كبيرة، لا سيما مع اعتمادهم على زراعة القمح المروي بسبب قلة أمطار الموسم الماضي.

 محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلبأحد مزارعي الكمون في محافظة إدلب السورية

أحد مزارعي الكمون في محافظة إدلب السورية

ولعل أبرز ما يدل على ظروف زراعة الكمون هو ما جاء في المثل الشعبي الدارج في محافظة إدلب: "لا تقول كمون حتى تصر عليه" وذلك كناية عن عدم استقرار وضعه طيلة فترة زراعته والتي تتراوح بين 4 إلى 5 أشهر وفق الخبير الزراعي يحيى التناري.

ويقول التناري لرصيف22 إن زراعة الكمون تبدأ في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر وتمتد حتى كانون الأول/ ديسمبر، ويفضل التبكير لأن الكمون بطيء النمو في مراحله الأولى. ويضيف بأن نبات الكمون حساس لزيادة معدلات الرطوبة والمياه ولارتفاع درجة الحرارة، لذلك يجب أن يتصف مزارع الكمون بأنه مغامر، يمكن أن ينجح معه المحصول ويعطي مردوداً ممتازاً، كما يمكن أن يخسر الموسم كاملاً.

 محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلبمن حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

من حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

التكاليف والربح

اختار حسين العيسى (36 عاماً)، وهو مزارع في سهل الروج في ريف إدلب، نبات الكمون لزراعة أرضه لهذا الموسم، بعد أن زرعها لموسمين متتاليين بالقمح.

زرع العيسى قرابة 20 دونماً من الكمون، ويحتاج كل دونم لنحو 3 إلى 4 كيلوغرامات من البذار، ووصل سعر الكيلوغرام الواحد هذا العام إلى 7 دولارات. ومع زيادة الإقبال على زراعتها، شهدت بذور الكمون ارتفاعاً كبيراً بأسعارها، فازداد سعر طن البذار من 4200 دولاراً عام 2022 إلى 6800 دولار خلال موسم 2023.

وتبدأ عملية الزراعة بتجهيز الأرض وحرثها مرتين للتأكد من إزالة الأعشاب، ويمكن الاستعانة ببعض المبيدات أو بعمال متخصصين لإزالة ما يتبقى من الأعشاب. وتكلف هذه المبيدات نحو 15 دولاراً. كما تتراوح تكلفة المبيدات الفطرية والأسمدة لزراعة دونم واحد ما بين 50 إلى 75 دولاراً.

نجاح زراعة الكمون مرتبط بعوامل عدة، كضمان خصوبة الأرض، واختيار نوعية البذار الجيدة، ومراقبة نسب الرطوبة والأوبئة التي تصيبه وملاحقتها بالأدوية اللازمة قبل انتشارها

بدوره زرع محمد خلف (54 عاماً) 5 دونمات من نبات الكمون بالقرب من أشجار الزيتون وتحتها، ما أسهم في ثبات محصوله وحالفه الحظ لوصوله لمراحله الأخير قبيل حصاده، وداوم خلف على رعايتها بملاحقة الأعشاب الضارة ورشها بالمبيدات والأدوية اللازمة. ويشير بعض المزارعين إلى إمكانية زراعية المحاصيل العطرية كالكمون تحت أشجار كالزيتون، مع ضرورة تقديم ريات تكميلية للأشجار بعد حصاد المحصول وخلال أشهر الصيف، لتعويض الضرر الناتج عن الزراعة البينية.

وبحسب حديث خلف لرصيف22، فإن ضيق الحال وتردي الأوضاع المعيشية، دفعته لاستغلال المساحات بين الأشجار.

ويوضح الرجل مراحل زراعة الكمون والتكاليف التي يمكن أن تصل إلى نحو مئتي دولار للدونم الواحد، ما بين بذار وأسمدة ومبيدات، إلى جانب تكلفة الحراثة وأجرة عمال الحصاد والنقل. فيما ينتج الدونم ما بين 100 إلى 300 كيلوغراماً، ويباع في بداية موسمه بنحو 4 آلاف دولار للطن، ويستفيد المزارعون من تخزينه حتى ارتفاع أسعاره، إذ يمكن أن يخزن لعدة سنوات.

 محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلبمن حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

من حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

تعويض الخسارة

تعتمد كمية وجودة الإنتاج على نوع التربة وملاءمة المناخ، إذ تنمو نبتة الكمون بعلاً في التربة الحمراء، وتحتاج إلى الري في التربة الصفراء الخفيفة والمتوسطة، ويحبذ هذا النوع من النبات معدلات هطول مستقرة نسبياً.

وتُزرع المحاصيل العطرية بالاعتماد على مياه الأمطار بالدرجة الأولى، وتتأثر بحالة الطقس من أمطار غزيرة أو رطوبة زائدة.

ويقول المهندس الزراعي خضر الخضر لرصيف22، إن موسم الكمون الحالي على موعد مع خسائر كبيرة متأثراً بغزارة الأمطار وتساقط حبوب البرد التي شهدتها المنطقة وبالتالي ارتفاع نسب الرطوبة، إلى جانب انجرافات التربة بسبب السيول.

ووفق فرق الدفاع المدني، فإن "السيول خلفت أضراراً في محاصيل القمح والشعير والكمون في مناطق إدلب وحلب، وهي محاصيل استراتيجية يعتمد عليها السكان بشكل كبير".

ولعل ما يميز زراعة الكمون أن نجاح الموسم من عدمه يظهر قبل موعد حصاده بشهر أو شهرين، ما يمكّن المزارع من استبداله بزراعة صنف آخر مكانه. وبحسب الخضر، يُحرث محصول الكمون المتضرر، وتقلب أرضه لتهويتها وتجهيزها مجدداً لزراعتها بالمحاصيل الصيفية المبكرة كالكوسا والقرع والبطيخ الأحمر أو الأصفر، وتساعد التربة المشبعة بالماء والرطوبة على نمو هذه المحاصيل التي تحتاج للسقاية بشكل دوري.

 محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلبأحد مزارعي الكمون في محافظة إدلب السورية

أحد مزارعي  الكمون في محافظة إدلب السورية

واضطر عبود الأحمد، وهو مزارع من بلدة بنش، لإزالة محصوله من الكمون بعد تعرضه لمرض فطري أدى لشلل في عملية نموه.

"سأزرع مكانه كوسا أو قرع، عسى أن أعوض جزءاً من خسارتي"، يقول لرصيف22، لافتاً إلى أن زراعة الكمون أشبه بضربة حظ، ولا يمكن التنبؤ بنجاحها أبداً: "زرعت أنا وجاري من ذات البذور، تضرر محصولي بينما لا يزال محصوله قائماً... الله يكتب له النجاح".

إحصائيات محلية

يقول المدير العام للزراعة في محافظة إدلب تمام الحمود لرصيف22 إن مساحات زراعة الكمون لهذا العام تقدر بـ 4350 هكتاراً.

ويجيب الحمود عن سبب تراجع نسبة زراعة محاصيل إستراتيجية كالقمح، واتجاه المزارعين للمحاصيل العطرية، بأن الأمر متعلق بالدورة الزراعية بدرجة كبيرة، لأن معظم محاصيل السنة الماضية استبدلت هذا الموسم بمحاصيل أخرى.

حالف بعض المحاصيل لهذا العام النجاح، فيما تعرضت مساحات واسعة من أراضي للتلف لأسباب عدة أبرزها التقلبات المناخية والأمطار الغزيرة وحبات البرد، والتي أثرت على نمو المحصول رغم كثافة الأراضي المزروعة

ويوضح أن تراجع أسعار القمح في الموسم الماضي له دور في إحجام الفلاحين عن زراعته، لافتاً إلى أن سبب تدني الأسعار هو عودتها عالمياً لطبيعتها قبل الحرب الروسية الأوكرانية.

على حين لا تتدخل المديرية في تحديد أسعار الكمون أو النباتات العطرية بشكل عام، وترتبط أسعارها بحجم العرض والطلب ونجاح المحاصيل وإمكانية التصدير، وتشكل زراعات النباتات الطبية والعطرية الخيار الأول للمزارعين فهي تؤمن مردوداً جيداً، وتأتي البقوليات في المرتبة الثانية.

 محصول "حسّاس" ومُربح... مغامرات زراعة الكمون في إدلبمن حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

من حقول الكمون في محافظة إدلب السورية

حلول لزراعة ناجحة

يصر مزارعو الكمون في إدلب على أن السبب الأساسي لضمان محصول ناجح هو اختيار الأرض المناسبة، إضافة إلى حرثها بشكل جيد ومتكرر والتأكد من عدم وجود أي أعشاب.

من جهته، يؤكد الخبير التناري بأن نجاح زراعة الكمون مرتبط بعوامل عدة، كضمان خصوبة الأرض، واختيار نوعية البذار الجيدة، ومراقبة نسب الرطوبة والأوبئة التي تصيبه وملاحقتها بالأدوية اللازمة قبل انتشارها، لافتاً إلى أنه يجب اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية، كرش المبيدات الفطرية لمرض لفحة الترناريا الذي يظهر بعد الأمطار الغزيرة، وإضافة الأسمدة، بينما يحظر رش الأحماض الأمينية على الكمون المصاب بالفطريات.

ويوضح أن هناك مساحات واسعة من أراضي المحافظة لا تصلح لزراعة النباتات العطرية، كأن تكون ذات منخفضات تتجمع فيها مياه الأمطار، مما يرفع نسبة الرطوبة ويؤدي لفشل الكمون نتيجة إصابته بالعدوى الفطرية.

ويضيف أنه على الجهات التي تدعم الزراعة إقامة الندوات التوعوية للمزارعين واطلاعهم على شروط نجاح الزراعات المختلفة، لاختيار المحاصيل التي تناسب طبيعة أراضيهم، لتجنب بذل جهود ضائعة في مساحات يمكن استثمارها بزراعات أكثر ملاءمة ويمكن أن تؤمن لهم إنتاجية جيدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image