شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حكايات نساء دير الزور الهاربات إلى العمل الشاق في ريف السويداء ودرعا

حكايات نساء دير الزور الهاربات إلى العمل الشاق في ريف السويداء ودرعا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

السبت 27 أبريل 202402:49 م

تخيلت حسيبة (40 عاماً) القادمة من "دير الزور" أن جنينها سيقع من بين رجليها، فهي لم تنقطع عن العمل حتى الشهر التاسع طلباً للقمة العيش. حسيبة تعمل في المشاريع الزراعية مثل عشرات النساء الوافدات إلى ريف "السويداء" و"درعا" و"اللاذقية".

حسيبة وضحى ونورا وهيام، هن أربعة من بين عشرات النساء، ومعهن يافعون وأطفال نزحوا من "دير الزور" "الحسكة" و "البوكمال" و"تل حميس" و"الرقة" ومدن سورية أخرى، وقد انتقلوا بعد الحرب إلى الجنوب، ومنهم من اتجه إلى اللاذقية أو سهل الغاب هرباً من الخوف والجوع، فاستقر بهم المقام في مناطق ريفية، في مزارع أو خيام أو منازل قديمة، في ظروف متشابهة إلى حد كبير تغيب عنها الرحمة.

عاملات بالسخرة

النساء لا يُجمّلن أوضاعهن ورحلة الشقاء وهن يطاردن لقمة العيش بالعمل الزراعي في الحقول بأجر بخس لا يزيد عن 30 ألف ليرة سورية (دولاران) مقابل 8 ساعات أو أكثر، وهو مبلغ لا يكفي لشراء كيلو سكر، وكيلو أرز لعائلات لا يقل عددها عن عشرة أفراد بين كبار وصغار، مما يفرض خروج أكثر من عاملة من العائلة الواحدة.

رحلة حسيبة من "دير الزور" مع أولادها وزوجها لم تكن الأطول ولا الأخطر لتصل لريف السويداء منذ 12 عاماً كما حدثتنا، فكل يوم هو معركة حقيقية مع لقمة العيش، والبحث عن حياة كريمة بالعمل في العشابة وزراعة الشتول ومد رولات النايلون فوق البذور والتسميد والريّ وفي مواسم الجني والقطاف لساعات طويلة، لتعود في نهايتها وهي تحمل كيلوغرامين من البندورة وغيرها من أنواع الخضار التي يعطيهم إياها صاحب المشروع، ولتحصل على أجر محدود للساعة يتراوح بين 3000 و 3500 ليرة، وقبل القطاف لا بد من الشراء من الأسواق بسعر يتجاوز سعر يوميتها. 

تخيلت حسيبة النازحة من "دير الزور" أن جنينها سيقع من بين رجليها من شدة التعب، فهي لم تنقطع عن العمل في المشاريع الزراعية في السويداء ودرعا حتى الشهر التاسع طلباً للقمة العيش 

تقول لرصيف22: "هربنا من بلدنا قبل 12 عاماً، كان الخوف والجوع في كل مكان، فلا عمل ولا أمان، فخرجنا بلا مال ولا طعام، ونزلنا في خيام تستر رؤوس أولادنا من البرد والحر، وبقينا عدة سنوات فيها لكن ظروف البرد والطين وعدم القدرة على استئجار أرض مناسبة للخيمة جعلتني أبحث عن غرفة قديمة، ففي أضعف الإيمان الجدران ستحمينا".

القليل أفضل من لا شيء

لم تجد المرأة الأمية فرصة للعمل، ومنذ وصولها تواصلت هي وعشرات من القادمات مع من يسمى "الشاويش"، أو "الوقاف"، وهو صاحب سيارة كبيرة حمولة 3 أطنان أو أكثر، مهمته نقل العاملات إلى المشروع، والشاويش هو من يقرر مكان العمل وساعاته وانضمام العاملة للورشة من عدمه كما تقول.

السيدة التي أنجبت ستة أولاد بعد وصولها، إلى جانب أربعة انتقلوا معها إلى هذا الريف، تحمل ابنتها الصغرى بعمر شهرين لترضعها، وقد تعطلت هذه المرة لفترة أطول بعد الولادة، فخرجت بناتها لعدة أيام بدلاً منها لضمان الحصول على بعض المال لتأمين الطعام.

تضيف: "عملت بشكل يومي حتى نهاية الشهر التاسع، فكنت أصعد إلى السيارة العالية وأنزل منها، وأخشى وقوع الجنين من بطني من شدة التعب، ولدت في الشهر الثاني خلال موسم الأمطار والعمل قليل، وحاولت الحصول على بعض الراحة، فقامت بناتي الشابات بالعمل بدلاً مني، فنحن فقراء، إن اشتغلنا حصلنا على الطعام وإن لم نوفق بورشة أو عمل فقد نموت من الجوع، مع العلم أن ما نحصل عليه لا يسد رمقنا، ولكنه أفضل من لا شيء".

تتلقى حسيبة يوميتها أو يومية البنات من الشاويش، وتتجه بها إلى الدكان لشراء الطعام والصابون وتجمع شيئاً منها لإيجار الغرفة القديمة، على أطراف مزرعة بعيدة عن قرية الثعلة (14 كم عن مدينة السويداء القريبة لحدود درعا)، وهي الغرفة التي استأجرتها بـ150 ألف ليرة، أي ما يقارب قيمة عمل ستة أيام في حال عملت الشهر كاملاً، أما في فترة التعطل في موسم الشتاء فتعتمد على عمل زوجها كمياوم في فرن القرية، وقد تمر أيام لا يأكلون فيها سوى الخبز الحاف كما تقول.

أردت أن أتعلم مثل فتيات القرية

كانت أمنية ابنة حسيبة ذات الـ 15 عاماً واسمها عذاب، أن تدخل المدرسة وتتعلم مثل الشابات اللواتي تراهن في قرية "الثعلة" التي تزورها مع والدها لشراء الخضار والحاجات البسيطة.

تقول عذاب لرصيف22: "أقف بجانب شابات يرتدين ملابس جميلة، شعرهن جميل ومسرّح ولا يخشين على ما يلمسن من حاجات من التراب العالق في أيديهن من العمل كما تكون يداي، ليتني تعلمت وحصلت على بعض الراحة أو عمل يساعدنا، لكن هذا صعب جداً، فحتى لو تزوجت فإن العمل بهذه المشاريع فرصتنا الوحيدة للعيش". 

كانت أمنية ابنة حسيبة ذات الـ 15 عاماً أن تدخل المدرسة وتتعلم مثل الشابات اللواتي تراهن في قرية "الثعلة" التي تزورها مع والدها لشراء الخضار والحاجات البسيطة.

أما وضحة (45 عاماً) وهي أم وجدة منذ سنوات فتقول لرصيف22 إنها خرجت من الدير إلى ريف اللاذقية مع عائلتها لتعمل في مشاريع الخضار، لكنها لم تجد مكاناً مناسباً للسكن، فالأجور القليلة دفعتها للانتقال إلى السويداء منذ 8 سنوات تحت أمرة شاويش من معارف أقاربها، حيث سكنت الخيام بالقرب منهم.

تضيف لرصيف22: "أخرج مع النساء عند الخامسة صباحاً يومياً بانتظار سيارة الشاويش، ولا أتمكن من الصعود للسيارة دون أن تمتد يد الشابات أو رفيقاتي ليساعدنني على الصعود، وليس النزول بأسهل، قد نقع وقد لا أتحمل تدافع الأولاد والبنات، لكن في كل الحالات لن أتمكن من التوقف عن العمل".

لدى وضحة خمسة أولاد، ومنهم من يرافقها للعمل، وهي تحتاج لعلاج دائم للقولون والمعدة، إذ زارت عدة أطباء ومستشفيات، وكل مرة كانت تتعافى تعود للعمل، فمن سيشتري الخبز والدواء والدخان وغيرها من الاحتياجات، لكنها لا تكف عن تذكر مواسم الحصاد في الدير عندما كانت تعمل مع أعمامها وأخوالها وأولادها لشهر أو شهرين في قريتها، وتستقر في منزلها، ورغم أنه كان مبنياً من الطين، كان أكثر دفئاً من خيام تعصف بها الريح طوال موسم الشتاء الذي عايشته في "ريف السويداء" بجانب قرية "الدور" على حدود ريف درعا.

الأصغر سناً يحلمن بعمل آخر

هيام (36 عاماً) أم لطفلة واحدة، وهي الزوجة الثانية، وتستقر مع أسرة زوجها في ريف "درعا" على أطراف قرية "نامر"، حيث حصل زوجها على عمل في إحدى مطاحن المنطقة، وخرجت هي للعمل في المشاريع الزراعية مع ضرتها وبنات زوجها، لذا تترك ابنتها عند أمها العجوز، ويومياً تنطلق عند الخامسة في سيارة تحمل أكثر من خمسين امرأة وشابة وطفلاً لوقت يزيد عن الساعة ونصف للوصول للمشاريع التي هي في الغالب مناطق متطرفة وبعيدة.

تقول لرصيف22: "لا نجد مكاناً مناسباً للجلوس في أرضية السيارة، فالعدد كبير جداً ومعنا نساء تصل أعمارهن إلى 70 عاماً، فنضطر جميعا للوقوف بالسيارة التي تميل بنا يميناً ويساراً. ومنذ الرحلة الأولى عندما بدأت العمل قبل عشر سنوات قبل أن أتزوج كنت أخشى من هذه الرحلة، فقد تعرضنا لحوادث كثيرة، والسيارات تجوب طرقاً زراعية وعرة، وعدا كونها غير آمنة، فالحمولة كبيرة جداً وفي حال حصل الحادث لا يتحمل أحد مسؤولية علاجنا.

هيام تتمنى الحصول على عمل تساعد به ابنتها وزوحها غير الخروج للحقول، وقد حاولت البحث مع الجمعيات لتتعلم أي مهنة، لكنها لم توفق، ليبقى الخروج للمشاريع الحل الوحيد أمامها للحصول على قوتهم اليومي.

أما نورا (44 عاماً) من "الحسكة" فهي الزوجة الأولى مع زوجتين أخريتين، أنجبت كل منهن عدداً من الأولاد، بينما خضع الزوج لعملية جراحية للقلب ويعجز عن القيام بأي عمل، لذا عليها الخروج لتؤمن معيشة الأسرة، لكن أكثر ما يحزنها أنها تضطر لترك أولادها الصغار والخروج لساعات طويلة تعود بعدها في الرابعة أو الخامسة مساء مع زوجات زوجها لتكمل العمل لتحضير الطعام لعائلة كبيرة، عائلة لا تكفيها الأجور اليومية للزوجات الثلاث للطعام والعلاج.

تقول لرصيف22: "ننتقل يومياً لحوالي ساعة للوصول لمشاريع طفس في ريف درعا، منذ 12 عاما. لكن الغلاء والأجور القليلة في اليوم لا تكفينا، إنما بقينا للحصول على عمل، ففي قرانا في الحسكة لا عمل ولا معيشة جيدة، ومع هذا نحنّ لتلك الأيام التي كنا نعمل فيها بجني القطن لشهرين تكفينا لأشهر الشتاء، ولا نضطر لهذا الشقاء نحن وأولادنا وأحفادنا".

قبل الحرب

الصحافي ياسين اللبان تابع واقع عاملات وعمال المشاريع الزراعية في "درعا" في العام 2007، وجمع تفاصيل دقيقة لتلك المرحلة في مقال تشارك به مع الصحافي بشير فرزان ونشر في مجلة "الأزمنة"، في مرحلة كانت للعمل الزراعي إيرادات أفضل بكثير من اليوم، واختلفت فيها ظروف العمل. 

نورا والتي جاءت من "الحسكة" هي الزوجة الأولى مع زوجتين أخريتين، أنجبت كل منهن عدداً من الأولاد، بينما خضع الزوج لعملية جراحية للقلب ويعجز عن القيام بأي عمل، لذا عليها الخروج لتؤمن معيشة الأسرة وترك أولادها حتى الخامسة مساء

يقول: "كل تجمع كان عبارة عن عائلة، ومنهم من جمع ثروات كبيرة، وكان القادم إلى درعا في تلك الفترة يشبه من يغترب للخليج، حيث ازدهرت الزراعة، وتحسنت أوضاعهم، لكن الأوضاع اختلفت بعد الحرب، إذ زاد عدد الوافدين ولم تعد الإيرادات كافية، وتفاقم غلاء المعيشة لتصبح الأجرة اليومية غير كافية لطعام العاملة وأسرتها".

ووفق اللبان تنتشر تجمعات الوافدين من المنطقة الشرقية اليوم حول القرى والبلدات وبالقرب من البساتين ومشاريع الزراعة، كمدينة "طفس" وبلدة "خربة غزالة" والقرى الحدودية بالقرب من ريف "السويداء"، واللافت في هذه التجمعات أن العنصر النسائي يطغى على أغلب قاطنيها مع وجود نسبة من الشباب وكبار السن وعدد لا يستهان به من الاطفال.

طبيعة العمل محصورة فقط في كل ما يتعلق بالعمل الزراعي، من زراعة شتول وتعشيب، وقطاف، وتوضيب وتحميل. لكن ما يلفت الانتباه أن أغلب من يقوم بهذه الأعمال نساء تراوح أعمارهن بين الخامسة عشرة والخمسين وحتى الستين، مع وجود نسبة ضئيلة من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثلاثين وعدد كبير من الأطفال. 

بالكاد يصل أجر العاملات في الحقول والزراعة لدولاين يومياً، وهذا الأجر القليل لا بد أن يكفي للطعام ولتوفير أجرة المنزل ولأية احتياجات للأسرة. 

ساعات العمل تمتد من السادسة صباحاً وتنتهي عند الثالثة مساءً، والأجور التي يتقاضينها حسب ما أكدن تتراوح بين 3500 و 5 آلاف في الساعة، في حين كانت تتراوح قبل الأحداث وتدهور القيمة الشرائية للعملة بين الخمسين والمائة ليرة في الساعة، و"الوقاف" هو من يؤمّن العمل، ومن يتفاوض مع أصحاب المشاريع على أجرة الساعة، وهو أيضاً من يتقاضى الأجرة ويقوم بتوزيعها على العاملات والعاملين مقابل نسبة يتم الاتفاق عليها.

يضيف: "من خلال التجوال على عدد من هذه التجمعات تبين أن قاطني كل تجمع ينتمون إلى نفس القرية أو العشيرة، وتختلف الكثافة السكانية بين تجمع وآخر، فتصل في بعض التجمعات إلى أكثر من 500 شخص، جميعهم محكمون بعادات وتقاليد العشيرة، كما لوحظ أن مسألة تعدد الزوجات تعد أمراً مألوفاً ومقبولاً، فبإمكان الشخص الواحد أن يجمع بين أربع زوجات مع تراجع كبير لفرص التعليم التي تنذر بمستقبل مؤلم لأطفال العاملات".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image