أثارت واقعة الجن "حمو" في الجنوب الشرقي المغربي سُؤالاً حول استمرار مغاربة بالإيمان وتقديس الأساطير والخرافات، في زمن سمتُه التطور والحركية.
وتعود تفاصيل هذه الواقعة إلى نصب امرأة تنحدر من إقليم "تنغير" في الجنوب الشرقي المغربي على أكثر من 60 ضحية، وذلك بإيهامهم بقدرتها على مضاعفة الأموال، إذ تضعها داخل صندوق تدّعي أن جناً يسكنه يدعى "حمو"، وهو الذي يعمل على مضاعفتها بعد شهر أو شهرين.
لم تكُن هذه الواقعة هي الأولى في عمليات النصب عن طريق السحر والشعوذة، بل سبقتها مجموعة من الحوادث التي راح ضحيتها عشرات المواطنين المغاربة باختلاف مستوياتهم الفكرية والأكاديمية والطبقية، حيث يستغل المشعوذون البنية الفكرية لعدد من المغاربة المتشبعين والمتشبثين بهذه الثقافة، ممن يجدون أنفسهم ضحايا لعمليات احتيال من قبل أشخاص يزعمون البركة، ويرتدون جلباب الدين.
"ضربة عين"، "واكل توكال"، "ساحرين لك"، "معكسين لك"، "واكل مخ الضبع"... هذه كلها مصطلحات يتداولها بعض المغاربة من فئات عمرية مختلفة، يجيبون من خلالها ويحيلون إليها صدمات يعيشونها في حياتهم، كعدم الالتحاق بوظيفة، أو عدم زواج الفتاة، أو تأخر الحمل، أو حتى الاضطرابات النفسية التي يعيشها الفرد أحياناً.
ووفق دراسة أنجزتها الباحثة هناء شريكي، تحت عنوان: "الشباب المغربي والقيم: بين الثبات والتغير"، فإن 78% من الشباب المغاربة الذين تم استجوابهم يؤمنون بوجود العين الشريرة، كما يصدق 55.6% منهم بأن الحسد يؤذي الناس، في حين يعتقد 69% بوجود السحر، عدا أن 39.9% من الذين شاركوا في الدراسة سبق أن زاروا الأضرحة والصلحاء لقضاء حوائجهم.
جدتي لأبي سحرت منزلنا
"أؤمن بوجود السحر والسحرة، باعتبار أنهما ذُكرا في القرآن الكريم، لكنني لم أرَ فعاليته إلا من خلال تجارب عائلية عشتها، حينها تأكدتُ بما لا يدعُ مجالا للشك بأن السحر موجود حقيقة، وله تأثيرات كبيرة على الإنسان كفرد أو كأسرة أو حتى كمجتمع".
أثارت واقعة الجن "حمو" سؤالاً حول استمرار مغاربة بالإيمان بالخرافات، والقصة عن امرأة نصبت على أكثر من 60 ضحية، بإيهامهم بقدرتها على مضاعفة الأموال، بعد وضعها في صندوق تدّعي أن جناً يسكنه يدعى "حمو"
هذا ما تقوله فاطمة الزهراء (20 عاماً) لرصيف22، وتضيف: "عشنا سنوات صعبة مع أبي، فكان بمجرد أن يدخل إلى المنزل تتغير سحنةُ وجهه، ويبدأ بالصراخ لأتفه الأسباب، أحياناً كان يضربنا دون سبب، أو لمناقشة بسيطة، ثم علمنا لاحقاً بعلاقته مع امرأة أخرى، كان يُنفق عليها كثيراً من أمواله، بل وباع بعضاً من ذهب أمي ليمنح ثمنه لها، أحسسنا بكراهيته لنا جميعا، حتى لإخوتي الصغار".
وتضيف: "لم تُفكر أمي سوى أن هذا الرجل مسحور، فأقنعته بالتوجه لأحد الفقهاء، وهو ما كان بالفعل، فمنحهُ بعضاً من الأعشاب ثم تقيأ شيئاً أسود اللون، منذ تلك اللحظة بدأت حالته تتحسن شيئاً فشيئاً إلى أن عاد لطبيعته، فعلمنا حينها أن أبي تعرض للسحر والشعوذة".
قصة أخرى ترويها فاطمة الزهراء، تقول: "كُنت أبلغُ من العُمر بضع سنوات، في منزل جدتي لأبي، وطلبنا من هذه الأخيرة أن تخرج معنا، لكنها رفضت ذلك، حين عدنا وجدنا رائحة كريهة داخل المنزل، لنُفاجأ بها أمام المِجْمَر، تتلو بعض التعاويذ المجهولة، حين سألناها ماذا تفعل، أجابت بطريقة مباشرة أنها تَسحرُ لنا، منذ تلك اللحظة أصبحت علاقتنا بها مضطربة جداً، بل وأصبحت علاقتنا داخل أسرتنا مُضطربة، لأن جدتي كانت تكره أمي كرهاً شديداً".
وتربط فاطمة الزهراء بين القصتين وتحيل سبب تغيّر أبيها إلى السحر الذي كانت تمارسه جدتها، فقد كان غرضُها الأول والأخير أن تفرق بين أمها وأبيها بحسب اعتقادها وكلماتها. وهي بذلك ليست استثناء عن الكثير من الشباب والشابات في المغرب ممن يحيلون حوادث الحياة اليومية إلى السحر، وفقاً لما تقوله الأرقام عن التصديق بها وبأثرها على الحياة.
الحشيش هو السبب.. لا الجن
يعيشُ أيوب (32 عاماً) الآن مع زوجته وأمه وأخيه وزوجته مع أبنائهما، ويصف الحياة بالمستقرة، لكنَّه لن ينس أبداً يوم كادت هذه العلاقة العائلية المتميزة أن تعصف بها الرياح بسبب كلمة ألقاها أحد الفقهاء الذي يدّعي علمه بالغيب، فرغم الاستقرار الذي تعيشه الأسرة حالياً، إلا أن أيوب لا ينفي أن القلوب مشحونة بعض الشيء مما حدث سابقاً.
تظهر دراسة حديثة أن 78% من الشباب المغاربة يؤمنون بوجود العين الشريرة، كما يصدق 55% بأن الحسد يؤذي الناس، في حين يعتقد 69% بوجود السحر.
يقول لرصيف22: "بعد مرور أشهر على زواجي، بدأت أشعُر باكتئاب حاد، أصرخُ كثيراً وأعاتبُ الكُل على أمور بسيطة، ثم لاحقاً، لم أعد قادراً على صُداع الأطفال، أو حتى ضحك العائلة، وحين روت أمي حالتي لإحدى نساء المنطقة، وجهتها لأحد الفقهاء، إيماناً منهما ومني أيضاً أن مساً أي (صرعة جن) قد أصابني، فحضر الفقيه إلى منزلنا عصراً".
ويكمل: "قبل أن يبدأ عمله بدأ يساومنا حول الثمن، أخبرنا بالدراجة المغربية (والله أنا غادي نحيد ليكم 100 درهم، ولكن الجواد الجن، كيطلب 1200 درهم، عطيوني أنا غير 100 درهم والباقي راه ديال الجواد)، ولم نجادله في ذلك، وبعدها بدأ يذكُر طلامساً لم نفهم منها شيئاً، ثم اشتد بياض عينيه، وبدأ يتمتم بعبارات دينية، وبعد دقائق ألقى بكلمته، فقال إن زوجة أخي هي التي سحرت لي ولزوجتي حتى وصلتُ لحالي هذه".
ويتابع: "في تلك اللحظة اصفرَّت وجوه الجميع. وصُدمت كثيراً لأن زوجة أخي عاشت معنا 10 سنوات ولم نر منها يوماً سلوكاً مشيناً، بل كانت هي التي تكلفت بعناء المنزل بعد وفاة أبي، لكن أخي حين سمع قولَ الفقيه، فكر مراراً بالانتحار ووضع حد لحياته، وفكر أن يقتُل زوجته، وأقسم لأمي إن رأى وجهها ليذبحها، حاولت أمي تهدئة الأمور لكن دون جدوى، فزوجة أخي كانت تحاولُ بكل جهدها أن تبرئ نفسها، حتى سقطت مغشياً عليها، ودخلت في عزلة تامة، وأُبعدت من الكل".
بعد أن يروي هذه القصة يقول إن حالته لم تتحسن، إلى أن زار طبيبة مختصة، وتابعت حالته الصحية، ويقول بأن الحشيش الذي كان يدخنه كان هو السبب في كل ذلك.
يختم: "إيماننا بالسحر والشعوذة، كاد أن يجعلني أتسبب بجريمة في حق إنسانة لم نر منها إلا الجميل، على بُعد أمتار، كدتُ أن أجعل أبناء أخي يتامى، والسبب غيبيات فقيه".
زوجتي لم تحمل، فتوجهنا إلى الفقيه
تجربة أخرى عاشها خالد (29 عاماً)، لكن بتفاصيل مغايرة. سببُ توجه خالد لأحد الفقهاء حسب ما رواه لرصيف22 هو تأخر حَمل زوجته، "لم نسأل الأطباء، بل اتفق الجميعُ أن نتجه لأحد الفقهاء" يقول.
عانى أيوب من مشاكل عائلية وبعد أن أحضر "الفقيه" للمنزل وهي تسمية العراف، أخبره أن زوجة أخيه هي التي سحرت له، ولتتحول حياة العائلة جميعها إلى جحيم، قبل أن يزور طبيبة ويتعالج من إدمان الحشيش الذي يقول إنه كان السبب الحقيقي في مشاكله وزوجته
ويُكمل: "أخبرني الفقيه أن الأمر يعود إلى التوكال (السحر عن طريق الأكل)، بل منحني مواصفات عن المرأة التي قامت بذلك. من المصادفات أن المواصفات شابهت إلى حد كبير أم زوجة أخي، فأخبرت الجميع بمن فيهم أخي أنها السبب في مشكلتي لأني صدقت الفقيه، حينها توترت علاقتي به كثيراً، لأنه لم يصدق ذلك، وحاول مراراً أن يعتزل العائلة، ويستأجر شقة بعيدة لنفسه إلا أن أمي منعت ذلك".
هذا الأمر جعَل الفُرقة تنهش العائلة، بين مُصدق للفقيه، ومُنكر لذلك، وما زالت آثاره بادية إلى الآن، لأن أم زوجة أخي حين علمت باتهامي لها، لم تعد تزور ابنتها نهائياً، في منزلنا.
الجهل… ثم الجهل
يؤكد الناشط والباحث في الأنتروبولوجيا محمد هروان لرصيف22، أن السبب الأول لاستمرار هذه الظواهر، يعود إلى الجهل. وليس الجهل بمعنى الأمية، إنما الجهل المناقض للوعي، حين نجد أساتذة وأكاديميين ونخباً من المجتمع يؤمنون بالسحر ويتداولونه.
تقول فاطمة الزهراء بأن جدتها لأبيها سحرت لعائلتها لتفرّق بين أمها وأبيها، وأن هذا السحر تسبب بكراهية الأب للأم والأبناء، وسوء المعاملة والضرب، وحتى إقامته علاقة مع امرأة أخرى.
يقول: "هذا الجهل تُكرسه من جانب آخر السياسية التعليمية والإعلامية التي لا تُحاول نهائياً معالجة هذه القضايا، وتثقيف الشباب بعدم جدوى هذه الممارسات أو حتى الإيمان بها، كما يقول".
ومن جانبها ترى الباحثة في علم النفس مرية شطيبي أن العوامل متعددة، وترجع أولاً لتجذرها في الذاكرة الجمعية، كونها من الطقوس والاعتقادات الراسخة في الثقافة المغربية.
تقول لرصيف22: "أضحى من الصعب الإقلاع عنها، فالأسرة قبل أي أحد تُنتجها بشكل كبير، عن طريق الحكايات التي تسردها لأبنائها، أو حتى ممارستها، ما يجعل الصغار يؤمنون بذلك دون وعي منهم".
وتختم بالتنويه إلى جانب مهم يتمثل برعاية هذه الثقافة بشكل رسمي، تقول: "لا ينبغي إنكار العامل السياسي أيضاً خصوصاً في ظل انتشار الزوايا والأضرحة التي تعمل الدولة من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على استمراريتها، والعناية بها، وأيضاً لاحتضانها لمجموعة من المواسم التي تنتشر فيها هذه الظواهر بشكل كبير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين