على ما يُعرف باسم "باصات سكانيا" جرت العادة أن نشاهد على الشاحنات الكبيرة جملاً من نوع "الأميرة فلانة"، أو "الأمير فلان"، أو "محبوبة فلان". كثيراً ما يكون هذا الـ"فلان" من أبناء صاحب السيارة، وغالباً ما يكون أصغر أبنائه.
وهناك من يطلق مسميات على سيارته، كأن يضع على زجاجها الخلفي أو على مؤخرة الشاحنة اسم "الشيخة"، أو "أم العواصف"، أو "العرندس"، ويكون القصد إن كان اللفظ مؤنثاً السيارة نفسها، وإن كان مذكراً مثل "العرندس" أو "الذيب"، فالمقصود هو صاحب السيارة أو سائقها.
"لا تلمسني يا غالي"
وقد نصادف جملة مكتوبة على باب حافلة نقل ركاب مثل "لا تلمسني يا غالي، بفتح وبسكر لحالي" وهي جملة اختارها أبو محمد على باب حافلة نقل الركاب التي يمتلكها، بعد أن ركّب آلة ميكانيكية مساعدة لفتح الباب وإغلاقه بكسة زر، بعد أن اضطر أكثر من مرة لتصليح باب الباص بفعل رعونة إغلاق الباب من قبل بعض الركاب، ولخشيته على الآلية التي ركبها من العطب خلال محاولاة فتحه قسراً. لذا وضع أبو محمد هذا التنبيه الظريف، جاعلاً إياه على لسان الباب نفسه.
الكتابة على السيارات تتجاوز كونها واحدة من أهم مساحات التعبير في الهوامش، لتغدو عالماً خاصاً لدى بعض الأشخاص.
هناك من يُطلق مسميات على سيارته، كأن يضع على زجاجها الخلفي أو على مؤخرة الشاحنة اسم "الشيخة"، أو "أم العواصف"، أو "العرندس" ويكون القصد إن كان اللفظ مؤنثاً السيارة نفسها، وإن كان مذكراً مثل "العرندس" أو "الذيب" صاحب السيارة أو سائقها
عبر صفحته الشخصية نشر الصحافي السوري علاء خطيب، صورة لسيارة تكسي في العاصمة السورية دمشق، وقد وضع سائقها ملصقاً، يظهر قيام شخص بإجبار آخر على الركوع تحت تهديد السلاح.
متسائلاً: "إلى أي مرحلة وصل المجتمع السوري من حب العنف حتى يقوم شخص ما بتصنيع ملصق لشخص يقوم بإعدام آخر من خلال سلاح ناري، ولماذا يقوم شخص آخر باختيار هذا الملصق ووضعه على سيارة أجرة".
ويقول خطيب لرصيف22: "قد تبدو مثل هذه الملصقات عادية، وتمر في يوم أي واحد منا بشكل اعتيادي إن صادفها دون أن يمنحها مساحة من التفكير، لكن لم يكن الأمر سهلاً عليّ حين صادفت هذا الملصق، وخطر في بالي حال المجتمع الذي يقبل بمرور مثل هذه الملصقات أو أية مساحات مشابهة للتعبير بمضمون يشابه ما في هذا الملصق، يكون قد وصلت إلى مرحلة سيئة للغاية، لا بد من التفكير في مثل هذه الحالات، بوصفها آلية خطرة للتعبير عما يدور في ذهن البعض، فالأمر لا يمكن اعتباره من باب الدعابة أو التسلية أو محاولة تمييز سيارة أو شخص، هي ذهنية خطرة لدى البعض".
انتشار السلاح بات مسألة طبيعية بين السوريين، وهذا ما يجعل مثل هذا الملصق يمر مرور الكرام دون أن يستشعر أحد الخوف من وجوده بحسبه، فسنوات الحرب جعلت السوريين خبراء بالأسلحة.
ويختم: "لو كان هذا الملصق موجوداً على سيارة في دولة أخرى، مجاورة أو بعيدة، هل كان سيمر دون عقوبة أو إجراء قانوني، وهل كانت الجهات المعنية في هذه الدولة ستترك الأمر دون اعتباره تهديداً مباشراً من صاحب السيارة لأي فرد في المجتمع؟".
"لولا همومي ما ركبت عمومي"
يعمل أحمد الحسن (30 عاماً) سائقاً لسيارة أجرة في دمشق، وعلى الرغم من أنه يحمل شهادة في الحقوق، لم يجد فرصة عمل مناسبة تكفي احتياجات أسرته، فجمع مبلغاً من المال بالتعاون مع شقيقه من بيع قطعة أرض، ثم قام بشراء سيارة أجرة، وبعد فترة وجد نفسه وقد اختار جملة "لولا همومي ما ركبت عمومي".
بعد أن عجز عن العمل بشهادة الحقوق عمل أحمد سائقاً لسيارة أجرة في دمشق، واختار جملة "لولا همومي ما ركبت عمومي" ليكتبها على السيارة وتعبر عن حالته.
يقول الحسن لرصيف22: "فرصة العمل المحترمة لحامل شهادة الحقوق نادرة، فالشركات الخاصة تريد من لديه خبرة لا تقل عن ثلاث سنوات، وفرصة السفر والعمل بهذه الشهادة في دولة خليجية شبه مستحيلة لكون الخبرة أيضاً أساسية، ولا وقت لشاب في عمري لإضاعة سنوات من عمره في محاولة تحصيل الخبرة على حساب العائد المادي، كما أن العمل في مهنة المحاماة لا يبدو جيداً قبل أن يبني الشخص خبرة تراكمية من سنوات الترافع الناجح وصولاً إلى توصيفه بالمحامي الشاطر، وهذا الأمر يتطلب التدريب لمدة عامين على الأقل لدى محام آخر، لينال حامل شهادة الحقوق حق المزاولة ويحصل على لقب (أستاذ) من نقابة المحامين ويحق له أن يفتتح مكتب لنفسه".
ويضيف: "قبلت لإجازة الحقوق التي أحملها أن تكون قطعة زينة على جدار غرفة الاستقبال في منزلنا، لأعمل سائقاً لسيارة أجرة، وتطبعت بطبع السائقين بعد سنوات في هذه المهنة، والجملة المكتوبة على خلفية سيارتي تعبر عن كل الهموم الحياتية التي أعيشها، ويعيشها غيري من الشبان الذين يجدون في مهنة "سائق تكسي"، بديلاً عن السعي وراء الخبرة التي لا يمكن تحصيلها بسهولة، فإما السعي وراء الخبرة الحقوقية بعائد مادي سأصنف من خلاله بالفقير، أو العمل كسائق تكسي وإن سُألت أقول الحالة مستورة والحمد لله".
متى يقال للحصيني "نخيتك يا ذيب"؟
أما مهند اليوسف (35 عاماً)، فيمتلك سيارة كتب عليها جملة "بتونس بيك.. وإنت ورايا"، مستحضراً أغنية وردة الجزائرية، ويقول لرصيف22: "اخترت هذه الجملة من باب الدعابة التي قد يلتقطها أي سائق سيارة يضطر للبقاء خلفي في مكان ما، خاصة في الشوارع الضيقة المزدحمة، وقد تؤدي هذه الجملة إلى منعه عن استخدام بوق السيارة لتنبيهي للتعجيل في العبور أو فتح الطريق، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على كتابتها نسيت السبب الذي دفعني لاختيارها أساساً، وأقول دائماً في الرد على سؤال أي شخص: "عجبتك ضحاك، ما عجبتك سامحنا".
فايز أبو محمد، كتب على حافلة نقل الركاب التي استأجرها ليعمل سائقاً لها على أحد الخطوط التي تربط ريف الحسكة الجنوبي بالمدينة نفسهاجملة "أحيانا تجبرك الظروف تقول للحصيني نخيتك يا الذيب"، و"الحصيني"، هو نوع من الثعالب، يُعرف في مناطق أخرى من سوريا باسم "الجقل"، ويتصف بالجبن والخوف، ويستخدم أبناء المنطقة الشرقية اسم هذا الحيوان لإسقاط صفات "الخسة والجبن"، على شخص ما، وبذلك يكون معنى الجملة أن ظروف المرء قد تدفعه لأن يتذلل لشخص سيء، وأن يرفع من شأنه إلى حد وصفه بـ "الذئب".
كتب فايز على حافلة نقل الركاب الخاصة به جملة "أحيانا تجبرك الظروف تقول للحصيني نخيتك يا الذيب"، كرسالة إلى شخص بعينه كان قد قصده بخدمه، لكنه وبعد أن ساعد فايز لم يتوقف عن تذكيره وتذكير الناس بالقصة، والتمنن بها
فايز الذي دخل العقد الخامس من العمر كتب هذه الجملة لإيصال رسالة محددة لشخص بعينه، يقول لرصيف22: "كتبتها بعد أن احتجت لمساعدة شخص تنطبق عليه صفات الحصيني في قضاء حاجة قانونية، عجزت عن حلها عبر العديد من الأشخاص، وتم الأمر فعلا، وبدلاً من أن يكتفي بالشكر والهدية، راح يتحدث في القرية عن مساعدته لي، وأني لولاه لكنت ما زلت عالقاً في تلك المشكلة، الأمر الذي دفعني لأن أكتب هذه الجملة على السيارة علّ الرسالة تصله، فيكف عن الحديث فيما صنع".
وعبارات طائفية ومهينة أحياناً
عبر صفحته الشخصية ينشر شخص يعرف نفسه باسم "أبو عمر الطرطوسي"، صورة لزجاج خلفي لسيارة ربما يمتلكها، كتب عليها جملة "بحبك ع كثر ما في أرامل بطرطوس، وع قد ما ضحوا صبايا العطاء مع الروس".
وهو يقصد السخرية من حجم الخسائر البشرية المسجلة بين شبان محافظة طرطوس خلال سنوات الحرب، ويوجه الاتهامات لمجموعة ناشطات "صبايا العطاء"، بتقديم خدمات جنسية للقوات الروسية المنتشرة في الأراضي السورية.
رصيف22 تواصل مع الطرطوسي، وفي تفسيره للجملة السابقة يقول بأن السيارة التي نشر صورتها لا تعود له، ولكنها تمثل رأيه، وأن المقصود من الجملة المكتوبة فعلاً هو السخرية والشماتة من أهالي طرطوس، ومن مجموعة "صبايا العطاء"، دون أي يكون لديه أي دليل على اتهاماته.
القانون غائب
هناك من يكتب جملاً دينية على الزجاج الخلفي لسيارته، بعضها يطلب الصلاة على النبي محمد، وأخرى من الدعاء، والبعض يضع على سيارته ملصقاً لسيف علي بن أبي طالب، ويكتب جملة مثل "لا فتى إلا علي"، والبعض يعتبر هذه الأخيرة تعبيراً عن الطائفية لا الدين.
الغريب أن قانون المرور يمنع وجود أية ملصقات على السيارة، سواء في داخلها أو خارجها، لكن لا يبدو الأمر ملزماً بالدقة الكافية من قبل الجهات المسؤولة عنه. ويتفق كل من سألهم رصيف22 من السائقين وأصحاب السيارات على كون المسألة ليست مخالفة كبيرة قانونياً، وتحل من خلال دفع المخالفة في خزينة شرطة المرور ومن ثم إعادة الملصقات إلى ما كانت عليه إن كان الأمر يتطلب ذلك.
لكن هناك ملصقات لا يمكن لشرطي المرور أن يفكر بمخالفتها، مثل الشعارات والأعلام الوطنية التي تمثل الحكومة السورية.
على الرغم من أن القانون يمنع أية ملصقات على السيارة أو خارجها، إلا أن الأمر لا يبدو ملزماً حقاً، تحديداً في حال وجود أعلام وشعارات وطنية، حيث لا يمكن أن يفكر أي شرطي بالمخالفة.
تصف أستاذة علم النفس في المعهد العالي للفنون المسرحية رفيف الساجر الكتابة العشوائية المتحركة على واجهات السيارات وخلفياتها بأنها نصوص متفلتة من الرقابة، وإشهارات مجتمعية وسياسية وعاطفية متناوبة، وهي رسائل متنقلة على الطرقات والشوارع.
تقول: "هي نصوص موجهة إلى كل مكان بحدث لا تحكمه مهلة زمنية محددة ولا رقابة اجتماعية أو سياسية، نقرأ هذه النصوص المرتجلة على أنها من الفائض النفسي لمجتمع يحيط به الخراب، وينتشر الجهل فيه، ولا ينتظر مستقبلاً معقولاً، وهو إحباط له مسبباته السياسية الواضحة".
وترى ساجر أن مثل هذه العبارات تفسر لحظة اجتماعية متداخلة بين القسوة والخوف واليأس بتهكمية غير سارّة، فعبارات مثل "لك يوم يا ظالم" و"رميت همومي في البحر طلع السمك يلطم"، و"ألف عدو ولا صديق واحد" هي عبارات منتزعة من الروح الإنسانية التي وجدت نفسها فاشلة ومحبطة في مجتمع كبير أغرقته السياسة بفسادها ولا واقعيتها ودونيتها، ولا تُقرأ على أنها عبارات عابرة للاستهلاك التهكمي والفكاهي فحسب، بل هي من واقع متداخل ومحتدم نفسياً ينتظر الإفراج عنه ليجد طريقه إلى الغد.
تقول: "هكذا فإن الشارع بعشرات الآلاف من السيارات يحمل معه شعاراته اليومية في نصوص عشوائية مرتجلة، لكنها موجّهة إلى الجميع، إلى السياسيين وأتباعهم. وإلى المجتمع الذي وجد أنه في خانق ضيق وعليه أن يتحرر من ذلك الخانق ليشم هواء نقياً، ويستبدل شعاراته ويمضي إلى المستقبل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت