شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
وهْم الاضطهاد الزيدي... الجلاد في دور الضحية

وهْم الاضطهاد الزيدي... الجلاد في دور الضحية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتطرف

الثلاثاء 26 مارس 202412:20 م

يحفل تاريخ اليمن المعاصر بسلسلة طويلة من التهميش والاضطهاد والإقصاء للحلفاء والخصوم وفئات اجتماعية وقطاعات واسعة من الشعب: الجنوب سياسياً، الإسماعيلية والبهائية واليهود دينياً، المهمشون من ذوي البشرة السوداء اجتماعياً وثقافياً، والحوثيون سياسياً. ولكن لماذا تحولت قضية صعدة من مظلومية سياسية إلى مظلومية دينية؟

في أعقاب حروب نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الستة في صعدة (2004-2010)، تبنّى الحوثيون خطاب المظلومية بشكل نهائي. فبعد قيام ثورة شباط/ فبراير 2011، وتشكيل مجلس حوار وطني يضم كل الأطراف والجماعات والأحزاب من أجل معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، كانت مظلومية صعدة قد تحولت إلى هوية جديدة لجماعة الحوثي. ولكن هذه المظلومية لم تتحول إلى هوية وطنية، إلا في ذهن من يدّعي وجود تمييز عقائدي، بل انقلبت على جميع الأطراف السياسية في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2014.

المتتبع لرموز جماعة الحوثي، يجد خطاب المظلومية في ملازم ومحاضرات حسين الحوثي، قائماً من دون تلك الحروب الستة، فهو يقوم على محنة الحسين في كربلاء، بمعنى أن محنتها الدينية لا تحتاج إلى فاعل سياسي؛ فقد وقعت قبل قرون عديدة في معركة غريبة وأرض بعيدة عن اليمن. أما حروب النظام وتهميشه السياسي لصعدة، فلا تقل سوءاً عن بقية المظلوميات في اليمن (تكفير الحزب الاشتراكي واجتياح الجنوب عام 1994 مثلاً)، وذلك ليس تبريراً لممارسات نظام صالح، بل لأن الحديث اليوم عن مزاعم اضطهاد الزيدية والهاشميين، إن لم يكن اضطهاداً سياسياً، فهو ليس سوى نوع من التضليل السياسي والأخلاقي والإعلامي في واقع انقلاب جماعة الحوثي على الدولة.

 المتتبع لرموز جماعة الحوثي، يجد خطاب المظلومية في ملازم ومحاضرات حسين الحوثي، قائماً من دون تلك الحروب الستة، فهو يقوم على محنة الحسين في كربلاء، بمعنى أن محنتها الدينية لا تحتاج إلى فاعل سياسي

حركة الشباب المؤمن 

بعد عودة النفوذ القبلي في أواخر سبعينيات القرن الماضي في اليمن، وجدت الثورة الإسلامية الإيرانية في ما لحقها من اضطرابات إقليمية، أرضيةً ملائمةً لرعاية الزيدية السياسية (مثل الكثير من الحركات الشيعية السياسية في المنطقة العربية)، بعد الإطاحة بدولتهم، الإمامة الدينية، في عام 1962. وظهرت في بداية الثمانينيات حركة فكرية سياسية منشقة على غرار الأيديولوجيا الإيرانية، هي حركة "الشباب المؤمن"، التي تنادي بإعادة تشكيل الهوية الثقافية والروحية في الوسط الزيدي. وترافق ذلك مع تحركات خارجية لقادة الحركة الحوثية بين إيران ولبنان. 

غير أن صعود هذه الحركة الدينية في مدينة صعدة التاريخية، بالقرب من مركز السلفيين في دماج، أذن بخلافات جديدة في ظل تغيُّر تحالفات الرئيس صالح بعد تحقيق الوحدة بين الشطرين (1990-1994). وبعد تأييد قادة الحركة الحوثية إقليمياً، تبنت الحركة الزيدية موقفاً أكثر ميليشياويةً من صالح، وأكثر انتقاماً من الغرب وحلفائه كما توضح صياغة الشعار: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام".

منذ التسعينيات على الأقل، روّج الحوثيون في الوسط الغربي ومراكز الأبحاث تحديداً مصطلح marginalized group، أي الفئات المهمّشة، ومدلول هذا المصطلح يجعل هذه الجماعة مظلومةً مجتمعياً بناءً على عرقيتها، وهو ما يجعل التعاطف معها أولويةً لدى موجّهي الرأي العام وصانعي السياسات. فإن كان التهميش يحدث عندما يُستبَعد الناس على أساس العرق ونوع الجنس والطبقة الاجتماعية، فضلاً عن التوزيع غير العادل اجتماعياً واقتصادياً والموارد الجسدية والنفسية، فمن المهم التذكير هنا، أن "المظلوم" سياسياً في ما مضى، أي الحوثي، قد انتقل من مركز الضحية إلى مركز الجلاد، وأصبح اليوم في مركز السلطة يكرّس المظلوميات القديمة على أسس عرقية ودينية واجتماعية ويصنع مظلوميات جديدةً تكاد لا تُحصى.

من التمييز العقائدي إلى التمييز العنصري 

في واقع الأمر، يكشف تصدُّر الخطاب الديني عن أزمة في الهوية الوطنية وغياب للبرنامج السياسي واستعلاء عقائدي مُبطّن، ففي مشاركة جماعة الحوثي (أنصار الله) في الحوار الوطني، وتحريض قائد الجماعة عبد الملك الحوثي على إسقاط الحكومة بعد ارتفاع جرعة النفط، لم تلجأ جماعته إلى العمل السياسي، لممارسة حقها المدني في المعارضة والاحتجاج والمطالبة بتعويضات عادلة وجبر الضرر، شأنها شأن بقية المظلوميات، بل كانت تقدّم نفسها كجماعة دينية لا كحزب سياسي، ولذا تعاملت مع الدولة بذهنية إمامية، فانقلبت على الحوار الوطني وجميع الأطراف اليمنية، بمساعدة من نظام صالح الذي شنّ حروباً ضدها، واضطهدها، ومن ثم أقامت حكمها على التمييز العقائدي الذي يخوّلها الحكم، لتنقلب على شريكها الرئيس السابق علي صالح لاحقاً، وتقتله في آخر المطاف. أما الخطاب الذي دشّنته الجماعة في بداية حكمها، فبات اليوم يستند إلى أجهزة القمع أكثر بكثير من استناده إلى الجماهير، فلا شرعية دستورية ولا شرعية سياسية، وإنما شرعية دينية تكتسبها لشروط بيولوجية كما تعتقد.

ليس الاستبداد والطغيان والنظُم الديكتاتورية أشياء عارضةً على سلطة الحق الإلهي، إذ تمنح الجماعة الحوثية نفسها تمييزاً عقائدياً أسوأ من التمييز العنصري الذي تمارسه تجاه المواطنين، كونه نتاجاً طبيعياً وحتمياً لخطاب التأسيس التمييزي باعتبار أن حكمها تفويض إلهي، يشبه في جانب منه القدر الغامض الذي استنجد به موسوليني في شعاراته الأولى "الفاشستية هي قدر الأمة الإيطالية". وعليه، فإن ممارسات السلطة ليست ممارسات شخصيةً مثل أيّ دكتاتور آخر طالما أنّها تعبّر عن "المسيرة القرآنية". وفي مقابل هذه المسيرة القرآنية، تم تصدير حسين الحوثي بوصفه الـ"قرآن الناطق" كما تعلن الجماعة في شعاراتها، حيث تهيمن تعاليم حسين بدر الدين بصرياً على شوارع صنعاء بشعارات تعكس التمييز العقائدي الذي تمارسه على جميع اليمنيين من مختلف الطوائف.

بعد تأييد قادة الحركة الحوثية إقليمياً، تبنت الحركة الزيدية موقفاً أكثر ميليشياويةً من صالح، وأكثر انتقاماً من الغرب وحلفائه كما توضح صياغة الشعار: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"

ثنائية الضحية والجلاد

منذ إعلان البهائيين عن وجودهم لأول مرة في مؤتمر في صنعاء، روّج الحوثيون لهامش متخيل من المشاركة الاجتماعية والحرية الدينية في أثناء فترة بقاء المبعوث الأممي في صنعاء، وسرعان ما قامت سلطة الحوثي في آب/ أغسطس 2016، باعتقال 67 شخصاً بينهم بعض النساء والأطفال، واعتقلت عدداً منهم بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وفي أيلول/ سبتمبر 2018، اعتقلت عدداً من البهائيين بتهمة الردة، كما قام مسلّحون من جماعة الحوثي في أيار/ مايو 2023، باقتحام الاجتماع السنوي السلمي ‎للبهائيين واعتقلوا 17 شخصاً على الأقل بينهم خمس نساء. كما داهم المسلحون منازل أخرى. 

ومنذ ذلك الحين، أُفرِج عن 11 شخصاً في أعقاب ضغوط دولية، بينما لا يزال جهاز الأمن والمخابرات الحوثي يحتجز ستة أشخاص تعسفاً، ويحرمهم من الحق في الحصول على المشورة القانونية. وكذلك نكلت وطردت جماعة الحوثي بقايا اليهود في اليمن إلى إسرائيل، بعد أن كانت قد صادرت ممتلكاتهم وهجرتهم قسراً من مدينة صعدة، ولا يزال البعض يقبع في أجهزة الأمن والمخابرات منذ العام 2015، مثل ليبي سالم موسى مرحبي، والذي اتهمته الجماعة بتهريب مخطوطة أثرية وتمت محاكمته في محكمة الأموال العامة على إثر تلك القضية، وبالطبع فإن المحكمة غير مختصة بتلك القضايا، وبرغم ذلك فقد أصدرت حكماً قضائياً نهائياً، وتوجيهات صريحةً بالإفراج عنه نهاية العام 2019، لكنه لم يُنفَّذ حتى الآن. بجانب ذلك، منعت المكارمة (الإسماعيليين) من الظهور على طريقة جدّهم الإمام يحيى حميد الدين، الذي سبق أن أجبرهم بالإكراه على اعتناق الإسلام كما يروي أشدّ المؤرخين تزلفاً للإمام "نزيه العظم" في عشرينيات القرن الماضي.

وبرغم انتهاكات جماعة الحوثي المستمرة، وتصدير مظلومية متخيلة عن نفسها، فإن الأفظع من ذلك، هو أن سلطة الحوثيين تدفع  أنصارها إلى سلوك مماثل لفكر الجماعة، وهو ما عبّر عنه الممثل الرسمي للبهائيين في اليمن في تغريدة له إذ قال: "أنا في غاية الاستغراب ونحن نرى الحوثيين في ظل عمليات السلام، يستخدمون خطاباً مناقضاً وذلك بتوجيه مباشر لمناصريهم بالكراهية والقتل للبهائيين"، ففي ظل غياب قانون يحمي هذه الأقليات وإعلام يغطي مظلوميتهم، تستمر سلطة الحوثي بخلق المزيد من المظلوميات ودفع الناس إلى جحيم الكراهية والأحقاد. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image