شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
غاب الحلو وبقي المُرّ… كيف سلبت الحرب بهجة رمضان في السودان؟

غاب الحلو وبقي المُرّ… كيف سلبت الحرب بهجة رمضان في السودان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الخميس 21 مارس 202410:43 ص

ما إن يحلّ شهري رجب وشعبان من كل عام، حتى تملأ طرقات وأحياء السودان رائحة رقائق شراب "الحلو مرّ" - أو الآبري - المميزة والقوية، التي تبدأ السودانيات في إعدادها إيذاناً بقدوم شهر الصوم. إن هذا المشروب سيّد المائدة الرمضانية.

لكن رمضان السودان هذا العام مختلف إذ غابت رائحة "الحلو مرّ" لتحل مكانها رائحة الجثث المتحللة في طرقات بعض المناطق التي تستعر فيها الحرب الدائرة منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023، وتبدّلت فرحة الغالبية العظمى من السودانيين بـ"الشهر الفضيل" حزناً، إذ في كل أسرة تقريباً شخص غيّبه الموت أو النزوح أو الهجرة أو الإخفاء القسري.
وفق الأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 14.790 شخص منذ بداية النزاع حتى منتصف آذار/ مارس الجاري. وتقدر المنظمة عدد النازحين داخلياً بنحو 9 مليون شخص، وهو ما يمثل حوالي 13% من جميع النازحين داخلياً على مستوى العالم، بينهم نحو أربعة ملايين طفل.

غياب إذاعة أمدرمان

حرم الانقطاع المتكرر لشبكات الاتصالات، والذي امتد لأسابيع في عدة ولايات، الناس من التواصل والاطمئنان على أهلهم ومعارفهم وتهنئتهم بهذه المناسبة الدينية المهمة. واختفت ملامح الاحتفاء برمضان واستقباله في معظم ولايات السودان، تماماً كما غابت أكثرية العادات والتقاليد المتصلة به. وفي بعض المناطق غاب صوت الأذان وافتقد الناس روحانيات الصلاة في المساجد على وقع أصوات الرصاص والمدافع.

"رمضان السنة دي ما حلو… نفتقد لأهلنا والجيران"... الحرب تحرم السودانيين من أبسط مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان الذي يتزامن مع أزمة جوع خانقة ونقص في المواد الغذائية وارتفاع كبير في أسعار المتوفر منها
أما في العاصمة الخرطوم، فقد استقبل المواطنون رمضان بشعور الفقد والأسى. وفي كل بقعة كان الجميع يترقّبون صوت أذان المغرب والإعلان عن موعد الإفطار عبر الإذاعة الرسمية، وجملتها الشهيرة "هنا أم درمان". 
وبسبب سيطرة قوات الدعم السريع على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي وتحويلها إلى مقرّ قيادة عسكرية، لم يسمع المواطنون صوت الإذاعة كما هو معتاد منذ عقود. حتى مع استعادة الجيش السوداني السيطرة على المبنى وطرد قوات الدعم السريع منه، ضمن عملياته العسكرية المتواصلة لاستعادة كامل السيطرة على العاصمة الخرطوم، لم تعاود الإذاعة العمل بعد.
حلّ رمضان هذا العام خالياً من الأصوات التي تبشر وتحتفي به، سواء مدفع رمضان والإذاعة والمسحراتي، فالأخير الذي تعرفه جميع البلاد العربية كان له وقع خاص في نفوس السودانيين إذ يتطوع شباب من الأحياء والحارات للقيام بعمل المسحراتي. ففي المناطق التي تصلها الحرب منعت قرارات حظر التجوال الشباب من إحياء تلك العادة.

"رمضان السنة دي ما حلو"

"رمضان السنة دي ما حلو"، بهذه العبارة تصف المواطنة أمنية محمد، التي لم تغادر منزلها في أم درمان منذ اندلاع الحرب، رمضان هذا العام. وتقول لرصيف22: "نفتقد أهلنا والجيران. فمعظم سكان الحي هجروه بسبب الحرب، والقذائف الطائشة التي تتساقط من حين لآخر على منازل المواطنين، ومن بقوا لا يشعرون بالفرح بقدوم رمضان كما في السابق، فهم يعيشون في حزن كبير، وفقدان أكبر لمن غابوا بفعل نزوح وموت وأسر".
تقول أمنية إنّ الحرب جعلت الناس تحلم فقط بما يسدّ رمقهم، وبما يُفطرون عليه، وبعد أنّ كانوا يعدون للشهر الكريم أصنافاً متنوعة، باتوا يعتمدون على المنظمات الإنسانية والمبادرات الخيرية للحصول على طعام الإفطار.
وتختم حديثها بنبرة يملؤها الحزن: "لم تشهد شوارعنا وطرقاتنا هذا العام إفطاراً جماعياً كما العام الماضي. فالشوارع خالية وغابت عنا رائحة الآبري، غاب الناس جميعاً وغابت الطقوس المعهودة".
يعاني السودان من نقص حاد في المواد الغذائية، وهو ما دفع برنامج الغذاء العالمي إلى التحذير من تعرض الملايين لخطر الجوع. بحسب البرنامج، يعاني نحو 18 مليون سوداني انعدام الأمن الغذائي الحاد، ونحو خمسة ملايين شخص - ما يصل إلى نحو 250 ألف أسرة مهددة بالجوع - على بعد خطوة من المجاعة، كما تواجه المنظمات الإغاثية والإنسانية صعوبات كبيرة في إيصال المساعدات إلى المحتاجين في عدة مناطق.
حتى في المناطق التي تتوفر فيها السلع التموينية والغذائية، ترتفع الأسعار بما يفوق قدرة الناس. بحسب صحيفة "التغيير" السودانية، هناك شكوى في عدة ولايات من نقص ملحوظ للسكر والبصل واللحوم البيضاء والحمراء والكثير من أنواع الخضروات، ما أدى لارتفاع أسعار السكر (بين 2300 و2500 جنيه سوداني للكيلو) والدقيق (نحو 38 ألف جنيه للجوال) والعدس (2500 جنيه للكيلو) والأرز (بين 800 و1000 جنيه للكيلو)، واللحوم (بين 6000 و8000 جنيه للكيلو) والزيت (العبوة الكبيرة 38 ألف جنيه). ويبلغ سعر صرف العملة المحلية نحو 586 جنيهاً سودانياً مقابل الدولار في السوق الرسمية، ونحو 1400 جنيه سوداني في السوق الموازية.

عادة تجديد الأواني

واحدة من العادات الرمضانية التي اختفت بفعل الحرب هي تجديد أواني المطبخ ومستلزمات المائدة. اعتادت المرأة السودانية تجديد بعض مستلزمات المطبخ كل عام، إذ يحرص الرجال على تناول الإفطار بشكل جماعي في الشوارع، ولهذا تتباهى النساء بتقديم الإفطار في أدوات منزلية جديدة.

تسببت الحرب في نهب وحرق الأسواق التجارية، وتكفل الغلاء بحرمان الناس من تلك العادة بما في ذلك في المناطق الآمنة. فقد تراجعت قيمة العملة الوطنية، في ظل تراجع الناتج المحلي، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة فاقت الضعفَيْن، وتوقف نحو 60% من الموظفين عن العمل، وفق تقديرات محلية.
يقول التاجر مبارك محمد الذي يملك محلاً لبيع الأواني المنزلية في ولاية النيل الأبيض، وهي إحدى الولايات الآمنة، إنّ حركة البيع والشراء شبه متوقفة، ولأول مرة في تاريخ سوق الأواني المنزلية تنقطع عنه النساء ويحصل ركود. ويضيف أنّ الشراء شبه منعدم إلا للضرورة في ما يتعلق بالأساسيات فقط، موضحاً أنّ حرائق الأسواق في العاصمة أدت إلى شحّ في السلع، فارتفعت الأسعار، بسبب الصعوبة في توفير السلع.

مأساة ولاية الجزيرة 

أما في ولاية الجزيرة التي تسيطر قوات الدعم السريع على حاضرتها مدينة "ود مدني" منذ نهاية العام الماضي، فاختفت واحدة من العادات الرمضانية التي طالما اشتهرت بها الولاية، وهي "قطع الطريق"، وهي عادة تنتشر في جميع مناطق السودان إلا أنّ الجزيرة تشتهر بها بشكل خاص. في كل رمضان، كان شباب الولاية يجذبون المارة والمسافرين على الطرق لتناول الطعام والشراب وقت الإفطار.

يوجد في الولاية واحد من أكبر المشاريع الزراعية في المنطقة، وهو مشروع الجزيرة الزراعي الذي يوفر جزءاً كبيراً من الإنتاج الزراعي للاستهلاك المحلي والتصدير، ولكن بعد سيطرة قوات الدعم على حاضرة الولاية، وانتشار عناصرها في القرى وتسجيل هجمات ضد أهلها، أصبح الكثير من أهلها جائعين مشردين.
يقول الخبير الاقتصادي هيثم محمد فتحي إنّه نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد زاد حال المواطن سوءاً في رمضان، بسبب انخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية.
يذكر فتحي لرصيف22 أنّ مجموعة عمل من خبراء اقتصاديين سودانيين، خلصت في تقدير مبدئي لم ينشر بعد، إلى أنّ نحو 65% من السودانيين في حاجة إلى مساعدات إنسانية، منهم ثمانية ملايين فقدوا وظائفهم ومصادر دخلهم، كما توقفت 70% من المستشفيات والمرافق الصحية عن العمل، وانخفض رأس المال المستخدم في التعدين بنسبة 90%، فيما ارتفع أنّ معدل الفقر إلى 65.5%، وتوقفت معظم الصادرات وانخفضت الواردات إلى 30%، كما انخفضت نسبة الإنتاج الزراعي بنحو 22%.
يعتبر فتحي أن انتقال الحرب إلى ولاية الجزيرة أثر سلباً على الغذاء في عموم البلاد، وعلى المائدة الرمضانية التي تعتمد على إنتاج القمح والذرة في الولاية في تحضير العديد من الأطباق.

شراب الحلو مر، وعادة "قطع الطريق"، و"تجديد أواني الطهي" وغيرها… تعرّفوا على أبرز الطقوس التي تميّز شهر رمضان في السودان والتي غيّبتها الحرب هذه السنة

غياب المحتفلين في دارفور

ولم تكن الحرب جديدة على إقليم دارفور غرب البلاد، الذي شهد بين عامي 2003 و2006 ذروة الحرب الأهلية التي أدت إلى مقتل وتشريد ونزوح مئات الآلاف من أبنائه. ومع ذلك، ظلت ولايات الإقليم محافظة على عاداتها وتقاليدها وإرثها الرمضاني، ومن تلك العادات تجهيز مشروب "الحلو مرّ".
لكن هذه الحرب لا تبدو كسابقاتها إذ لم يسلم منها طرف. توسعت عمليات "الدعم السريع" في الإقليم، وسيطرت على أربع من ولاياته الخمس، فحلّ رمضان ومعظم السكان يعانون النزوح والتشرد، ويحملون معهم آلام من قُتلوا في الحرب التي أخذت طابعاً عرقياً.
يقول الصحافي من دارفور، معمر إبراهيم، "إنّ رمضان هذا العام جاء ونحن نعيش أوضاعاً صعبة بسبب الحرب، فمعظم سكان الولايات نزحوا، ومن بقي فلا منازل لهم، ويعيشون في دور إيواء، يعانون فيها شحّ المواد الغذائية وسوء الأوضاع الصحية، وغياب الخدمات العامة من ماء وكهرباء واتصالات". ويضيف أنّ الإقليم كان يعتمد في السلع والغذاء على الولايات الأخرى، ومع قطع الطرق بسبب الحرب صارت أغلب الأسواق خاوية في حين اختفت العادات التي تميز الإقليم في شهر رمضان، بما في ذلك أعراس الزواج التي كان سكان الإقليم يحرصون على إقامتها قبيل حلول شهر الصوم، لكن لم تعد هناك قدرة ولا رغبة في إحيائها في ظل ما يعانيه الإقليم من مآسٍ، على حد قوله.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard