شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عراقيّات يُحرمن من الميراث… والضمانات القانونيّة والتشريعات الدينيّة بلا وزن

عراقيّات يُحرمن من الميراث… والضمانات القانونيّة والتشريعات الدينيّة بلا وزن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 15 مارس 202401:43 م

يوثّق هذا التحقيق حرمان الكثير من العراقيات من ميراثهن من الأراضي، وإجبارهن على الصمت في ظل طغيان العرف القبلي. وبينما تمتثل غالبيتهن لذلك الظلم طواعية، هنالك من يجبرن عليه خوفاً على حياتهن.

خديجة أحمد (79 عاماً) هي آخر المتبقين على قيد الحياة من عائلتها الغنية التي كانت مؤلفة من أبوين وستة أشقاء، ثلاثة منهم ذكور، إلا أنها لم تحصل على أي من الأموال المنقولة وغير المنقولة في تركة والدها التي كانت ترتكز على أراض شاسعة ومبانٍ في محافظة دهوك، قسمت بين أشقائها ولاحقاً بين أبنائهم الذكور فقط. 

والدها كان زعيماً عشائرياً امتد نفوذه على منطقة واسعة على الحدود بين العراق وتركيا، شمال دهوك. لكن العرف الذي يقضي بعدم توريث النساء الأراضي أو حتى منحهن مقابلاً مالياً، حال دون حصول خديجة وشقيقتها الكبرى المتوفاة منذ سنوات، على شيء من تركة العائلة.

بسبب العرف أيضاً، لم تقدم خديجة شكوى لدى المحكمة للحصول على حقوقها التي قالت إن أبناء أشقائها استأثروا بها. "عيب كبير في عائلتنا أن تقيم المرأة دعوى في المحكمة ضد أهلها".

وفق قانونيين متخصصين في المجال العقاري، فإن غالبية المحرومات من الميراث، يلتزمن الصمت، بسبب طغيان العرف القبلي في المجتمع العراقي. وفي حين تمتثل الغالبية طواعيةً لذلك العرف المتبع جيلاً بعد جيل، فهناك من تجبر على الامتثال وإلا تفقد حياتها.

تقول خديجة لرصيف22: "أعرف أن حصولي على حقي في ميراث أبي هو من شرع الله، وكثيراً ما دار حديث بيني وبين أبنائي بشأن ذلك. لكن أمي وجدتاي لم تحصلن على ميراثهن، لذا فأنا لست أحسن منهن".

من صور حرمان المرأة من الميراث في المجتمع العراقي "أن يتنازل الموَّرِث عن أملاكه في حياته لأبنائه الذكور أو يتم إجبار الإناث على التنازل عن حقهن بعد وفاة الموَّرِث، أو تظل شريكة في الملكية على الورق دون الحصول على أية منافع فيما يستغل الأشقاء الذكور التركة أو يتصرفون بها بيعاً أو إيجاراً"

عرف قبلي

يؤكد المحامي محمد أحمد يونس أن القلة اللاتي يخرجن عن ذلك العرف المتبع، بدفع من أزواجهن أو أبنائهن، يمكن أن يحصلن على حقوقهن عبر القضاء، بإزالة الشيوع في ما يخص العقارات. لكن هذا يؤدي غالباً إلى نزاعات عائلية وعشائرية كثيرة، وينتهي أحياناً أخرى بـ"مجرد قطيعة عائلية". 

يعدد يونس صور حرمان المرأة من الميراث في المجتمع العراقي، بينها "أن يتنازل الموَّرِث عن أملاكه في حياته لأبنائه الذكور أو يتم إجبار الإناث على التنازل عن حقهن بعد وفاة الموَّرِث، أو تظل شريكة في الملكية على الورق دون الحصول على أية منافع فيما يستغل الأشقاء الذكور التركة أو يتصرفون بها بيعاً أو إيجاراً".

وهو يُرجِع السبب في حرمان الإناث من حقوقهن ولا سيما التركات العقارية إلى "عدم رغبة العائلة أو العشيرة بدخول أشخاص غرباء ممثلين في أزواج البنات كمالكين لأراضيها أو فتح باب احتمال بيعها لغرباء".

وهو الأمر ذاته الذي يُفسر العرف العشائري والعائلي القاضي بعدم تزويج الفتيات إلى غرباء، وإرغامهن على الاقتران بأولاد العمومة في الغالب. يقول المحامي العراقي إن هذا العرف، فضلاً عن حرمان الإناث من حقوقهن الإرثية بشكلٍ عام في الريف، شاع كذلك في المدن خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي "اتسمت بهجرة واسعة من الأرياف إلى المدن بسبب تدهور الزراعة نتيجة الجفاف أو تراجع الأوضاع الأمنية والفرص الاقتصادية هناك".

ويعتبر الباحث المتخصص في الشأن الاجتماعي، د. وعد غانم، حرمان الإناث من حقوقهن بالميراث من أكبر المواضيع المسكوت عنها بل ويعد ذلك "تابو اجتماعي" لأن "المجتمع لا يحب تعرية نفسه، ولا يقر بوجود مثل هكذا قضايا. فنجد هنالك تكتماً بشأن ذلك، تماماً مثل ظاهرة التحرش بالنساء وأي شيء آخر يمس السلطة الذكورية القائمة".

يؤكد غانم لرصيف22 أن ذلك يشكِّل تناقضاً مع المثاليات المطروحة في المجتمع الذي يبدو في ظاهره متديناً "فهو يفرض قيوداً على المرأة، ويحدد لها الكثير من الواجبات ويشدد في تطبيقها اتباعاً للتشريع الديني. لكن، في ذات الوقت، يحرمها من حقوقها التي ينص عليها ذات التشريع الديني".

بدورها، ترى المحامية المتخصصة في قضايا الأحوال الشخصية، منال محمود، حجب الإرث عن الإناث من قبل البعض، منافياً لطبيعة المجتمع المتدين في غالبه، لأن الإسلام وهو دين البلاد الرسمي "حدّد بوضوح حق الإناث في التركة بل وأنصفها بمنحها النسبة الأكبر في بعض الحالات كالبنت الواحدة مع الأجداد والزوجة الأرملة مع أبنائها، وقد حرص على توزيع التركة بالسرعة الممكنة وعدم حصرها لكي لا يطغى قسماً من أفراد العائلة على حساب الآخر".

توضح محمود لرصيف22 أن القوانين العراقية التي  مصدرها الرئيسي الشريعة الإسلامية، تحدد ثلاثة أركان للإرث، وهي: الموَّرِث (المتوفى)، والوارِث وهو كل شخص حي يرتبط بالمتوفى سبباً (كالزوجة) أو نسباً كالأبناء، والموروث وهو التركة والمال والحقوق العائدة للمتوفى بما فيها العقار والمنقول والمنافع التي تؤول إلى الوارث وتسمى "ميراثاً أو ارثاً أو تركة".

والمرأة بموجب قانون الأحوال الشخصية الرقم 188 لسنة 1959، أياً كانت صفتها، بنتاً أو زوجة أو أُما أو جدة أو شقيقة أو عمّة وخالة وغيرها من القريبات، ترث حصة مختلفة عن الأخرى.

جذور موغلة للحرمان

تشرح الباحثة الاجتماعية رنا محسن لرصيف22 أن حرمان النساء من حقوقهن في الأرض جذوره موغلة في القدم، وهو لا يقتصر على العرب بل مارسته القوميات والطوائف المختلفة "فنجد ذلك لدى الكرد والتركمان وسواهم".

وتشير إلى أن حرمان المرأة من حقها في الإرث عند العرب بل وحتى الحرمان من الحياة بالوأد، كانا شائعين قبل الإسلام، أما بعد مجيئه، فحُرِّم الاثنان. وتستدرك: "لكن الكثيرين لم يغادروا العرف القديم معتبرين أن المرأة مملوكة حالها حال الإرث، ما دامت داخل العائلة، وإن تزوجت تنتقل ملكيتها إلى زوجها، وهنا تتحلل عائلتها من مسؤوليتها بعد تسليمها إلى زوجها، لذا تعد أموال التركة عائدة إلى العائلة، الذكور تحديداً، ولا يسمح بخروجها عن هذا النطاق".

تتهم رنا العائلة العراقية بنحو عام بالتمييز بين الذكور والإناث إذ تهتم بالذكور وتتكفل بمسكنهم مع أولادهم وأحفادهم وتطول إقامة الابن في دار العائلة كما يشاء، لكن "الابنة تخرج من بيت العائلة مع زواجها، وإذا تطلقت أو توفي زوجها، ترفض الكثير من العائلات تربية أطفالها باعتبارهم أبناء شخص غريب، وليسوا امتداداً لأصل رب العائلة الرئيسي، بل من الفروع".

وتقول رنا إن غالبية الآباء يتنازلون في حياتهم عن أملاكهم العقارية بيعاً وشراءً لأبنائهم الذكور، وتقتصر التركة حين وفاتهم على الأموال غير المنقولة، من أثاث منزلية أو سيارات وما شابه، مشيرةً إلى تفضيل القبائل العراقية الذكور على النساء. "العائلات بغالبيتها لديها ما تُعرف بشجرة العائلة التي تثبت نسب افرادها للعائلة ومن ثم للقبيلة، تكتب فيها أسماء الذكور فقط… المرأة بالنسبة لهم مجرد وعاء للذرِّية (الإنجاب) لا أكثر"، تُردف.

حماية لمصلحة القبيلة

يرفض شيخ عشيرة في محافظة ذي قار، طلب عدم ذكر اسمه أو اسم عشيرته، وصف ما يحدث بـ"حرمان من الميراث"، خاصة ما يرتبط بالتركات العقارية، ويفضل بدلاً من ذلك استخدام عبارة "حماية المصلحة العليا للقبيلة أو العائلة".

ويقول لرصيف22 إن القبائل بما تضمه من عائلات، مرتبطة كثيراً بالأرض، لأنها تشكل مناطق تواجدها التاريخية لذا هناك حرص على بقاء الأرض ضمن ملكية القبيلة والعائلة و"بما أن المرأة تكون في كنف زوجها الذي قد يكون من قبيلة أخرى، من الأفضل ألّا يكون أسمها من ضمن ملاك الأرض. هناك إجماع قبلي على ذلك".

يتساءل شيخ العشيرة: "من يضمن عدم إجبار المرأة من قبل زوجها أو أبنائها على بيع حصتها لغريب؟ فتحدث عندها مشاكل وصراعات بين القبائل، وقد حدث ذلك كثيراً في العراق".

رغم ذلك لا يمانع أن تكون للمرأة حقوق في الإرث بنحو عام، يقول: "يمكن ترضيتها بمنحها قيمة حصتها في الأرض أو العقار، ولا بأس أن تحصل على غير ذلك من حقها في الميراث، كالحلي والأثاث والمركبات ومحصول الأرض أو البستان أو بدل إيجار العقار".

كما يرى شيخ العشيرة أن إبقاء ملكية الأراضي ضمن العائلة وتحديداً الذكور، وإن كان "عرفاً بقوة القانون" ومعمول به بين العشائر منذ قرون، ففي السنوات الأخيرة تغير الوضع قليلاً "بظهور الجهات المدافعة عن حقوق المرأة، والانفتاح الاجتماعي على الغرب، والقوانين التي شجعت على تمكين المرأة ولا سيّما في المجال الاقتصادي، ودخولها مجالات العمل المختلفة، والحروب التي خاضها العراق وما تركته من أعداد كبيرة من الأرامل اللواتي تحملن مسؤولية أسرهن".

عرف يتقاطع مع الدين

من جهته، يشدد الشيخ عبد الجبار عبد الرحمن، من بغداد، على أن الشريعة الإسلامية تكفل للمرأة حقها في الميراث عقاراً أو غير ذلك، فإذا مات أبوها أو أمها وكان لأحدهما عقار، فللبنت حصتها فيه ومن يأخذها إجباراً "يعد غاصباً، وآكلاً لأموال الغير بالحرام".

يقف عبد الرحمن عند مفردة "الإجبار" موضحاً "لا توجد مشكلة قطعاً في حال تنازلت برضاها التام، أي بدون إكراه، عن حقها في الإرث. لكن ذلك يستوجب شروطاً كأن تكون في كنف عائلتها وكل حاجياتها ملباة، وليست متزوجة أو تعاني الفقر المدقع، لأن تنازلها عن حقها هنا يصيبها وأسرتها بالضرر. فالقاعدة الشرعية: لا ضرر ولا ضرار".

يعتبر الباحث المتخصص في الشأن الاجتماعي، د. وعد غانم، حرمان الإناث من حقوقهن بالميراث من أكبر المواضيع المسكوت عنها بل ويعد ذلك "تابو اجتماعي" لأن "المجتمع لا يحب تعرية نفسه، ولا يقر بوجود مثل هكذا قضايا. فنجد هنالك تكتماً بشأن ذلك، تماماً مثل ظاهرة التحرش بالنساء وأي شيء آخر يمس السلطة الذكورية القائمة"

يستدرك الشيخ، في حديثه لرصيف22، بأن مسألة التنازل بالتراضي عن الحق في الميراث العقاري تحديداً "هي حيلة تمارسها الكثير من العائلات والعشائر، لكي تظهر نفسها على أنها غير مخالفة للشرع أو القانون الوضعي المستمد أصلاً من الدين وعلى نحو كامل في ما يخص المواريث. لكن في الحقيقة معظم حالات التنازل تتم بالإكراه والإجبار المباشر أو غير المباشر".

هذا ما حصل مع "خ. ب." وشقيقاتها الأربع إذ حُرمن جميعاً من ميراث يتمثل في بساتين وأراضٍ زراعية تزيد عن عشرة دونمات في شمال شرقي دهوك، بعد أن طلب والدهم وهو رجل دين، منهن التنازل عن حقوقهن في تلك الأراضي، والقبول بالعرف السائد في قرى المنطقة حيث "لا حقوق للنساء" إلا ما يتعلق بعقارات مشيدة داخل المدن.

السيدة الأربعينية، وهي ربة منزل وأم لخمسة أطفال، تعاني هي وشقيقاتها أوضاعاً اقتصادية صعبة، لم تجد في ما فعله والدها مشكلة، وإن كانت فيه مخالفة للدين، وترى أن الأمر محسوم لدى كل عشائر مناطق دهوك، بأن البنات لا يرثن الأراضي، وأي حديث عن ذلك قد يفتح باب صراعات لا تنتهي فقط بقطيعة مع العائلة بل وعداوات طويلة بعضها يصل إلى الاقتتال بالأسلحة.

تحصل "خ. ب." من أشقائها، في فصلي الصيف والخريف، على بعض المواد الغذائية وما تهبه بساتينهم من ثمار "لا شيء أكثر"، تقول مبتسمةً.

القانون يحمي ولكن

في الأثناء، ينفي القاضي سالم روضان الموسوي، إمكانية التحايل على القانون وسلب حقوق النساء في الإرث لكونها محفوظة بموجب قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي قال إنه ينظم الإرث والمستحقين له، على حد قوله. وهو يذكر بأن المادة (89) من القانون المذكور تشير وبالنص إلى حق الإناث، وأن المادة (91) من نفس القانون، أضافت لبعض المستحقين حقوقاً إضافية، ومنها الزوجة عند وفاة زوجها وكذلك البنت الواحدة أي التي ليس لديها أشقاء. يعتبر القاضي ذلك تطوراً في إنصاف المرأة في الميراث لأنه "أخذ من الفقه الإسلامي الأفضل لهن ومن جميع المذاهب الإسلامية دون الوقوف عند مذهب معين".

يتمسّك القاضي العراقي، في حديثه لرصيف22، بأن القانون "بيّن الطريقة لاستحصال الحق في الميراث عبر طلب إصدار قسام شرعي للمتوفى توزع بموجبه التركة على مستحقيها من الورثة، ويقدم الطلب من هو وريث. فإذا كان الوريثة امرأة - سواء كانت البنت أو الزوجة أو الأم أو أي امرأة أخرى من الورثة - فإن لها الحق بتقديم الطلب إلى محكمة الأحوال الشخصية بالنسبة للمسلمين ومحكمة المواد الشخصية بالنسبة لغير المسلمين". 

بهذا، لا يرى القاضي سالم أن هناك أية مشاكل من حيث استحقاق المرأة للإرث في القانون العراقي الذي لا يمكن تغييره أو التلاعب به من قبل المواطنين، على حد قوله. وهو يستدرك: "المشاكل تظهر عند إصدار القسامات الشرعية إذ يقوم بعض الورثة عند طلب إصدار القسام الشرعي بجلب صورة قيد الأحوال المدنية للمتوفى (الموَّرِث) ويتم رفع اسم البنت أو الزوجة أو الأخت، وبذلك يصدر القسام دون أن يذكر ذلك الاسم".

بحسب القاضي، يمكن معالجة ذلك من خلال قيام المحجوب اسمها، بإقامة دعوى "تصحيح القسام" ليعاد إليها نصابها من الاستحقاق، مردفاً "في الوقت الحاضر، باتت هذه المشكلة تحصل في نطاق ضيق لأن المحاكم اعتمدت على جلب صورة قيد الأحوال المدنية بواسطة موظفيها مما قلل من إمكانية التلاعب بأسماء ورثة المتوفى".

ويؤكد القاضي سالم أن محاكم الأحوال الشخصية تعج بدعاوى تتعلق بالحالات التي ذكرها، وأنها لا تقتصر على حجب الإناث من التركة، بل حجب الذكور ايضاً، لذلك سعى مجلس القضاء الأعلى - أعلى هيئة قضائية في البلاد - إلى تطويقها عبر استخدام الوسائل الإلكترونية في التواصل مع دوائر الأحوال المدنية، لتزويد المحاكم بصور القيود التي هي الأساس الوحيد لمعرفة أسماء ورثة المتوفى. 

يتابع: "من خلال عملي في قضاء الأحوال الشخصية لسنوات عديدة مرت عليّ الكثير من تلك الدعاوى وبعد التحقق من صحة ادعاء البنت المحجوبة تم تصحيح القسام الشرعي وإعادة حقوقها لها، ولا توجد محكمة في العراق لم تعرض عليها مثل هذه الدعاوى لأن أغلب القسامات الصادرة في الفترة الماضية كانت تعتمد على تأييد مختار المحلة (المنطقة) وشهادة الشهود وهذه قابلة للتحريف وحجب الورثة.

وبإمكان الوريث المحجوب، التوجه إلى القضاء لإقامة دعوى تصحيح القسام الشرعي، والإجراءات باتت يسيرة".

توعية النساء ضرورية

في سياق متصل، يرى قضاة ومدافعون عن حقوق المرأة أن هناك حاجة ماسة إلى برامج توعية قانونية للنساء في العراق لتعريفهن بحقوقهن المقررة بموجب القوانين النافذة، وتوظيف وسائل الإعلام بما فيها منصات التواصل الاجتماعي من أجل توضيح تلك الحقوق وكيفية الوصول إليها.

اطلع معدا التحقيق على قرار أصدرته محكمة الأحوال الشخصية في الكاظمية في 2023، بخصوص الاعتراض على تصحيح القسام، وبموجب عريضة الدعوى فإن المعترض قد ورث عن خاله داراً سكنية بمشاركة المعترض عليها (المتوفى هو عمها شقيق والدها) وأن والدة المعترض ووالد المعترض عليها قد توفيا قبل مورث طرفي الدعوى الاعتراضية.

ويتضح من حيثيات القرار أن القانون العراقي، يستعين بخبير في المواريث وفقاً للشريعة الإسلامية، لإبداء خبرته في تقسيم التركة، وأن لا مجال قطعاً للتلاعب بحق المرأة، إلا بما يخالف النص القانوني أو النص الديني المستمد منه، ولا خلاف في ذلك بين الطائفتين الإسلاميتين الشيعية والسنية، كما يشير متخصصون في الفقه الإسلامي، لكون "حدود التركة مبينة بنص القرآن".

لا يمكن الوصول إلى أرقام تقريبية، بشأن المحرومات من الإرث أو حتى الدعاوى المرفوعة في هذا المجال، يقول المحامي دلوفان حسن، مردفاً "لكن يمكنني القول إن هناك عشرات آلاف من حالات الحرمان من الإرث". يقول لرصيف22: "في العقود الأولى من القرن المنصرم، يندر أن تجد عائلة عراقية لم تحصل فيها حالات حرمان إناث من حقوقهن. تسمع قصصاً مؤلمة من جدات وعمات عشن حياة بائسة بينما كان أخواتهن ينعمون بأموالهن".

وينبه المحامي، المهتم بقضايا تمكين النساء، إلى أن "إرث الحرمان من الميراث انعكس سلباً على الإمكانات الاقتصادية للنساء وعلى فرص تمكينهن، وعزز فعلياً السلطة الذكورية. فبات الرجال يملكون الأراضي والعقارات والمباني فيما بقيت النساء على الهامش".

ذكورية المجتمع

طه محمود (33 عاماً)، كاسب من بغداد، يقول إن مشكلة حدثت بين والدته وأشقائها حول تركة والدهم، متباهياً "لولا إصرار أبي لما حصلت أمي بعد صراع مرير وإجراءات قضائية طويلة على إرثها، ولحرمت منه مثلما حرمت أخواتها". كان جد محمود لأمه قد توفي عام 2004، تاركاً سبعة أبناء، ثلاثة ذكور، وأربع بنات إحداهن والدته. وكانت تركته تشمل دارين سكنيتين في منطقتي الرحمانية والبياع، وشقة سكنية في شارع حيفا وقطعة أرض بمنطقة علي الصالح.

توفي الأب آنذاك، ولحقت به الأم (جدة محمود لأمه)، وسكن الورثة الذكور وعائلاتهم في الدارين والشقة، وحولوا قطعة الأرض إلى مرآب للسيارات، مستفيدين من إيراده دون أن يمنحوا شقيقاتهم شيئاً. 

وحين لم تنفع المطالبات الودية، لجأت والدة محمود إلى زوجها، وطلبت منه مساعدتها للحصول على حقها، وطلبت من شقيقاتها أن يحزو حزوها. تنكّر الأشقاء لمطالبات شقيقاتهم وهددوهن بالتبرؤ منهن. يقول محمود: "التبرؤ لم يكن مجرد تهديد. صحيح أننا نسكن العاصمة، لكن نحن من خلفية عشائرية، وهذا يعني حرمان شقيقاتي وبنات خالاتي غير المتزوجات من الزواج أو تقليل فرصهن في ذلك بدرجة كبيرة، لأن من سيسأل عنهن لغرض الخطبة ويسمع بأمر التبرؤ سيمتنع عن مواصلة الخطبة والزواج لأسباب اجتماعية".

يستدرك: "لكن هذا لم يمنع والدته من إقامة دعوى أمام محكمة البداءة في بغداد لإزالة الشيوع عن العقارات في حين أن شقيقاتها - وإحداهن أرملة والأخرى زوجها من ذوي الاحتياجات الخاصة - فضّلن عدم الدخول في مشاكل ولم يبادرن بإقامة دعوى". يسترجع محمود جلسة عائلية جمعت أخواله بشقيقاتهم، في غياب والدته، ويقول إنهم طلبوا منهن التنازل عن حصصهن، وحين رفضت إحداهن، انهالوا عليها بالضرب المبرح، وهكذا أجبرن على تنظيم وكالة عامة مطلقة لواحد منهم، مثبت فيه حق التوقيع والتنازل. وفي تموز/ يوليو 2023، عندما صدر قرار إزالة الشيوع، كانت والدة محمود الوحيدة التي حصلت على حصتها من عقارات والدها المتوفى. 

وتؤكد الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، سارة جاسم، أن حكاية والدة محمود تشبه إلى حد بعيد حكايات آلاف النساء العراقيات اللاتي "حُرمن ويحرمن من إرثهن سواءً بالإجبار تحت التهديد أو ممارسة العنف ضدهن أو بالتزوير"، مشددةً "الكثيرات قتلن وتم تسجيل ذلك على أنها قضايا شرف، للتغطية على سرقة ميراثهن". كما تقول إن القبائل العراقية يمكن أن تضحي بأحد أبنائها وتدفعه إلى قتل من تطالب بتركتها من الإناث أمام القضاء. "أعرف قصصاً عديدة بهذا الشأن، وهي مألوفة ومعروفة بين الناس، وتجعل النساء يتنازلن عن إرثهن خوفاً على حياتهن"، تردف.

وتلفت جاسم إلى أن الغالبية العظمى من العائلات تسيطر عليها فكرة أن المرأة ليس لها حق في تركة والديها "بحجة أنها متزوجة والتركة ستذهب عندها لمصلحة رجل غريب". ترى الناشطة أن المجتمع العراقي "ذكوري ومتسلط على النساء، وينظر باحتقار للمرأة التي تقيم دعوى إزالة شيوع للحصول على حقها، ولاسيما المتزوجة، ويتم التبرؤ أو الإنتقام منها"، منبهةً إلى عامل آخر غير العنف والتهديد، يقف وراء عدم مطالبة الكثيرات بحقوقهن هو "الأمية أو الجهل بحقوقهن، فيسهل خداعهن بجعلهن يتنازلن عن حقوقهن أمام كاتب العدل".

وتحمل ناشطات في مجال حقوق المرأة، الجهات القضائية والحكومية مسؤولية ما تصفها بالانتهاكات ضد المرأة بالنظر إلى "قانون العنف الأسري" المعطل في البرلمان منذ سنوات.

لا خيار سوى الطاعة

حصل معدا التحقيق على نسخة من قرار كانت قد أصدرته محكمة الأحوال الشخصية في الرصافة ببغداد قبل أشهر في دعوى كانت المحكمة ذاتها قد أصدرت قساماً شرعياً متعلقاً بوفاة والدة المدعيتين دون أن يرد فيه اسميهما بوصفهما من ورثتها. طالبت المدعيتان بتصحيح القسام من أجل إقامة دعوى إزالة شيوع والحصول على حقيهما لاحقاً في دعوى أخرى. خلص قرار المحكمة إلى أن القسام كان بالفعل مذكوراً فيه فقط أسماء الأبناء الذكور فضلاً عن زوج المتوفاة، واستناداً إلى سوابق قضائية وإلى الفقه الإسلامي، وجدت المحكمة أن للمدعيتين الحق في المطالبة بحقيهما في تركة المتوفاة.

 تظهر تلك القرارات أن القضاء ينصف المرأة عند مطالبتها بحقوقها المكفولة بنص قانوني، وأيضاً بالتشريع الديني الذي يلجأ إليه القضاء عادة في مسائل الإرث. لكن ومن خلال البحث ولأسابيع في ملفات عدد من محاكم البلاد، وجدنا حالات محدودة للجوء نساء إلى القضاء، على الأرجح بسبب الخوف من تبعات ذلك، وهذا ما يظهر جلياً في العديد من قصص المحرومات من التركة. 

وخلال إعداد التحقيق، اطّلعنا على العديد من مقاطع الفيديو المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي لسيدات يائسات يروين تفاصيل حرمانهن من الإرث، ويشتكين من عدم إرجاع القانون لحقوقهن. 

لا تفكر نهلة وشقيقاتها في إقامة دعوى قضائية، وهناك سر عائلي يمنعهن من ذلك. "هم (أشقاؤها الذكور) يذكروننا دوماً بحكاية عمة لنا، كان أخي الأكبر قد قتلها عندما كان قاصراً ببندقية صيد في بداية تسعينيات القرن الماضي. قتلت بينما كانت تصلي، وبتحريض من والدي، لأنها كانت قد طلبت منه حقها في تركتها من أجل علاج ولدها المريض"، تروي بحسرة

نهلة (اسم مستعار)، سيدة في الخمسين من عمرها، تسكن محافظة كربلاء (جنوب العاصمة بغداد)، مطلقة ولها بنت وولد كلاهما في العشرين من العمر، ولها إرث عن والدها المتوفي عام 2000، عبارة عن أرض زراعية شرق المحافظة. لكنها وشقيقاتها الثلاث لم يحصلن على حقوقهن في الأرض حيث وضع أشقاؤهن الذكور الخمسة أيديهم على الأرض ويستغلونها لمصلحتهم دون منحهن أي شيء.

تقول نهلة: "هناك أيضاً أبقار وخراف وأشجار نخيل، ومخازن مملوءة بالتمور، وحين نذهب أنا وشقيقاتي لزيارة أشقائي في أرضنا أيام عاشوراء، نجدهم يستقبلون عشرات الزوار ونحن مثلهم تماماً مجرد ضيوف بلا حقوق".

تضيف لرصيف22: "لم أحصل من ورث أبي ولا حتى على فلس واحد، وأنا وشقيقاتي نكتفي بالدعاء على إخوتنا، ولن نفعل شيئاً أكثر من ذلك".

لا تفكر نهلة وشقيقاتها في إقامة دعوى قضائية، وهناك سر عائلي يمنعهن من ذلك. "هم يذكروننا دوماً بحكاية عمة لنا، كان أخي الأكبر قد قتلها عندما كان قاصراً ببندقية صيد في بداية تسعينيات القرن الماضي. قتلت بينما كانت تصلي، وبتحريض من والدي، لأنها كانت قد طلبت منه حقها في تركتها من أجل علاج ولدها المريض"، تروي بحسرة.

تضيف نهلة: "أخوتنا يهددوننا بطريقة غير مباشرة بتكرار سرد تفاصيل هذه القصة… بوسعهم قتلنا فعلاً والخروج من ذلك مثل الشعر من العجين، بحجة قضية شرف ينفذها أحد أبنائهم القاصرين". تفكر قليلاً، قبل أن تختم: "حتى الدعاء لا يجدي معهم، فنحن ندعو الله منذ سنين أن يأخذ حقنا منهم، لكن لا يحدث شيء أبداً".

رشا (اسم مستعار أيضاً) لسيدة من الديوانية، في الخامسة والأربعين من عمرها، لديها أربعة أشقاء وثلاث شقيقات، توفيت والدتهم مطلع عام 2020، وكانت تملك بستاناً ودارين سكنيين. اجتمع والدهم بهم وأخبرهم بقراره: أن تقوم الشقيقات بالتنازل عن حصصهن في إرث والدتهن لأشقائهن، وأنه هو كذلك سيفعل بحصته فضلاً عما يملكه من عقارات في حياته، لكي لا تحدث مشكلة بين الأخوة بعد وفاته. 

تقول رشا لرصيف22: "لقد فعلنا ذلك، تنازلنا طبعاً لأننا لا نستطيع الرفض. شقيقاتي متزوجات وأوضاعهن المعيشية غير جيدة وكن بحاجة إلى إرثهن من أمي لكي يعشن مع أطفالهن حياة كريمة، أما أنا فغير متزوجة، وسأظل أخدم والدي وأبناء أشقائي إلى يوم وفاتي".

تذكر رشا أنها تحدثت إلى والدها، ذات مساء وهما يشربان الشاي، وطلبت منه في بداية الأمر ألّا يغضب مما ستقول لأنه مجرد شيء يدور في ذهنها منذ فترة. وبعد أن وعدها بأنه سيصغي إليها، سألته بتردد: "هل قرار حرماننا من إرث أمي عادل؟ أنت تعرف ظروف شقيقاتي الصعبة، الكبيرة ابنها معوّق، والوسطى تعيش في غرفة واحدة مع زوجها وأطفالها الخمسة في بيت عائلة زوجها، والصغرى زوجها عاطل عن العمل وتعيش على الصدقات مع أطفالها، وأنا غير متزوجة، ماذا سيحل بي بعد وفاتك، لك طول العمر".

فأجابها والدها بهدوء: "لست مسؤولاً عن شقيقاتك المتزوجات، على أزواجهن تدبر أمورهم، أما أنتِ، فسيتولى زوجك مسؤولية رعايتك بعد موتي أو يهتم بك أحد أخوتك، فأنا ربيت رجالاً".

أنجز التحقيق بدعم شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية وإشرافها. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image