شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الطريق إلى نوبل يبدأ من الشيشة... حتى اسألوا نجيب محفوظ

الطريق إلى نوبل يبدأ من الشيشة... حتى اسألوا نجيب محفوظ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 15 مارس 202411:00 ص

انقطع وحي الكتابة عن نجيب محفوظ، بعد رواية "السكرية" 1957، الجزء الأخير من ثلاثيته الشهيرة، لمدة خمس سنوات، حتى أنه اتجه لكتابة السيناريو، واشترك في كتابة فيلم "جعلوني مجرماً" مع عاطف سالم والسيد بدير، وفريد شوقي الذي منحه 75 جنيهاً نظير عمله بالفيلم على 3 دفعات.

لم يكن يتخيل أكثر المتشائمين حينها أن محفوظ الذي يتدفّق أدبه مثل مجرى النهر يتوقف عن الكتابة، وحسب حوار أجراه الأديب جمال الغيطاني مع محفوظ، في كتاب "أيام نجيب محفوظ"، أن أسباب توقفه حتى عام 1959 بعد أن نشر "أولاد حارتنا"، تعود لمروره بأزمة مالية بعد زواجه، وأن الأدب كان "ما بيأكلش عيش"، وكان مسؤولاً عن زوجته والدته وأخوته وشقيقته التي توفي زوجها.

كنت قبل وقت قريب أظن، وليس كل الظن إثم، أن الكاتب لا يتوقف عن الكتابة مهما تعدّدت الأسباب، حتى أصابني ما أصاب "زميلي" أديب نوبل (بصفتي كاتب زيه)، وفقدت الشغف والقدرة على الكتابة، تلك المهنة التي لا أعرف غيرها ولا غيرها يعرفني.

حاولت أن أستعيد ذلك الشغف المفقود بكل السبل بحثاً عن الكتابة التي هجرتني، حاولت الكتابة في القطار أثناء السفر وفشلت. جلست على النيل، بين ثنايا شجر الموز الذي يحتضن الشط. كان المنظر في مقدرته أن يجعل من أي شخص لا يجيد الكتابة كاتباً له روايات، حتى ولو كانت "كنزي مدبولي"، ولكنه لم يحرك يدي التي أصابها عجز الكتابة وعقلي الذي لا يفكر سوى في الأكل.

كنت قبل وقت قريب أظن، وليس كل الظن إثم، أن الكاتب لا يتوقف عن الكتابة مهما تعدّدت الأسباب، حتى أصابني ما أصاب "زميلي" أديب نوبل، وفقدت الشغف والقدرة على الكتابة، تلك المهنة التي لا أعرف غيرها ولا غيرها يعرفني

حكيت تلك المعاناة لصديق قديم من أصدقاء السوء، وبعد صمت رهيب، قال بلهجته الصعيدية: "مفيش حاجة ترجع للواحد شغفه غير أنه يشرب حجر شيشة متغمّس بسنة حشيش". رفضت بشدة اقتراح صديقي الحشاش، مع أني "أحب الحشاشين ولست منهم". ذهب صديقي لبيته مسرعاً بعد اتصال من زوجته التي يخاف منها أكثر من خوفه من ارتفاع سعر الحشيش، وتركني مع شيطاني الذي بدأ "الشيفت" المسائي وهو يوسوس لي بأن أتبع كلام صديقي، حتى أكون مثله "حشاش قد الدنيا"، ولكن وسوسته ذهبت أدراج الرياح، وربما أظهرته محرجاً أمام أبنائه الأباليس.

حاولت الكتابة في مكان مغلق بعد أن فشلت في الأماكن المفتوحة والهواء الطلق. أغلقت على نفسي باب غرفتي لعلّي أجد شغف الكتابة "مركوناً" في إحدى زواياها. جلست على سريري في انتظار الوحي الذي تأخر وأنا أتأمل السقف وصديقي العنكبوت. فتحت فيسبوك وبدأت في تحريك الشاشة لأعلى. ما زال صديق لي لا يكتب على صفحته سوى النعي لأقاربه، ويطلب الدعاء لـ"عمته" التي ماتت اليوم.

كانت "البوستات" كئيبة ومملة. لم يكسر مللها سوى صورة "هايدي" وشعرها الذي يكلفها تصفيفه "مرتب موظف في حي الدقي". توقفت أمام صورتين بجوار بعضهما نشرهما أحد أصدقائي الفيسبوكيين: صورة للأديب نجيب محفوظ والأخرى للعالم أحمد زويل، والعامل المشترك بينهما أن صاحبي نوبل يدخنان النرجيلة "الشيشة". استمريت في التصفح حتى قابلني فيديو لحوار مع الكاتب الصحفي والإعلامي محمد الباز، أجراه معه الكاتب الصحفي سامي عبد الراضي.

كان الباز يحكي أنه يحب تدخين الشيشة، وقال بالنص: "أبويا بيشرب شيشة وخالي بيشرب شيشة، يعني أنا هطلع بلال بن رباح؟"، وقال إن معظم كتاباته كانت من على المقهى وهو يدخن الشيشة.

كان الباز يحكي أنه يحب تدخين الشيشة، وقال بالنص: "أبويا بيشرب شيشة وخالي بيشرب شيشة، يعني أنا هطلع بلال بن رباح؟"

صورة "محفوظ وزويل" وهما يمسكان بـ"اللي" وبعدها تغزل الباز في الشيشة كانت بمثابة "دي إشارة يا مارد". ربما الشيشة ودخانها يعيدان لي شغف الكتابة التي بدونها سوف "أشحت أمام مول العرب" في منطقة الشيخ زايد (بيدفعوا كتير أوي هناك للشحاتين).

غلبني النوم، وفي الصباح لم تفارقني صورة نجيب محفوظ وهو يدخّن الشيشة على مقهى "الندوة الثقافية" في ميدان باب اللوق، وكان صاحبه محمد حسنين يمتلك مقهى بناه سنة 1920 بشارع منصور، بالقرب من مكان الغرفة التجارية، ثم هدم المقهى في 1959، وانتقل أبناؤه علي ورشاد وجلال إلى مقهى "الندوة الثقافية" الذي كان مقصداً لكبار الكتاب والفنانين من هواة تدخين "الشيشة"، بينما صورة أحمد زويل التي لا أحد يعرف إن كان هو صاحب الصورة أم شبيه له أو طالها شبح "الفوتوشوب"، تتراقص هي الأخرى أمامي، وكأن "الشيشة هي الطريق إلى نوبل".

قادتني قدماي إلى مقهى شعبي في "درب سعادة"، خلف مديرية أمن القاهرة، وطلبت "شيشة وشاي"، ودعوت الله أن يكون الأمل الأخير في الشيشة، وتعود لي الكتابة قبل أن أنساها، وأعتقد أن "باب السماء" كان مفتوحاً، وبدأت تتدفق الكتابة على عقلي مع كل "نفس"، وكانت يداي، واحدة تكتب وأخرى تمسك "اللي"، وقبل أن أنتهي من شرب الحجر الأخير كنت قد انتهيت من كتابة هذا المقال، ولم أفق إلا على صوت القهوجي وهو يقول: "نغير الحجر ولا كفاية كده؟".  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard