شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
العائد متعبٌ أبداً حتّى ولو عاد إلى جميل

العائد متعبٌ أبداً حتّى ولو عاد إلى جميل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 16 فبراير 202412:32 م

العودة متعبة.

لا أدري إن كان الأمر متعلّقاً لديّ ذهنيّاً بالمعنى الحرفيّ للكلمة؛ أيّ الرجوع إلى شيء ما بعد الانتقال من حال إلى حال، أو مكان أو زمان إلى آخر، إلّا أنها موحية بذلك بشكل ما، والإيحاء بالشيء أسلوبٌ نفسيٌّ حادّ، سلبيّ، بقدْرِ ما يمكن أن يكون إيجابيّاً أيضاً.

معظم من ألتقيهم مؤخّراً (ولتفادي المبالغة فلْأقل الكثيرون منهم) أراهم عائدين إلى شيء ما، سائرين القهقرى، لكن، إلى الأمام، الأمر تقريباً شبيهٌ بمصطلح السباحة عكس التيّار.

كل ما يلزم أحدهم للتقدّم (وأنا منهم) يكون مضاعفاً، مثنى وثلاث ورباع: الجهد، التعب، الوقت، الألم، بل وحتّى الأمل.

السبب في كلّ هذا؟

حقيقةً لا أدري فعليّاً، لكنّي أعتقد أن تغيّرات الحياة، حياتنا، نحن المشتّتين هنا وهناك، باتت ثقيلة على الكثيرين، حتى لكأنّ أحدنا بات يصارع ذاته لتحقيقِ توازن ما في دوّامة الأحداث المحيطة بنا.

وقتٌ زئْبقيّ يعيشه كثيرون منّا، ليس له لجام ولا مرْبط هدف. بات أملنا، بناءً عليه، أن نرسو على برّ قديم ربّما، قد يكون هو أيضاً تآكل بفعل الصدأ، لكن على الأقلّ قد يكون مألوفاً

ليس الأمر متعلّقاً بأحداث خارجيّة فقط بالطّبع، بل نفوسنا وأفئدتنا التي باتت أشبه أيضاً بساحات مكتظّة بأحداث كانت ومضت، وأخرى تتعلّق بما نحن عليه، وغيرها بما قد يكون، دون أن ندرك ذلك كلّه بطبيعيّة.

وهذا بحدّ ذاته قد يخلق تفسيراً آخر حول السبب الذي باتت عليه العودة ملاذاً آمناً للمضيّ قدماً في الحياة، إذ أن الرجوع للحياة التي سلِبت منّا والاحتماء بها قد يوفّر لنا على أقلّ تقدير تفسيراً منطقيّاً ومفهوماً للتسلسليّة التي من المفترض بها أن تحكم سنوات عمرنا الهجين هذا.. عمرنا الفاقد لهويّة محدّدة.. نعم إنّه هجينٌ بين موت وفير وفتات حياة بين الحين والآخر..

وقتٌ زئْبقيّ يعيشه كثيرون منّا، ليس له لجام ولا مرْبط هدف. بات أملنا، بناءً عليه، أن نرسو على برّ قديم ربّما، قد يكون هو أيضاً تآكل بفعل الصدأ، لكن على الأقلّ قد يكون مألوفاً.

المألوف... يا لها من كلمة توحي براحة خفيّة! الإيحاء مرةً أخرى إذن.

أمرٌ مألوف، أي أنّ فرصته في نيْل الثقة أكبر، حتّى وإن كان ما نألفه أمراً سيئاً مثلاً، فإنّ فرصته بالقبول أعلى من أمر غريب، أليس كذلك؟

لكنّ ماذا عسانا نفعل حيال مألوف لم نعد قادرين على فكّ ملامحه أو علاقتنا به؟

إنّه ألمٌ مزدوج.

محاولتي هذه في الكتابة هي أيضاً محاولة عودة إلى ماض مسلوب، ماض مألوف مسلوب.

كنت أكتب منذ سنوات مضت، وكانت الكتابة (ليس لوسيلة إعلاميّة أو جهة معيّنة)، إنّما فقط لذاتي، فبها (الكتابة) كنت أصقّل ذاتي، وكانت صديقة وفيّة، وكنت آلف طريقي إليها بسلاسة وراحة، كما لو كان طريق بيتي، فما لي الآن أستوحشه وأحاول جاهدة الاسترشاد إليه، وكأنّي لم أمرّ به يوماً!

هذا إذن أثر العودة إلى مألوف خسرناه، هذا هو تعب العودة.

العائد متعبٌ أبداً حتّى ولو عاد إلى جميل.

الأمر بهذا المعنى ليس عجزاً ولا استسلاماً بقدر ما هو تحديقٌ في عينيّ واقع جديد (جديد على الأقل على من عاش ماضيه متعباً ليهنأ بمستقبله، وها المستقبل ذاته بات حاضراً متعِباً بالشوق إلى ماضيه).

واقعٌ جديد متسارع الأحداث، والذبول فيه يطال كلّ شيء: الآمال والنفوس والمشاعر، والإحساس بالزمان فيه كذلك مرهِق، لسرعة انفلاته من اليدين!

من الصعب جدّاً أن تجد طريقة تشكر بها الحياة حين تسلب منك شيئاً أحببته واعتدت عليه، حتّى لو كان تالي هذا السلّب هو تعويضٌ بخير.

الأمر يبدو حينذاك أن تكون غير شاكر ضمنيّاً لهذا العطاء، بل متنكّر له. لأنّ كلّ ما استطعت تقديمه من امتنان ورضا وقناعة استهلكته في مكان أو زمان آخر، خاطئ ربّما، لكنّه مألوف. وبتّ الآن مطالباً بتقدير المكان والزمان الصحيحين، وأنت لا تملك منه التقدير ما يتناسب مع الحال الجديد.

شخصيّاً، وبعد قدومي إلى هذه البلاد بعد مغادرتي دمشق، عايشت هذا الضياع بنسبة ما.

مدن هذه البلاد كريمة جداً، ومثلها حكوماتها، وشعبها، وأرضها، وزرعها، وقوانينها، بل حتّى الإحساس فيها كريم وأليم.

أتنفّس فيها بكلّ هدوء وسكينة، لكنّني أفشل حتّى الآن أن أتقاسم فيها خبزاً وملحاً مع ذات جديدة، يفترض بها أن تعيش الكثير الكثير من الانسجام والتأقلم والانطلاق من البدايات.

أسفنا كبير جدّاً أنّ بلادنا لم تعتدْنا كما اعتدناها، لم تلمس بروحها حاجتنا إليها، لم تنصفنا في خسارتنا حين بدأت بوادر الهزيمة بالوضوح جليّةً على جبين حقولنا وأنهارنا وجبالنا وبحارنا ونفوسنا وكياننا

لست جاحدة بالطّبع، لكنّها شؤون النّفْس، ومكنوناتها بالغة التعقيد دون شكّ، إذ إنّ وصف ما في النفوس بشكل دقيق أو كما يجب أمر صعب، وإن كان بشكل ما ممكناً، لكنّه لا يرتقي إلى أن يكون منصفاً، غالباً.

كيف أكون جاحدة بتعويض هذه البلاد لي، وهي من وهبت قلبي الإحساس بالامتنان الحقيقيّ، بعد ولادتي طفلتي فيها؟

لكنّ يقيني صاف بأنّ ابنتيّ، وهما تكتشفان الحياة في هذه البلاد، بلادهما، ستدركان بشكل أو بآخر ما أعيشه الآن وكثيرون غيري، وتعذراني، بعد أن تجمعا كمّاً من الحبّ والتعلّق والعطاء والاعتياد، كمّاً يكفي ما يضيء في عينيهما بريقاً افتقدته عيناي منذ حين، كما أنّهما ستتلمّسان بيقينهما بريق روحي الذي عاد للتوهّج فور ولادتي لهما من دون شكّ.

أسفنا كبير جدّاً أنّ بلادنا لم تعتدْنا كما اعتدناها، لم تلمس بروحها حاجتنا إليها، لم تنصفنا في خسارتنا حين بدأت بوادر الهزيمة بالوضوح جليّةً على جبين حقولنا وأنهارنا وجبالنا وبحارنا ونفوسنا وكياننا.

بلادنا وحدها من يجب وصفها في هكذا واقع بالجاحدة، كيف لا وهي التي جعلتنا هائمين على وجوهنا شمال الأرض وجنوبها دونما راحة؟

خسرناها وخسرتنا بإدراك مخيف، ولا إنصاف في وصف الخسارات، كما أنّ العودة إليها حكماً خسارة مضاعفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image